د. محمد الشرقاوي - هل أنا كائن ميتافيزيقي تاهَ عن مسار العقلانية؟

كلّما كتبتُ عن منافسات كأس العالم وما تثيره من تأملات سياسية وسوسيولوجية في تفاعل دول الشمال مع دول الجنوب، وكلما تحرك وجداني ب"أدعية" الثلاثاء أو الخميس أو السبت لنصرة فريق المغرب، تتقارب في بنيتي الذهنية خطوط الواقعية والعقلانية من جهة وخطوط الوجدانيات والروحانيات أو الغيبيات من جهة أخرى. وقد أبدو متناقضا مع ذاتي أو أغدو مرّكبا من نسقين مختلفين لا يجتمعان عادة في كيان واحد.
يبدو أن القراء المتابعين ينقسمون إلى فئة غالبة العدد تتوخى المزيد من الكتابات الوجدانية، وتعتبرها فألا حسنا وأمارة فرحة مقبلة في زمن الشح في الانتصارات المعنوية، وفئة أخرى تفترض بقائي على خط العقلانية الصارمة بما يتماشى مع خطي في التحليل السياسي والكتابات الفلسفية. فكتب أحد المعلقين يقول "أستاذ الشرقاوي تبدو أكثر منطقية في تحليلاتك عبر القنوات التلفزية، ولكنك ليس كذلك عندما يتعلق الامر بأمور ميتافيزيقية. لو كانت هناك أدعية مستجابة لما صار احوالنا هكذا.."
إذن نحن في عمق الجدلية التاريخية بين العقل والقلب، وهل تفسير وجود الإنسان في هذا الكون رهين بهذين النسقين فقط، أم يمكن أن نفترض بعدا آخر، أو نسقا ثالثا لا، يقف عند عصمة أي من الأولين على فهم الإنسان لذاته. لذلك، أفترض أن ثنائية العقل والقلب، أو التقابل بين المنطق والعاطفة قد تكون تفسيرا عبثيا يكرس معضلة الباب الدوار، وتجعلني أميل إلى بعد آخر أو نسق ثالث، وهو الوجدان الذي قد يتوهج إلى المرتفعات وقد ينكمش إلى المنحدرات في سير الإنسان عبر التجارب والأحداث الكبرى.
هو الوجدان الذي يمنحنا قدرة التخيل، وشحنة العزيمة، وطاقة النضال، ومصدر الإرادة، وبوصلة الاجتهاد ما فوق حسابات العقل وما أبعد من تهالك ووهن العاطفة. وفي هذا الوجدان الذي أنطلق منه في حماستي وأدعيتي وآمالي بتحقيق فوز مغربي تاريخي في تاريخ المونديال، يتوافق في تفكيري وقناعاتي المسار العقلاني والمسار الميتافيزيقي دون تنازع صلاحيات أو اختصاصات بينهما. ومما يجسد هذا التوافق انفتاحي منذ زمن على نظرية الزخم Momentum theory الذي تمنح قوة نفسية وذهنية نحو طريق النجاح.
أعتبر نفسي تلميذا في دراسات القوة وما يغير علاقات القوة بين الأفراد والمنظمات والحكومات على مختلف المستويات. والقوة هنا ليس بالمعنى المادي فحسب، بل وأيضًا بالمفهوم السياسي والمعنوي والأخلاقي، وقرينة القوة بالفضيلة السياسية كما تحدث عنها سقراط وابن رشد وكانط وغيرهم.
وإذا شبكنا نظرية الزخم مع منطلقات القوة، يمكن أن نكوّن فكرة أفضل لماذا ينتصر الضعيف وينهزم القوي؟ ولماذا لا تستطيع القوة الحفاظ على أرجحيتها وهيمنتها عبر الزمان والمكان. وبالتالي، أستحضر الزخم الوجداني وربما الأدعية وكل ما لا يبدو عقلانيا في تركيبة الطرف الأضعف عند مواجهة الطرف الأقوى.
سألني أحد المعلقين "دكتور الشرقاوي، لو تفضلت وشرحت لنا ما سر النيّة، الكل يتحدث عن النيّة هذه الأيام،" فأجبت بالقول إن "الإشارة إلى "استحضار النية" في هذا السياق هو ترجيح كفة بعض الوجدانيات أو الزخم الروحي في الاستبشار وحسن الفأل بفوز المغرب. ولها مرجعية نفسية ودينية باعتبار أن "الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى". بعبارة أخرى، محاربة التشاؤم بأكبر قدر ممكن من التفاؤل وترك الأمور تسير على أعنتها."
حسب تجربتي، لا تتأتى القدرة على استنباط حدس أو رؤية أو قناعة استباقية إلا من خلال صدق الشعور الباطني وسكينة الذات في التمسك به. وقد يكون بمثابة جذبة وجدانية تتمالك الذات، وتأتي الفراسة من منطقة بعيدة في الصدق مع الذات. قال أحدهم "هذا الكلام لا ينبع الا من روح شديدة التفاؤل، وهذا نجده عند الصوفية المتميزين الذين عرفوا الله عن قرب."
لا أريد أن أنحاز إلى عقلانية محضة أو وجدانية صرفة. لكن سياقات ما أفكر فيه وما أشعر بها تلقائيا حسب المناسبات والتجارب لا يبقيني في خانة محددة، وهذا هو سر الوجود البشري بثلاثة محركات متوازية: عقل، وقلب، ووجدان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى