خالد جهاد - النصية.. تساؤلات الإنسان وحقيقته

تزخر آداب الشعوب ويحفل تاريخها على اختلافه بحكاياتٍ تنبع من بيئتهم وتعبر عن ثقافتهم وتحوي عصارة موروثهم، ويظل للعديد من التفاصيل التي قد لا يفهمها البعض من خارج تلك الثقافة رمزيةٌ خاصة ودلالةٌ هامة لدى أهلها، ولا شك أن هذه المعاني تنتقل من جيلٍ لآخر وإن كان ذلك يحدث اليوم بطريقة أقل وسط هذا الكم الهائل من التغيرات التي طالت العالم بأسره وسرعت اتجاهه بشكلٍ أكبر نحو النمط السريع والإستهلاك، فنلحظ حضور بعض هذه الأفكار ضمن الروايات أو من خلال الأمثال الشعبية أو عددٍ من الأعمال الفنية خاصةً الكلاسيكية منها حيث تتمحور الكثير من الأحداث حولها، وبطبيعة الحال كان بعضها يحقق نجاحاً كبيراً عند عرضه لكن المتلقي أحياناً قد لا يستوعب المغزى الذي يريد الكاتب أو صناع العمل إيصاله لما هو أبعد من اللحظة الحالية وقد لا يتصور أنه يحمل رؤيةً أو تصوراً لمراحل قادمة بناءاً على قرائتهم للواقع واستشرافهم لما سيحدث، ومن المؤكد أن بلادنا جميعاً مرت بالكثير من الأزمات كما شهدت الكثير من التغيرات والتي تناولتها مختلف وسائل الإعلام والأعمال الفنية بمستوى متفاوت يتحكم في نجاحها التوقيت وطريقة تناول المواضيع أو معالجتها، حيث بتنا نرى اليوم على الأغلب هوةً سحيقة بين الأزمنة والأجيال والمراحل وهو ما يشبه بتر جزءٍ من الصورة التي تجسد الواقع، كما أصبح هناك نوع من الإبتعاد عن الجذور والهوية والتفكير بصورة فردية حتى في تفاصيلنا البسيطة وهو ما ساهم بقوة في اعتلال الرؤية الذي نعيشه حالياً، حيث أصبحنا نقدم الحكايا من زاوية كلٍ منا دون محاولة سردها بحياديةٍ وموضوعية كما هي أو بصورةٍ أقرب لفهم الجميع وشعورهم..

وتظل الزاوية الإجتماعية هي الأكثر غنىً كونها تشرف على المشهد من مختلف الزوايا وتحمل أكثر من بعدٍ ومنظور وقراءة له، ولذلك نستذكر اليوم بعد مرور أكثر من ربع قرن أحد أهم أعمال الدراما السورية وهو مسلسل (النصية) الذي تحدث باكراً عام ١٩٩٧ عن العديد من المؤشرات التي تشير إلى تغير بنية وتكوين وثقافة المجتمع الدمشقي والسوري، وهو ما ينطبق على الكثير من مجتمعاتنا من ناحية المبدأ وملامسة الحقيقة وسلوك الناس وأدى إلى جزء كبير من ما نعيشه حيث لا تنفصل الأحداث عن بعضها، وأفهم الآن استغراب القارىء من العودة إلى عمل درامي منذ سنوات طويلة وقد لا يعرفه عدد من القراء، ولكنني ومنذ عرضه للمرة الأولى لم أجده مجرد مسلسلٍ عابر وكنت أعرف أنني سأعود إليه مع تقدم العمر، حيث تشبه استعادة أحداثه فكرته الرئيسية فالمسلسل مختلف ومتميز من حيث الكتابة والإعداد والتركيبة بدءاً من الموسيقى التصويرية مروراً بإختيار الممثلين وأماكن التصوير ومفردات الحوار والنماذج التي تقدمها الشخصيات وحتى التحولات المتعددة التي تعيشها كل شخصية بحيث تخلق حالة من الصدمة التي تؤدي إلى الإهتزاز في ثوابتها ومبادئها وحتى عواطفها وموقفها من أقرب وأحب الناس إليها، وهو ما يبدو أنه يكبر ككرة الثلج وسط حالة من التربص والخوف ودخول مفردات جديدة براقة ومخيفة على قاموس الحياة اليومية تدفع الجميع إلى الشك في كل ما حولهم من أشخاص وظروف وملابسات، وحتى الشك في صدق ونقاء ما تركه الأحبة، ونعيش عليه كأمرٍ مسلم به وكملاذٍ يتجسد في شخصية الوالد الراحل وإرثه في النصية والعلية المليئة بالكتب والتاريخ والتراث والأصالة والمال أيضاً..

الوالد الذي تم تقديم دوره ببراعة شديدة (رغم عدم ظهوره) كحالة روحانية تتجلى في صوتٍ يختصر الضمير وينثر الحكمة والدفىء ويبدو كجسرٍ يصل بين الماضي المجهول والحاضر الذي يتسم بالغموض الشديد، فيقوم بتوجيه قريبته الفتاة الجامعية المؤمنة بالمعرفة والجذور وابنته التي تحمل نزعةً فطرية للغيبيات وتؤمن بنقاء مبادىء والدها رغم سلبية الظروف والأشخاص من حولها من خلال رسائل غامضة تشبه الأحلام لتنبيههم من أفكار المحيطين بهم، وأهمها سعي والدتها الدائم إلى حياة جديدة عصرية باذخة ومرفهة وإن كان ذلك على حساب الكثير من القيم التي آمن بها زوجها الراحل، وهو ما سيتطور إلى ظهور عدة وجوه جديدة لمعظم الشخصيات ولتتبدل الإنطباعات المبنية لدى المشاهد عنهم إلى النقيض أحياناً..

كما أن الطريقة التي نسج بها المسلسل جعلت من الأماكن أيضاً شريكاً أساسياً في الدراما بحيث لا تقل أهميتها وقيمتها المعنوية عن أداء الممثلين كما تبنى الكثير من الأحداث على وجودها والعودة إليها وهو جزء من طبيعتنا البشرية، فنحن نتحدث عن مرحلة سبقت ما عرف (بالإنفتاح) وتجسد هذا التحول في أوضح صوره من خلال (المشاريع) القائمة على تحويل البيوت الشامية القديمة والمتفردة بجمالها إلى (مطاعم سياحية) تصبح محط أنظار الكثيرين وأطماعهم ويلتقي فيها العديد من أبناء المجتمع من مختلف الطبقات، فيتحول البعض داخل جدرانها من دور الضحية إلى الجلاد أو العكس، وأحياناً يتناوب البعض على كلا الدورين ولا يظل بمنأى عن هذه الدوامة سوى من اختار مبادئه منذ البداية ورفض مجاراة (متطلبات العصر) التي ابتلعت الجميع دون أن تبقي شيئاً لأحد وهو ما يؤكد على ارتباط تغير المجتمع تبعاً لتغير الأماكن التي تجسد قيمةً معنوية كبرى..

ومن خلال أغلب الشخصيات التي قدمها هذا العمل وكان لكلٍ منها توظيفه أو ضرورته نجد أن الكثيرين كانوا بعيدين عن الخطيئة (شكلياً) رغم وقوعهم فيها بشكلٍ أو بآخر، سواءاً كان ذلك من خلال التزام الصمت نحو كل مظاهر الفساد من حوله حفاظاً على مصالحه وعلاقاته، أو كان ذلك من خلال (مجاملة) الفاسدين أو العمل معهم اعتقاداً منه أنه (لن يتلوث أو يصبح مثله)، ويمكننا القول بأن هذا العمل يجسد الصراع بين العديد من وجهات النظر التي تنظر إلى الماضي أو الحاضر ككتلة واحدة أو من منظور معين وهو غير صحيح، فتقديس الماضي والوقوف عنده قد يعيق حياتنا ويمنعنا من التقدم لكن التنكر له وقطع العلاقات معه ومحاولة تشويهه كتبرير للإنغماس في نمط جديد للحياة حتى وإن لم يكن يناسبنا أو يناقض قناعاتنا هو جريمة، ولذلك ظلت النصية أو العلية جزءًا أساسياً من تركيبة البيوت وأحد شروط العروس سابقاً لإتمام الزيجة في مختلف بلاد الشام على مدار قرون لأنها تمثل المرجعية الآمنة والأصالة وليست مجرد مخزن لما يفيض عن استخدامنا اليومي كما تمثل حالة من الإستقرار النفسي والإجتماعي، وتزامن بدء الإستغناء عنها مع بداية تغير تركيبة المجتمع وثقافته وأفكاره وتطلعاته وطريقة تقييمه للأمور وحكمه عليها، ونظرته لكل ما يختلف عنه وتحديده لمعايير النجاح والتفوق والتطور والذكاء والسعادة، وحتى لمعايير العاطفة والحب والدفىء والترابط والمشاركة والجمال، كما ارتبطت بزعزعة مفهومي الإخلاص والإنتماء بمعناهما الواسع سواءاً كان ذلك لفكرة أو شخص أو مبدأ أو مكان أو شعور أو وطن وتنامي مشاعر الغربة والخوف مكانهما..

وحتى على صعيد الصورة كانت التفاصيل التي يراها المشاهد لطريقة تأثيث المنازل طبيعية جداً وتشبه أغلب البيوت وهو ما أضفى مصداقيةً على العمل، إلى جانب أمرٍ هام يتمثل في طبيعة اختيار الممثلين حيث كانت أيضاً موفقة لتشابهها مع تلك المرحلة التي سبقت التحولات في الشارع السوري على مختلف الأصعدة، حيث شكل الممثلون مزيجاً بين الجيل المؤسس وجيل الوسط أو الجيل المخضرم الذي تعلم من الجيل الذي سبقه واستفاد من خبرته وكون شخصيته الخاصة وأدائه الذي تغلب عليه التلقائية والموهبة الخالصة ورغم ذلك لم نرهم بقدر ما تمنينا لأسباب كثيرة من أهمها (الشللية) خاصةً وأن ما قدموه هو الأكثر واقعيةً وقرباً من الناس وما يشبههم فعلياً، ولا يعني الحديث عن الشق الإجتماعي إهمال الحديث عن النواحي السياسية والإقتصادية وتأثيرها على الناس بشكلٍ مباشر، لكن تغيرات الإنسان وتعامله مع مختلف الظروف من حوله وردة فعله تجاهها خاصةً وإن كانت عكس ما يؤمن به تقودنا إلى الكثير من الحقائق التي قد نقضي أغلب سنوات حياتنا بحثاً عنها دون أن ندرك أننا كنا نبحث في المكان الخاطىء، فالإنسان هو الأساس والحكاية وهو كالنصية وجهان لعملة واحدة حيث تبدأ الأسئلة معه وتنتهي الأجوبة به..

خالد جهاد..

المسلسل من تأليف فؤاد شربجي وإخراج غسان جبري، التأليف الموسيقي كريم كبارة ومن بطولة منى واصف، خالد تاجا، عباس النوري، مرح جبر، حاتم علي، ليلى عوض ، لينا حوارنة، سليم كلاس، وفاء موصللي، جهاد سعد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى