أدب السجون د. محمد الشرقاوي - أيها الصّاحون إلى مغرب العجائب:

من أجل أن يتساوى الميزان بين السكرة والفكرة، بين حماسة الكرة المستديرة وتجليات الحقيقة البصيرة، ينبغي أن ننظر بتأنًٍ ورويةٍ إلى الوجه الآخر للعملة الرائجة هذا الشهر: انتصارات فريق المغرب في تصفيات كأس العالم في قطر.
نصفق ونهتف عاليا باسم حكيم زياش وهو يراوغ ويخطف الكرات ويصنع فرص التسجيل في شباك الخصم. لا ننسى أنه و13 لاعبا آخرين وُلدوا في دول أخرى ونشأوا بثقافات وجنسيات أوروبية. هم أبناء مغاربة هولندا وبلجيكا وإسبانيا، أو بالأحرى جلهم أبناء "الريافة" الذين تصنفهم بعض الجهات في الرباط، بحكم الأمر الواقع، إلى "الريافة النافعين" مقابل "الريافة غير النافعين"، إسوة بثنائية المغرب النافع والمغرب غير النافع" التي بشّرت بها الخطة السياسية للمقيم العام الفرنسي الجنرال ليوطي.
خطابية الاحتفاء الحماسي بزياش والمرابط وغيرهما من أبطال كرة القدم اليوم تختزل انتقائية "الريف النافع"، وإن جاءوا مستوردين من خلف الحدود من امستردام وبروكسيل وبرشلونة وباريس وبجوازات أوروبية. لكن الصورة تخفي مفارقة تستحضر أبناء الريف المحليين مثل ناصر الزفزافي، ونبيل أحمجيق، وسمير ليفيد، ووسيم البوساتي، وبقية المعتقلين بأحكام وصلت عشرين عاما في السجن.
قد يكون #زياش ابن عم #الزفزافي، وقد يحمل #المرابط نفس كرات الدم لدى #أحمجيق أو #البوساتي. وقد تكون أمهات زياش والمرابط وحكيمي المحتفى بهن اليوم في ملاعب الدوحة من بين "العالقات والعالقين الريافة" الذين منعتهم سلطات مطار الدار البيضاء من العودة إلى ديارهم في ربيع وصيف 2020 تحت إمرة شماعة الاحترازات الكورونية.
زياش والمرابط وبقية الأبطال أيضا أحفاد "ريافة" المغضوب عليهم منذ 1921 عندما نجح عبدالكريم الخطابي في فرض معادلة جديدة في ظل الاستعمار الإسباني لشمال المغرب. الفرق الوحيد أنهم فئة من ريافة الماضي اختاروا الهجرة إلى أوروبا لكسب قوتهم، ولم يديروا ظهورهم لا للريف، ولا للمغرب، ولا لآمال شعب بكامله في مونديال قطر وغيره من المناسبات التاريخية.
الوجه الآخر الذي لا يستسيغه أهل الحل والعقد في الرباط هو أن الزفزافي ورفاقه نادوا بتحقيق مقومات تنمية محلية: جامعة ومستشفى ومرافق حيوية تمنح الريافة المحليين القدرة على تحقيق ذواتهم، كما سمحت امستردام وبروكسيل وبرشلونة للريافة المهاجرين وأبنائهم وأحفادهم الفرصة لملاحقة أحلامهم وتحقيقها في كرة القدم ومجالات أخرى.
ثمة مفارقة أخرى تنمّ عن ازدواجية المعايير البئيسة: 14 من اللاعبين الأساسيين في فريق المغرب أوروبيون، وإن كان الخطاب الرسمي يعتبرهم "مغاربة" وأن عليهم التضحية بكل ما لديهم من أجل هذا المغرب الحالم. لكنهم وبقية الملايين الخمسة من مغاربة الشتات أو "مغاربة العالم" ممنوعون من التصويت في الانتخابات ومن أي مستوى من مستويات المشاركة السياسية.. هذه حقيقة تؤكد واقعيتها كل يوم، وكل شهر، وكل عام منذ سبعة عشر عاما، وإن جاء الخطاب الملكي بخلاف ذلك عام 2005، أو نص دستور 2011 على المشاركة السياسية بشكل معياري، لكنها تظل حتى الآن حبيسة الرفوف والتبريرات المطاطية.
لم تتحرك أي من المؤسسات التي تعنى بأوضاع "مغاربة العالم"، ولم تبادر الأحزاب على اختلافها، ولا ترتفع أصوات "ممثلي الأمة" داخل البرلمان في الرباط بتصحيح هذا الحيف المستدام في حق "مغاربة" ممنوعين من الاعتراف، وممنوعين من تصريف رؤاهم وإراداتهم في توجيه سياسة البلاد.
مشهد زياش والمرابط وبقية "مغاربة" النضال في جبهة المونديال يكشف المفارقة الثالثة عن حقيقة الخطاب المبشر بإشراك الكفاءات من الخارج. لكنه خطاب برّاق لا يكمل الدائرة، بل يعتمد منطق الانتقائية والميزان المكسور بأن يقدم مغاربة الشتات خبراتهم وتجاربهم ومدخراتهم المالية دون أن يسألوا عن المشاركة السياسية، وعن دورهم ككتلة تمثل 15٪؜ من مجموع الشعب، أو بقية مقومات الاعتراف المعنوي والمادي التي تعتمدها دول أخرى تعتبر الشتات رصيدا استراتيجيا حيويا في تحقيق التنمية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى