كرة القدم فاروق وادي - "واحد ـ صفر"

أعترف أنني عشتُ، على امتداد الأسابيع القليلة الماضية، خارج التاريخ، أو في أحسن الحالات، على هامشه. وربما خارج الجغرافيا الكونيّة، أو على أطرافها. فأنا، وأقولها بخجلٍ وتردُّد، لم أتمكن من مشاهدة أيّ من مبارايات مونديال 2010، حتّى الآن، وقد اكتفيت بسماع أخبارها، دون استثناء، أثناء متابعتي لأخبار ما يجرى على الجبهات الأخرى من الحروب الكونيّة غير النظيفة، على "الجزيرة" (غير الرياضيّة).
لم تكن مسألة تقصيري تعففاً عن المشاهدة، أو انطلاقاً من مبادئ أيدولوجيّة راسخة ترى أن كرة القدم هي أفيون الشعوب.. أو رجس من عمل الشيطان يقتضي اجتنابه!
فالحقيقة، أنني استسلمت لقناعة أن حالات اليأس والإحباط التي تلم بنا، تجعلنا، أحياناً، أحوج ما نكون لمثل هذا المخدِّر الذي يستلبنا من أنفسنا ومشكلاتنا. لكن الحقيقة، أيضاً، تقتضي الاعتراف بأن اهتماماتي الرياضيّة ليست متمكنة وضاربة الجذور في وعيي ووجداني. فهي تقتصر على المناسبات الكبرى، مثل المونديال وكأس الأمم الإفريقيّة تحديداً، حيث يسهم طوفان الحمّى الاجتماعيّة التي تصيب الجميع، إلى زجي بها، بإرادة مسلوبة الإرادة.
ويكفيني أن أتذكّر الآن، لحظة عشتها أوائل هذا العام في القاهرة، عندما اخترتُ موعداً لاجتماع صدف أنه تقاطع مع توقيت إحدى مباريات كأس الأمم الإفريقيّة، التي لم أكن قد انتبهت إليها حتّى ذلك الوقت. في ذلك المساء، كانت المدينة تشبه يوم الحشر. ما بين حيّ الزمالك وميدان التحرير وسط القاهرة، كان ثمّة ازدحام مروري يتوقف فيه الزمن، ما يدفع العارفين ببواطن القاهرة لأن يلتفوا على الاختناق من طرقٍ جانبيّة وبجنون منفلت في قيادة مركبات تريد بلوغ أماكنها قبل بدء مباراة كانت ساعتها قد ازفت. أبلغني سائق التكسي، بعصبيّة ونفاذ صبر، من أنه لن يتمكن من دخول شارع طلعت حرب، وقذفني على أطراف الميدان الشاسع. وفي المسافة بين التحرير وشارع شامبليون الموازي لطلعت حرب، حيث مكان الاجتماع، كنت مثل "حارس المدينة الضائعة" في رواية إبراهيم نصر الله، أمتلك المدينة وحدي. فجأة اختفى البشر، تلاشى الازدحام، انسحبت الأضواء من الشوارع، عمّ الصّمت، وغمرت العتمة كلّ الزوايا والتفاصيل. فأدركت حينها أن عليّ، بعد الآن، أن أكون في مستوى القاعدة، فأتابع المباريات حتى يتبيّن خيطها الأبيض من الخيط الأسود.
في المونديال الأخير، لم أوفِّر جهداً لأن أكون في المستوى نفسه. مبدئياً، لا تغويني الكرة إلى الدرجة التي تجبرني على أن أسهم، بقروشي القليلة، في غنى أغنياء الأمّة وإفقار فقرائها، عبر دفع اشتراك باهظ يبيح لي مشاهدة المباريات، كمواطن عربيّ صالح يزيد الأثرياء العرب ثراء والنفط اشتعالاً. لذلك، فقد حاولت ممارسة سرقة مشروعة لقنوات البثّ الرياضي لمباريات كأس العالم، على اعتبار أن فقهاء الإفتاء الذين يظهرون على قنوات الدين النفطي نفسها، أفتوا بحرام السرقة لما يُطلِق عليه المصريون "حرامي الدِّش"!
وبما أن حرام إفتائهم بيِّن الأسباب، وحلال إفتائنا بيِّن النتائج، فلم أتردّد في البحث عمّن يعينني على السّرقة، ويفكّ التشفير بتراب المصاري. غير أنني لم أعثر على من يفعل ذلك، وأخذت المباريات تتوالى الواحدة بعد الأخرى. في البدء تداعى التمثيل العربي في المونديال في الساعات الأولى لانطلاقها، رغم الاستبسال في حروب الأخوة الأعداء للوصول إلى جنوب إفريقيا. ثمّ تتالت "الجزيرة" علينا بأخبار الهزائم. وكان يكفي لأيّ فريق في العالم أن أمنحه عواطفي ودعواتي عن بُعد، حتى تردني أنباء هزيمته. وعليه، فقد آثرت أن لا أرى الهزائم بأمّ عيني.
وكانت آخر الهزائم المؤلمة، التي وردتنا أنباؤها على هذا الصعيد، خسارة البرغواي أمام إسبانيا. ورغم أنها هزيمة لم تتعدّ الـ "واحد ـ صفر"، وقد حلّت في الدقائق الأخيرة للمباراة، إلاّ أنها مثّلت خسارة قاسية لرجال الكون الطامحين في فوزٍ لا يشبهه فوز، والمراهنين على تحقيق "وعد لاريسا ريكويلم"، عارضة الأزياء الساحرة التي وعدت عشّاق كرّة القدم وعشّاق التلصص المعولم على الأجساد الباذخة، بخلع ملابسها الداخليّة إذا ما فازت البرغواي. وعليه، فإن الواحد صفر تلك، كانت من أقسى هزائم المونديال على الذكورة الطامحة بتلصص الملاعب!
الآن، وأنا أكتب هذه السطور، اكتشفت أن من قادتهم التصفيات إلى المباريات النهائيّة، لم يعودوا يعنوني عاطفياً، أو بمقتضى أيّ دافع آخر، "لاريسي" أو "إيروسي".. أو غيره. وأنني إذا ما عثرتُ على مبارياتهم بمشاهدات مجانيّة وفي أوقاتٍ نافلة، فقد لا أتابعها بعد كلّ هذا الانقطاع، لأنها ستكون مباريات منزوعة الدّسم من أيّ نوع، وربما تكون قد حلّت بعد الأوان.
في الصيف، ضيّعتُ الكُرة!
أمّا الذين يؤثرون مثلي مشاهدة فيلم سينمائي على مشاهدة مباراة بكرة القدم، فأنصحهم بمشاهدة فيلم مختلف، ينأى ولا ينأى عن عالم الكرة، وهو من صنع نسائيّ بامتياز، تأليفاً وإخراجاً.. وهموماً، وعنوانه يلتقي مع نتيجة المباراة التي خسرنا فيها وعد لاريسا ريكويلم: "واحد صفر"ّ!.


فاروق وادي
2010-07-09

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى