د. علي زين العابدين الحسيني - هشيم الماضي

في الأيام القادمة يجب أن تدرك أن تذكر الأحداث السابقة في حياتك سيفتح لك جروحاً جديدة، فالأيام تمر بصعوبات متتالية، حتى باتت ضغوطات الحياة تلاحقنا في كل شيء، هي مرهقة بكلّ تفاصيلها، تغوص مع بداية يومك في تزاحم الأفكار والأحزان، لا تشعر إلا بعمر قد بدأ يذهب، تحاول أن تتذكر تلك الأيام التي كنت تنجز فيها أعمالًا كثيرة لكن دون جدوى، يأتي الليل فلا تشعر بليل كنت تفكر فيه كثيراً أو تعمل فيه أعمالًا متعددة، فما هي إلا لحظات حتى تتفاجأ بضوء الشمس، أصبح الليل يمر كأنه لحظات وومضات لا تشعر به، لقد حدثونا في صغرنا أن الليل طويل يمكن أن تدرك فيه أشياء كثيرة، لكن صدمنا بهذا الليل الذي لا يفصلنا عن ضغوطات الحياة حين كبرنا، ليت الليل يتوقف معنا طويلًا، ذات صباح سألت صديقًا عن الساعة، فأجاب إجابة غريبة، أخبرني أنه لا يحب أن يعرف وقته، هو يحب أن يقطع يومه هكذا دون التفات للزمن، صار الرجل لا يهتم بالوقت، ولا يحب أن يحدثه عنه أحدٌ؛ محاولة منه للهروب من واقعه، فما هي إلا حياة تدعو بكل ما تحويها إلى الملل من وجهة نظره، حقًا ما الذي أوصل الناس إلى هذا العزوف الحقيقي عن معاني الحياة الحقيقية؟!
لا ريب أنّ الكلمات والأفعال المزعجة لك من ذكريات الماضي هي نفسها المسببة لكثير من أمراضك خصوصاً أحزانك، ففكر بكلّ جديةٍ أن تبوح بها لصديق، أو تكتبها في مذكرتك اليومية؛ لأنّ الاحتفاظ بها لمدة طويلة يجعل الحياة أكثر صعوبة، يجب مع كل يوم أن تتخلص من كل ما يحزنك، من كل ما يغضبك، من كل ما يعكر صفو ذهنك، فكر أن تعالج نفسك بالكتابة، داوِ نفسك بكثرة الكتابة حتى لو جاءت على صورة خواطر قصيرة، فإن لم تستطع فلا أقلّ من التشبع بالقراءة، فتراتيل الروح الحزينة تجدها لدى الآخرين منبثقة بين أسطر القصص والروايات، وفي كثير من الدول بدأوا يعالجون المرضى بالكتابة أو القراءة، فأنتَ في حاجة لوضع تلك المشاعر السلبية على صفحات الورق، فبمجرد خروجها من فكرك وقلبك ستجد راحة تشعر بها مباشرة، ما أشق العبء على كواهل أصحاب الذاكرة القوية الذين يتذكرون الماضي بكل تفاصيله، وما أشد هذا الماضي حينما يكون مملوءاً بكثير من الأحداث، فتتحرك هذه الأحداث وكأنها حاضرة حية في القلوب، فيعيش الحاضر بآثار الماضي، هذا هو الماضي الذي يبقى على ملامحنا وطوابعنا، وهو العدو الذي يجب الحذر منه والبعد عنه بالعيش مع الحاضر؛ لأننا لم نخلق إلا لحياة متجددة يجب أن تتجه فيها وجوهنا إليها، ولا ننعطف في كل خطوة نخطوها في درب حاضرنا إلى الوراء، والأيام تقتضينا أن نتجاهل ما فيها من عيوب ومساوئ؛ لننظر إلى محاسنها، ليس إلّا.
لكنّي أتساءل هل يمكن أن يوجد شخص يستطيع أن يتخلى عن الأحداث الشنيعة التي صادفته في ماضيه بكلّ سهولة؟! بالطبع لا يمكننا إلغاء الماضي أو الخروج منه، فلا ننكر تأثير الماضي على أفعال الحاضر، فالمرء مكون من أحاسيس ومشاعر ليس بإمكانه الهروب منها، لكن كل محاولاتنا هي أن نعرف حدود الماضي وأبعاده، فنوقفه عن التغلغل في حاضرنا، ونحاول أن نستبين طريق المستقبل دون تأثيرات سلبية علينا، فالذاكرة ليست الماضي فحسب، بل هي الحاضر والمستقبل أيضًا، وهي الراهن والمأمول والمفاجئ.

د. علي زين العابدين الحسيني
كاتب أزهري



* في جريدة "المهاجر" الورقية بأستراليا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى