خير جليس أ. د. عادل الأسطة - بسطات الكتب

ربما يذهب ذهن قارئ صفحات "أيام الثقافة" في جريدة الأيام إلى أنني سأكتب عن حلقات "بسطة كتابة" التي يقدمها الكاتب معن سمارة وزادت حلقاتها عن الثلاثين، وهي زيادة لافتة دفعت بالكاتب حسن البطل إلى إبداء رأي فيها أثار جدلاً يمكن نعته بأنه واسع. نعم، ربما يذهب ذهن قارئ الأيام إلى هذا، فثمة تشابه في العنوان "بسطات الكتب" وعنوان حلقات معن "بسطة كتابة". والتشابه في اللفظ يؤدي غالباً إلى تشابه في المعنى، كما يقول علماء اللغة. لكن ما في ذهني شيء مختلف اختلافاً كبيراً وإن تقاطع قليلاً، بل وقليلاً جداً مع بسطة معن التي يعرضها، من خلال صفحات الأيام، على القراء، علهم يقرأونها ويقبلون، من وراء قراءتها، على نتاج الكتاب الجدد. إنه يبسط نتاجهم في سوق الثقافة، كما يبسط بائعو الخضار والملابس، ممن لا محلات لهم، بضاعتهم على أرصفة الطرق وفي الأسواق، علها تروج. وقد كانت الكتب، من قبل، تبسط، أيضاً، على أرصفة الطرقات.
لقد تذكرت مؤخراً بسطات الكتب في نابلس وفي عمان وفي دمشق. ما الذي ذكرني بها، علماً بأنه الآن في نابلس لا توجد سوى بسطة كتب واحدة على دوار المدينة؟ خلافاً لما كان الأمر عليه في سبعينيات القرن العشرين؟ نعم لا توجد الآن سوى بسطة كتب واحدة، وإن كانت بعض المكتبات تعرض على الرصيف المحاذي لها بعض ما لديها من نتاج عرضاً يذكّر ببسطات الكتب!
كنت أحاضر في الطلبة عن البنيوية, وتحديداً عن معنى كلمة بنية، وقد توقفت أمام اقتباس (يوري لوتمان) الروسي - صاحب كتاب "بنية الشعر" (1962) - من (تولستوي) رأياً للأخير حول خاصية الأعمال الأدبية. ولما أوردت اسم الأديب الروسي (تولستوي) سألت الطلاب، وهم طلاب السنة الرابعة في قسم اللغة العربية، سألتهم إن كانوا قرأوا له شيئاً، أو إن كانوا يعرفون بعض أعماله. ولما لم يجيبوا، إذ لم يسمع به أحد منهم، ترحمت على أيام زمان وعلى بسطات الكتب، فمن هذه عرفت اسم (تولستوي) وقرأت بعض أعماله. كان ذلك في العام 1973 يوم كنت طالباً في قسم اللغة العربية. في تلك الأيام كنت كلما سرت في شوارع نابلس أو في شوارع عمان أمر ببسطات الكتب وأتوقف أمام ما تعرضه، أتصفحه، فقد اشتري كتاباً أو كتابين في الأسبوع، وما زالت بعض الكتب المشتراة في مكتبتي. وفي تلك الأيام قرأت رواية "البعث" لهذا الكاتب الروسي الذي وزع أمواله، يوم انتصرت الاشتراكية، أو قبل ذلك بقليل، على الفقراء، هذا الكاتب الذي حين كتب روايته "السلم والحرب" زار المواقع التي دارت فيها المعارك، قبل أن يكتب عنها.
وما زلت، كلما زرت عمان، أسير في شوارعها وأنظر في الكتب المعروضة على قارعة الطريق. فبسطات الكتب ما زالت مظهراً من مظاهر تلك المدينة، وإن تطور بعضها وغدا كشكاً، كما هو حال كشك أبي علي. الكتب في شوارع عمان ما زالت تعرض على قارعة الطريق، لكن الأمر كان في الشام مختلفاً، فحين زرت هذه في العام 1975 مرتين، رأيت الكتب معروضة على عربات، على العربة بسطة، وكان صاحب العربة يتجول من مكان إلى مكان، كما كان بائعو الخضار، في مخيمنا، يتجولون صباحاً ومساء عارضين الخضرة والفواكه. ما زال بائعو الخضرة يسيرون بعرباتهم، وإن تطور الأمر، إذ حلت سيارات الفولكسفاجن (الكابينا) محل العربات غالباً، فهل ما زال أصحاب عربات الكتب في الشام يبيعون الكتب المعروضة عليها أم أن تلك الظاهرة انقرضت؟
من خلال بسطات الكتب هذه عرفت، وأنا في الشام، بعض أعمال ماركس وانجلز ولينين، ولا أدري كيف خاطرت وأحضرتها معي إلى عمان، وقد دهش أحد أقاربي، وكان يومها نشيطاً في الجبهة الشعبية، من وجودها لدي، فاستعارها مني أنا الذي لم أكن يسارياً. ربما كان سؤال ضابط المخابرات لي في الرمثا غير واضح، أو لعلني فهمت غير ما قصد، فقد سألني إن كنت أملك كتب جنس أو تجنيس. كانت الكتب هذه ممنوعة في عمان، وقد ذهب ذهني إلى أنه يسأل عن كتب جنس، لا عن كتب تجنيس.
ومن خلال بسطات الكتب هذه اقتنيت مجلات "المعرفة"، و"الموقف الأدبي" السوريتين، ومجلة "الثقافة العربية" الليبية، وبدأت أثقف نفسي أدبياً، طبعاً إلى جانب مجلة "أفكار" الأردنية. هذه المجلات الآن ليست بحوزتي، فقد أودعتها اولاً في بيت خالة أمي، ثم أعطيتها لأحد أصدقائي الكتاب. (يا للفضيحة، حين أودعت هذه المجلات في بيت خالة أمي، نسيت فيها صور فتيات جميلات بالمايوه، كانت راقت لي فاحتفظت بها، وكان أن اكتشف الأمر، وكانت خالة أمي تظنني شخصاً تأكل القطة عشاءه، ولما فاتحتني بالأمر كانت تبتسم).
ومن خلال بسطات الكتب هذه اشتريت بعض روايات نجيب محفوظ الصادرة في حينه مثل "الكرنك" و"حضرة المحترم" و"اللص والكلاب"، واشتريت، أيضاً، رواية سحر خليفة الأولى "لم نعد جواري لكم" وما زالت هذه الأعمال، إلى جانب بعض أعمال توفيق الحكيم، في مكتبتي. ماذا أعدد من أسماء؟ مصطفى محمود والطيب صالح و.. و.. و.. كتب الجيب المصرية وكتاب سلسلة "اقرأ" وسلسلة "المكتبة الثقافية" وروايات الهلال.. ماذا أعدد؟
هل يفعل طلاب الجامعات, اليوم، ما كنت أفعله في حينه؟ ولكن السؤال الأصح هو: هل توجد في مدننا بسطات كتب مثل تلك تجلب الطلاب إليها؟ وهل الطلاب ملومون لأنهم لا يعرفون أسماء كتّاب كبار من خلال بسطات الكتب، فهذه أصلاً غير موجودة؟
حين فكرت بالكتابة عن بسطات الكتب لم أفكر بالكتابة عن "بسطة كتابة"، لكن تحيات رشا بواسطة أختها شذى جعلتني أخلط بين الأمرين. صباح الأربعاء 23/11/2010 أبلغتني شذى تحيات أختها رشا، وكنت كتبت قبل سنوات، في هذه الزاوية، دفتراً عنوانه "صباحات رشا". ورشا طالبة علّمتها في الجامعة وشجعتها على الكتابة، وكان أن فازت بجائزة على مستوى الجامعات العربية، واستمرت في الكتابة، ولما أبلغتني شذى تحيات رشا سألتها إن كانت رشا ما زالت تكتب، فأخبرتني أنها توقفت وأنها الآن ربة بيت. وسأتذكر بسطة معن الكتابية.
في اعتراض معن على تأييدي رأي حسن البطل طلب مني أن أقدم رؤية نقدية للكتّاب الشباب. طبعاً أنا من أنصار الرأي القائل: على كل جيل أن يوجد معه نقّاده. لكنني تعلّمت، أيضاً، ألا أراهن على كتّاب في بداية حياتهم، ذلك أن أكثرهم لا يواصل الكتابة، مثله مثل رشا، فهو يكتب هواية، والكتابة لديه ليست مشروعاً. سأتذكر فضل الريماوي ومفيد دويكات وزياد حواري و.. و.. و.. . لقد بدأوا يكتبون، ثم انطفأوا. ترى ماذا ألمّ بما كتب عنهم؟
يا لبسطات الكتب!! كم علّمتني، ولا أدري إن كنت سأقول: يا لبسطة معن الكتابية!

ليس بعيداً عن السياق: فتى الثورة
من هو فتى الثورة؟ وأنا أسير في شوارع دمشق أتصفح بسطات الكتب وعربات الكتب وقعت يدي على كتاب صغير الحجم يحوي قصيدة طويلة لشاعر لم يذكر اسمه، فقد كتب على غلاف ديوانه: فتى الثورة. وإن لم تخني الذاكرة، فقد كان لون الغلاف أبيض. اشتريت الديوان وأخذت أقرأه وأنا في بيت خالتي، وسأفكر في أخذه معي إلى الأردن، لولا تحذير ابن خالتي لي : في ذلك مخاطرة. وسأتركه في الشام، غير أني سأنقل بعض فقراته على صفحات كتاب للدكتور محمد التونجي عنوانه: بدر شاكر السيّاب والمذاهب الشعرية المعاصرة (دار الأنوار ـ بيروت، سلسلة مفكرون من الشرق والغرب، رقم 6، د. ت). وكلما أردت قراءة بعض ما كتبه فتى الثورة عدت إلى كتاب التونجي.
مرة فكرت أن أكتب عن صورة الملك في الشعر الفلسطيني، وكان لا بد من العودة إلى ديوان فتى الثورة، وسأسأل عن الشاعر أحمد دحبور، وقد ظننت لفترة أنه هو، فأخبرني أن فتى الثورة هو سعيد المزين، وآمل ألا تكون ذاكرتي ضعيفة، وقال لي إنني يمكن أن أجد الديوان لدى السيد المرحوم صخر حبش (أبو نزار)، ولكنني لم أسأل أبانزار، لأنني غضضت النظر عن الموضوع، لأنه مربك، وأخشى أن تسبب لي الكتابة فيه إشكالات أنا في غنى عنها، حتى لو حاولت أن أكون موضوعياً، ثم إن هناك من كتب في الموضوع.
وأنا أفكر في الكتابة عن بسطات الكتب عدت إلى كتاب التونجي. لقد اقتنيته في 13/12/1975. هذا يعني أنني يومها كنت في الشام. كتاب التونجي، أعني النسخة التي لدي، فيها صفحات بيض عديدة، وما زالت بعض فقرات فتى الثورة مكتوبة فيها بخط يدي. يا لبساطتي تلك الأيام! أأقول هذا أم أقول: يا لسذاجتي، يا لشجاعتي، يا لتهوّري، يا لحماقتي! ماذا لو فتّش الكتاب؟!
كنت يومها، خلافاً لهذي الأيام، أكتب بقلم حبر جاف. ما زالت أسطر فتى الثورة في نسختي من الكتاب. ماذا ألمّ بفتى الثورة؟ ماذا ألمّ بأشعاره؟ ماذا ألمّ بتلك الأشياء؟ ماذا ألمّ بنا؟ وسأتذكر حواراً بين م. درويش وراشد حسين: ـ هل تغيّرت؟ ـ تغيّرت ولم تذهب حياتي سدى. وأما أنا فأقول: ولم تذهب زياراتي سدى، ورحم الله فتى الثورة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى