لاشك أن أهمية الدور الذي تلعبه عروض مسرح الشارع في نشر الوعي لدي المتلقي من خلال تنشيط الفضاء العمومي، لتفعيل الوظيفة النقدية من خلال خلق مجال حجاجي ،ونقاشي تتساوي فيه كل الأراء بهدف توعية وتبصير،وتثقيف المتلقي اينما وجد، ولتكوين رأي عام يمثل سلطة غير رسمية في مواجهة السلطة الرسمية التي تهيمن علي الشارع بوصفه فضاءاً عمومياً خاضعاً لسلطتها،وبالتالي فإن عروض مسرح الشارع في وطننا العربي تخضع لمحاولات المنع،وعدم المزاولة دون ترخيص مسبق من السلطة أو النظام السياسي المسيطر علي هذا الفضاء ،كما تخضع الي التوجيه الذي يحد من تفعيل الدور الهام للوظيفة النقدية،فمسرح الشارع مصطلح يتألف من مفردتين،هما "المسرح"،و"الشارع" فالمسرح مفردة تشير في أصلها التاريخي الي مكان للمشاهدة،او المكان الذي يستقبل العروض المسرحية،التي لم يعد هدفها الرئيس الترفيه سواء كان هادف للربح ام غير هادف للربح،إذ أن مشاهدة العرض المسرحي الراهن أصبحت تشكل لدي المتلقي وعي بأهمية الخطاب وجديته، فالمسرحيون أنفسهم، شكلوا سلطة على المتلقي، من خلال تحديدهم للإطار الفكري، والنظري للعرض المسرحي، ومن ثم التأثير في معارف، اتجاهات، وسلوكيات المتلقي من خلال الرسالة الاتصالية الناشئة عن العرض المسرحي،لكننا في وطننا العربي نجد أن هناك ثمة تداخل، بين المجتمعات التقليدية، ومفهوم الدولة الحديثة التي تستمد شرعيتها من بنية تقليدية، ونظام سياسي حديث، يعتمد على علاقات المحسوبية، والولاء للسلطة المركزية، ويشكل معطى لا يستهان به لدى وعي المتلقين، وتصورهم للنظام السياسي، وجوهره في توزيع المنافع على أصحاب الولاء، مما يكرس سلوك العزوف أو النبذ.
إن سلوك العزوف -أو نبذ المسرح من قبل المتلقين- وعدم ارتيادهم للعروض المسرحية التي تقدم داخل قاعات العرض المسرحي، أدى إلى خروج العرض المسرحي باحثًا عنهم في الفضاءات التي يتواجدون فيها، ليكتمل ثالوث العرض في علاقة جديدة، يتم خلقها مع المتلقي في فضاءه الخاص.
-لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن هو " هل عروض مسرح الشارع التي تقدم في وطننا العربي هي عروض لتنشيط الفضاء العمومي من خلال خلق المجال النقاشي الحجاجي المكون للرأي العام الغير رسمي ؟ام أنها عروض تأثرت بمفهوم المصطلح في التجربة الغربية دون مراعاة لطبيعة الفضاء العمومي العربي ؟
-لاشك أن المفهوم الغربي لمصطلح مسرح الشارع والذي لا يختلف في شتي التعريفات التي أقرته رغم استبدال صيغته اللغوية،يشكل مفهوم إصطلاحي ثابت ورد في معجم كامبريدج علي النحو التالي في تعريفه لمصطلح مسرح الشارع بأنه "العروض الفنية الغير هادفة للربح والتي تقدم بالقرب من أماكن المطاعم والحانات في الهواء الطلق "،
وهذا التعريف المعجمي للمفهوم الغربي لا يقصر عروض مسرح الشارع علي العروض المسرحية،او التمثيلية فحسب بل شمل جميع العروض الأدائيةالدرامية،وغير الدرامية كعروض الموسيقي،والرقص،وعروض الفنون التشكيلية،وبالتالي فالمفهوم الغربي يتسع لكافة فنون الأداء التي تستطيع خلق المجال الحجاجي النقاشي أو الفضاء العام وفق"يورجن هيبرماس"الفيلسوف الألماني الذي دعا الي خلق فضاء عمومي لتفعيل الوظيفة النقدية للمجتمع متبنياً شعار الدولة الدستورية التي تتيح لكل الأفراد مساحات متساوية في الحقوق والحريات مما شكل وعيا ديمقراطيا للمواطن الغربي .
لكن كيف تم خلق مثل هذا الفضاء العمومي،او هذا المجال النقاشي الحجاجي ؟
إن الإجابة علي مثل هذا السؤال تستدعينا أن نسترجع تجربة البرازيلي "اوغيستو بوال"في مسرح المقهورين والتي أستلهمها من "باولو فيراري " صاحب مشروع(مجتمعات التعلم )،وهو مشروع تعليمي، يسعى إلى التحول الاجتماعي، والثقافي، للمراكز التعليمية ومحيطها من خلال التعلم الحواري، مع التركيز على الحوار المتساوي بين جميع أفراد المجتمع، لإن عمليات التعلم، بغض النظر عن أعمار المتعلمين، تعتمد بشكل أكبر على التنسيق بين جميع التفاعلات، والأنشطة التي تحدث في أماكن مختلفة من حياة المتعلمين، مثل المدرسة، والمنزل، ومكان العمل، أكثر من التفاعلات والأنشطة التي تم تطويرها في فضاءات التعلم الرسمي، مثل الفصول الدراسية. على هذا المنوال، يهدف مشروع «مجتمعات التعلم» إلى مضاعفة سياقات التعلم والتفاعلات بهدف وصول جميع الطلاب إلى مستويات أعلى من التطور.
-ومما سبق استلهم "بوال"فكرة مسرح المقهورين
إذ يقول " في أشكال الفصل المسرحي التي يتأسس عليها الفضاء الجمالي والإبداعي للمسرحية التقليدية، أكثر من مجرد تقسيم مكاني شكلي، بل هو عزل للناس عن دائرة الفعل، وعن ممارسة (التغيير)، أي بتحويل المتفرج إلى متلقٍ دون إعطائه فرصة ممارسة التأثير المباشر على موضوع العرض المسرحي،"(د سامي عبدالحميد ،مسرح المقهورين أو المضطهد ،ص١٦٨،١٦٣)
- وهنا يعمل مسرح المقهورين، ويحاول كما يقول "بوال" أن يكون مرآة تمكن المتفرج أو المتلقي من التدخل، لتعديل صورة الحدث، لا مجرد النظر إليها، و تخلص تجربة "بوال" إلى العمل على بناء صورة للواقع كما يحللها، ويراها الجمهور بترتيبها من جديد، وتبديل ما يلزم، وكما يحلو لهم، فالمقهورون يصورون أنفسهم، ومشكلاتهم داخل الحل المسرحي الذي يعطونه للعمل المسرحي.
ومن هنا سعى "بوال" إلى إخراج المتفرجين من البقاء على هامش حركة النص إلى حيز الفعل، والتأثير الحقيقي من خلال صيغة حلقة نقاش الحل المسرحي، أو كما سميت (مسرح المنتدى) التي عززت التشابك بين الممثلين والمتفرجين في إنتاج العرض، فالمسرح برأي" بوال" هو نحن،لأننا جميعًا ممثلون، ولأن المسرح ليس بحاجة إلى جمهور ومنصة، بل إلى مؤدٍ ليكون قائمًا وموجودًا.
فهل نحن العرب لدينا مسرح يعبر عن "نحن"الراهن ؟في ظل مرحلة ما بعد الإنسانية التي نشهدها؟
-في دراسة للباحثة" نوران مهدي عبدالعزيز " كانت ضمن اصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته التاسعة والعشرين إذ تقول " لقد اصبحت الثقافة بارزة في عالمنا لدرجة أنها تنافس الطبيعة بإعتبارها المصدر الأساسي للتحديات التي تواجه الإنسان إذ تستوجب عليه أن يواكب هذه البيئة المتطورة في محاولة التكيف معها،لأن عقول البشر،واجسادهم تتأثر بالعوامل الخارجية،بمعني إذا كان مفهوم التفوق،والجهد يرتبط بالقدرات البشرية الخالصة،ففي مرحلة ما بعد الإنسانية يعاد استكشافه بما يتماشي مع وجود تقنيات حديثة قادرة علي الإلتحام بالجسد البشري وتعزيزه، لذا تعد ما بعد الإنسانية كسر لمرحلة الإنسانية حيث تعمل علي خلخلة القيم، والمفاهيم الإنسانية لذا تلجأ لمناقشة الثنائيات مثل العقل /الجسد،والإنسان/الحيوان ،الرجل/المرأة،.......كما تركز علي التطورات المستجدة في الحقل التكنولوجي وعلاقة الإنسان بالتكنولوجيا وتداخلها معه حياتياً، بمعني اننا بصدد جسد بشري هجين،يعزز قدرات وامكانيات الجسد البشري بما يتلائم مع الثقافة المحيطة التي سمحت للقوانين بالإعتراف بما يسمي "السايبورج "أو الأشخاص الهجين،او نصف الآليين، فبدلا من أن نعمل علي تغيير البيئة من حولنا سعينا الي تغير أنفسنا واجسادنا،فكلنا يمتلك لإستخدام أعضائه كيفما شاء" .(نوران عبدالعزيز ،خطاب الأجساد المهجنة،اصدارات التجريبي ٢٩،ص ٨٣،٨٢،٨٠،٧٩)
ومن هنا كان التركيز علي النفس البشرية بإعتبارها المكان الوحيد الذي يمكن أن يكون مسرحاً لأي أحداث مسرحية حقيقية،ومن خلال العرض الأدائي الذي يكتسب وجوده من خلال جسد المؤدي أو العارض الذي يجسد القضية الذاتية بالتعبير عنها أمام المتفرجين،وباختلاف الوسائل المستخدمة التي تساعد علي توصيل الفكرة من خلال تفريغ الجسد من محتواه المادي فيخلق حالة إنجذاب للعمل تجعل المتلقي يتابعه بشغف من خلال الدور الفعال الذي يقوم به جسد المؤدي في الفضاء الآدائي،ويلعب العرض الآدائي علي العلاقة التشاركية بين المؤدي،والمتلقي فلا يجعل دور الأخير مقتصرا علي التلقي السلبي،بل يخلق عبر هذه المشاركة حلقة من الأفعال التي ترتد بينهم،فما يرسله المؤدي من أفكار،او إشارات جسدية،قد يوافق عليها المتلقي ويقوم بالمشاركة معه في الأداء،او قد يعترض فيقوم بإنهاء أو تغيير مسار العرض بالكامل،ليوافق بذلك المؤدي فيتجاوب مع الجمهور بناء علي رغبته .
إن عملية تحول المتفرج هنا الي متفرج إيجابي أو مشارك في العمل ظهرت في بعض الحالات المسرحية عند "أرتو"،جروتوفسكي،واغيستو بوال " علي سبيل المثال لا الحصر .فالمتفرج في عروض "بوال "كان له الحرية المطلقة في التجول أثناء العرض لإختيار وضعية المشاهدة التي تتيح له هذه الحرية،بل كان له الحق في رفض أو تعديل النهاية التي يطرحها العرض ليكون التأثير مشتركاً وليس من جانب واحد في حلقة ترتد فيها الأفعال بين المؤدي والمتلقي في عملية مقايضة في الأداء يتبادل كل منهما وظيفة الآخر في العرض المسرحي .
-لكن هل تظل عملية المقايضة تلك في المستقبل المابعد انساني ؟
وتشير "نورهان مهدي عبدالعزيز الي "
إذا كانت الصراعات الآن صراعات ثقافية،او طبقية وإقتصادية فستكون في المستقبل هناك تقنية من يمتلك هذا التعديل الجيني ليكون مميزاً عن من ولد بطبيعته فمفهوم ما بعد الإنسانية للحرية يحمل طابعاً زائفاً إذ تضر بغايات الإنسان وطبيعته البشرية وتسمح للتقنيات بالطغيان والهيمنة والتحكم في تكوينه، ففكرة تحويل الاشياء الطبيعية الي ادوات مروضة،تحولت من فكرة حرية الفرد وتخلصه من هذه القيم الطبقية القائمة الي مجرد أدوات فتحول الفرد الي أداة وبالتالي لن يستطيع الإنسان التحرر من التقنية الا عن طريق تغيير مسارها خشية اندثار الهوية الإنسانية" .(المصدر السابق ،ص ٥٣)
لكن هل يمكن أن للتقنية المضافة بالجسد أن تشكل ثنائية جديدة بين البشري والآلي ؟
تشير الباحثة نوران عبد العزيز إذ تقول :-
"لقد أصبح وجود الاجسام المضافة في العروض الأدائية التي تتخذ من الجسد الهجين في مرحلة ما بعد الإنسانية محوراً أساسيا في العمل الفني إذ يعزز من حضور المؤدي،فبدلا من هيمنة المؤدي البشري في العروض الأدائية التقليدية تحولت الهيمنة هنا لهيمنة مضاعفة يشترك فيها الجسدان بل ساهم الجسم المضاف للجسد البشري في خلق ثنائية بين الجسد البشري /الجسد الآلي سواء كانوا في حالة صراع ام في حالة تمازج "( المصدر السابق ص١٤٢)
ويبقي السؤال عالقاً دوما هل يمكن السماح بقبول وجود أجسام تضاف الي الجسد البشري في وطننا العربي ؟هل يمكننا أن نري ممثل أو مؤدي مسرح الشارع بدلا أن يرتكز علي ساقين خشبيتين تعوق وتحد من إمكانيات جسده أن يستخدم تقنية متطورة تضاف الي جسده وتعزز حضوره ؟ام اننا مازلنا في مرحلة الإنسانية التي تحاول تجاوز الإنسان لحدوده وقدراته ؟ام اصبحنا لا انسانيين نرفض الإنسانية بمعاييرها الأخلاقية،والدينية بما فيها هيمنة الإنسان علي الطبيعة؟
إن هذه التسأولات تدعونا للوقوف علي مفهوم الهوية الإنسانية في وطننا العربي والشروع في ضحد أو تبني الهويات الجديدة التي عبرت إلينا عبر جسر الإستقطاب الثقافي،وفرزها بما يتلائم والبيئة المحيطة بنا،وايدلوجيات المتلقي العربي الذي مازال يسعي لإدراك لغة التعلم الحواري .
★★★★★★★
★المصادر التي استعان بها الكاتب :-
★★★★★★★★★★
- سامي عبدالحميد، "مسرح المقهورين، أو المسرح المضطهد".،العراق ،ص ١٦٨،١٦٣
-أوغيستو بوال، "ألعاب الممثلين وغير الممثلين"، ترجمة وليد أبو بكر، مسرح عشتار، ٢٠٠٥م.
-يوسف عيدابي، "أوجستو بوال، ومسرح المقهورين، المسرح كتمرين علي الثورة"، مجلة المسرح العربي، الشارقة، العدد1، ٢٠٠٩م.
- نوران مهدي عبد العزيز ،خطاب الأجساد المهجنة، إصدارات التجريبي٢٩ ،٢٠٢٢
أ د .سامح مهران ، "الظاهرتية من الفلسفة الي المسرح،اصدارات شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي٦،ص٨٥،٦١.
إن سلوك العزوف -أو نبذ المسرح من قبل المتلقين- وعدم ارتيادهم للعروض المسرحية التي تقدم داخل قاعات العرض المسرحي، أدى إلى خروج العرض المسرحي باحثًا عنهم في الفضاءات التي يتواجدون فيها، ليكتمل ثالوث العرض في علاقة جديدة، يتم خلقها مع المتلقي في فضاءه الخاص.
-لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن هو " هل عروض مسرح الشارع التي تقدم في وطننا العربي هي عروض لتنشيط الفضاء العمومي من خلال خلق المجال النقاشي الحجاجي المكون للرأي العام الغير رسمي ؟ام أنها عروض تأثرت بمفهوم المصطلح في التجربة الغربية دون مراعاة لطبيعة الفضاء العمومي العربي ؟
-لاشك أن المفهوم الغربي لمصطلح مسرح الشارع والذي لا يختلف في شتي التعريفات التي أقرته رغم استبدال صيغته اللغوية،يشكل مفهوم إصطلاحي ثابت ورد في معجم كامبريدج علي النحو التالي في تعريفه لمصطلح مسرح الشارع بأنه "العروض الفنية الغير هادفة للربح والتي تقدم بالقرب من أماكن المطاعم والحانات في الهواء الطلق "،
وهذا التعريف المعجمي للمفهوم الغربي لا يقصر عروض مسرح الشارع علي العروض المسرحية،او التمثيلية فحسب بل شمل جميع العروض الأدائيةالدرامية،وغير الدرامية كعروض الموسيقي،والرقص،وعروض الفنون التشكيلية،وبالتالي فالمفهوم الغربي يتسع لكافة فنون الأداء التي تستطيع خلق المجال الحجاجي النقاشي أو الفضاء العام وفق"يورجن هيبرماس"الفيلسوف الألماني الذي دعا الي خلق فضاء عمومي لتفعيل الوظيفة النقدية للمجتمع متبنياً شعار الدولة الدستورية التي تتيح لكل الأفراد مساحات متساوية في الحقوق والحريات مما شكل وعيا ديمقراطيا للمواطن الغربي .
لكن كيف تم خلق مثل هذا الفضاء العمومي،او هذا المجال النقاشي الحجاجي ؟
إن الإجابة علي مثل هذا السؤال تستدعينا أن نسترجع تجربة البرازيلي "اوغيستو بوال"في مسرح المقهورين والتي أستلهمها من "باولو فيراري " صاحب مشروع(مجتمعات التعلم )،وهو مشروع تعليمي، يسعى إلى التحول الاجتماعي، والثقافي، للمراكز التعليمية ومحيطها من خلال التعلم الحواري، مع التركيز على الحوار المتساوي بين جميع أفراد المجتمع، لإن عمليات التعلم، بغض النظر عن أعمار المتعلمين، تعتمد بشكل أكبر على التنسيق بين جميع التفاعلات، والأنشطة التي تحدث في أماكن مختلفة من حياة المتعلمين، مثل المدرسة، والمنزل، ومكان العمل، أكثر من التفاعلات والأنشطة التي تم تطويرها في فضاءات التعلم الرسمي، مثل الفصول الدراسية. على هذا المنوال، يهدف مشروع «مجتمعات التعلم» إلى مضاعفة سياقات التعلم والتفاعلات بهدف وصول جميع الطلاب إلى مستويات أعلى من التطور.
-ومما سبق استلهم "بوال"فكرة مسرح المقهورين
إذ يقول " في أشكال الفصل المسرحي التي يتأسس عليها الفضاء الجمالي والإبداعي للمسرحية التقليدية، أكثر من مجرد تقسيم مكاني شكلي، بل هو عزل للناس عن دائرة الفعل، وعن ممارسة (التغيير)، أي بتحويل المتفرج إلى متلقٍ دون إعطائه فرصة ممارسة التأثير المباشر على موضوع العرض المسرحي،"(د سامي عبدالحميد ،مسرح المقهورين أو المضطهد ،ص١٦٨،١٦٣)
- وهنا يعمل مسرح المقهورين، ويحاول كما يقول "بوال" أن يكون مرآة تمكن المتفرج أو المتلقي من التدخل، لتعديل صورة الحدث، لا مجرد النظر إليها، و تخلص تجربة "بوال" إلى العمل على بناء صورة للواقع كما يحللها، ويراها الجمهور بترتيبها من جديد، وتبديل ما يلزم، وكما يحلو لهم، فالمقهورون يصورون أنفسهم، ومشكلاتهم داخل الحل المسرحي الذي يعطونه للعمل المسرحي.
ومن هنا سعى "بوال" إلى إخراج المتفرجين من البقاء على هامش حركة النص إلى حيز الفعل، والتأثير الحقيقي من خلال صيغة حلقة نقاش الحل المسرحي، أو كما سميت (مسرح المنتدى) التي عززت التشابك بين الممثلين والمتفرجين في إنتاج العرض، فالمسرح برأي" بوال" هو نحن،لأننا جميعًا ممثلون، ولأن المسرح ليس بحاجة إلى جمهور ومنصة، بل إلى مؤدٍ ليكون قائمًا وموجودًا.
فهل نحن العرب لدينا مسرح يعبر عن "نحن"الراهن ؟في ظل مرحلة ما بعد الإنسانية التي نشهدها؟
-في دراسة للباحثة" نوران مهدي عبدالعزيز " كانت ضمن اصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته التاسعة والعشرين إذ تقول " لقد اصبحت الثقافة بارزة في عالمنا لدرجة أنها تنافس الطبيعة بإعتبارها المصدر الأساسي للتحديات التي تواجه الإنسان إذ تستوجب عليه أن يواكب هذه البيئة المتطورة في محاولة التكيف معها،لأن عقول البشر،واجسادهم تتأثر بالعوامل الخارجية،بمعني إذا كان مفهوم التفوق،والجهد يرتبط بالقدرات البشرية الخالصة،ففي مرحلة ما بعد الإنسانية يعاد استكشافه بما يتماشي مع وجود تقنيات حديثة قادرة علي الإلتحام بالجسد البشري وتعزيزه، لذا تعد ما بعد الإنسانية كسر لمرحلة الإنسانية حيث تعمل علي خلخلة القيم، والمفاهيم الإنسانية لذا تلجأ لمناقشة الثنائيات مثل العقل /الجسد،والإنسان/الحيوان ،الرجل/المرأة،.......كما تركز علي التطورات المستجدة في الحقل التكنولوجي وعلاقة الإنسان بالتكنولوجيا وتداخلها معه حياتياً، بمعني اننا بصدد جسد بشري هجين،يعزز قدرات وامكانيات الجسد البشري بما يتلائم مع الثقافة المحيطة التي سمحت للقوانين بالإعتراف بما يسمي "السايبورج "أو الأشخاص الهجين،او نصف الآليين، فبدلا من أن نعمل علي تغيير البيئة من حولنا سعينا الي تغير أنفسنا واجسادنا،فكلنا يمتلك لإستخدام أعضائه كيفما شاء" .(نوران عبدالعزيز ،خطاب الأجساد المهجنة،اصدارات التجريبي ٢٩،ص ٨٣،٨٢،٨٠،٧٩)
ومن هنا كان التركيز علي النفس البشرية بإعتبارها المكان الوحيد الذي يمكن أن يكون مسرحاً لأي أحداث مسرحية حقيقية،ومن خلال العرض الأدائي الذي يكتسب وجوده من خلال جسد المؤدي أو العارض الذي يجسد القضية الذاتية بالتعبير عنها أمام المتفرجين،وباختلاف الوسائل المستخدمة التي تساعد علي توصيل الفكرة من خلال تفريغ الجسد من محتواه المادي فيخلق حالة إنجذاب للعمل تجعل المتلقي يتابعه بشغف من خلال الدور الفعال الذي يقوم به جسد المؤدي في الفضاء الآدائي،ويلعب العرض الآدائي علي العلاقة التشاركية بين المؤدي،والمتلقي فلا يجعل دور الأخير مقتصرا علي التلقي السلبي،بل يخلق عبر هذه المشاركة حلقة من الأفعال التي ترتد بينهم،فما يرسله المؤدي من أفكار،او إشارات جسدية،قد يوافق عليها المتلقي ويقوم بالمشاركة معه في الأداء،او قد يعترض فيقوم بإنهاء أو تغيير مسار العرض بالكامل،ليوافق بذلك المؤدي فيتجاوب مع الجمهور بناء علي رغبته .
إن عملية تحول المتفرج هنا الي متفرج إيجابي أو مشارك في العمل ظهرت في بعض الحالات المسرحية عند "أرتو"،جروتوفسكي،واغيستو بوال " علي سبيل المثال لا الحصر .فالمتفرج في عروض "بوال "كان له الحرية المطلقة في التجول أثناء العرض لإختيار وضعية المشاهدة التي تتيح له هذه الحرية،بل كان له الحق في رفض أو تعديل النهاية التي يطرحها العرض ليكون التأثير مشتركاً وليس من جانب واحد في حلقة ترتد فيها الأفعال بين المؤدي والمتلقي في عملية مقايضة في الأداء يتبادل كل منهما وظيفة الآخر في العرض المسرحي .
-لكن هل تظل عملية المقايضة تلك في المستقبل المابعد انساني ؟
وتشير "نورهان مهدي عبدالعزيز الي "
إذا كانت الصراعات الآن صراعات ثقافية،او طبقية وإقتصادية فستكون في المستقبل هناك تقنية من يمتلك هذا التعديل الجيني ليكون مميزاً عن من ولد بطبيعته فمفهوم ما بعد الإنسانية للحرية يحمل طابعاً زائفاً إذ تضر بغايات الإنسان وطبيعته البشرية وتسمح للتقنيات بالطغيان والهيمنة والتحكم في تكوينه، ففكرة تحويل الاشياء الطبيعية الي ادوات مروضة،تحولت من فكرة حرية الفرد وتخلصه من هذه القيم الطبقية القائمة الي مجرد أدوات فتحول الفرد الي أداة وبالتالي لن يستطيع الإنسان التحرر من التقنية الا عن طريق تغيير مسارها خشية اندثار الهوية الإنسانية" .(المصدر السابق ،ص ٥٣)
لكن هل يمكن أن للتقنية المضافة بالجسد أن تشكل ثنائية جديدة بين البشري والآلي ؟
تشير الباحثة نوران عبد العزيز إذ تقول :-
"لقد أصبح وجود الاجسام المضافة في العروض الأدائية التي تتخذ من الجسد الهجين في مرحلة ما بعد الإنسانية محوراً أساسيا في العمل الفني إذ يعزز من حضور المؤدي،فبدلا من هيمنة المؤدي البشري في العروض الأدائية التقليدية تحولت الهيمنة هنا لهيمنة مضاعفة يشترك فيها الجسدان بل ساهم الجسم المضاف للجسد البشري في خلق ثنائية بين الجسد البشري /الجسد الآلي سواء كانوا في حالة صراع ام في حالة تمازج "( المصدر السابق ص١٤٢)
ويبقي السؤال عالقاً دوما هل يمكن السماح بقبول وجود أجسام تضاف الي الجسد البشري في وطننا العربي ؟هل يمكننا أن نري ممثل أو مؤدي مسرح الشارع بدلا أن يرتكز علي ساقين خشبيتين تعوق وتحد من إمكانيات جسده أن يستخدم تقنية متطورة تضاف الي جسده وتعزز حضوره ؟ام اننا مازلنا في مرحلة الإنسانية التي تحاول تجاوز الإنسان لحدوده وقدراته ؟ام اصبحنا لا انسانيين نرفض الإنسانية بمعاييرها الأخلاقية،والدينية بما فيها هيمنة الإنسان علي الطبيعة؟
إن هذه التسأولات تدعونا للوقوف علي مفهوم الهوية الإنسانية في وطننا العربي والشروع في ضحد أو تبني الهويات الجديدة التي عبرت إلينا عبر جسر الإستقطاب الثقافي،وفرزها بما يتلائم والبيئة المحيطة بنا،وايدلوجيات المتلقي العربي الذي مازال يسعي لإدراك لغة التعلم الحواري .
★★★★★★★
★المصادر التي استعان بها الكاتب :-
★★★★★★★★★★
- سامي عبدالحميد، "مسرح المقهورين، أو المسرح المضطهد".،العراق ،ص ١٦٨،١٦٣
-أوغيستو بوال، "ألعاب الممثلين وغير الممثلين"، ترجمة وليد أبو بكر، مسرح عشتار، ٢٠٠٥م.
-يوسف عيدابي، "أوجستو بوال، ومسرح المقهورين، المسرح كتمرين علي الثورة"، مجلة المسرح العربي، الشارقة، العدد1، ٢٠٠٩م.
- نوران مهدي عبد العزيز ،خطاب الأجساد المهجنة، إصدارات التجريبي٢٩ ،٢٠٢٢
أ د .سامح مهران ، "الظاهرتية من الفلسفة الي المسرح،اصدارات شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي٦،ص٨٥،٦١.