شوقي عبد الحميد - بهاء طاهر الذى عرفته

عرفت بهاء طاهر منذ نهايات الستينيات من القرن الفائت، عندما كان يقدم برنامج “مع المستمعين” بإذاعة “البرنامج الثاني” والذي تغير اسمه الآن ليصبح “البرنامج الثقافي”. حيث كنت أرسل له محاولاتي البدائية (كما رأيتها فيما بعد) ولا أذكر أن رسالة واحدة أرسلتها له وتجاهلها. وكان يعلق عليها بأستاذية وحنو كبير في ذات الوقت.

وبعد أن جئت القاهرة، للدراسة الجامعية، عرفت طريق الإذاعة، ورحت أتردد عليه بها، وما من مرة أزوره فيها إلا وأجد عنده أكثر من اسم من الأسماء التي كنت أراها نجوما بعيدة، وما من مرة إلا ويقدمني إلي ضيوفه بما يجعلني أتلفت حولي وأتساءل: هل يتحدث عني أنا؟ فقد كنت أراه يتحدث عني بما أري نفسي معه كما لو كنت نجما في عالم الكتابة. ولأكتشف فيما بعد أن هذه هي طبيعة الرجل، وإيمانه بتشجيع الشباب، وبعث الأمل فيهم. وتبين ذلك، حين تبرع ببناء قصر ثقافة الأقصر، “قصر ثقافة بهاء طاهر”، وأيضا بتخصيص جائزة سنوية باسمه أيضا للكتاب أبناء مسقط رأسه – الأقصر – يشرف عليها إتحاد كتاب مصر. لينضاف إلي تشجيعه للشباب وإيمانه بهم، إيمانه بالأرض والنشأة، وما انعكس في كل أعماله من رؤية للوطن الذي تألم بآلامه، وسعي ليحدد أوجاعه، أملا في رؤية تنويرية تضئ لمستقبل أفضل، كما يتمناه، ونتمناه له.

وزيارة من تلك الزيارات انزرعت في مخيلتي، وستظل، تعلمت منها، وأوضحت أن هذا الرجل، صادق مع نفسه، وأنه إنسان. حيث كان بهاء طاهر قد أصدر أولي أعماله الإبداعية، مجموعته “الخطوبة” في العام 1972. وبالطبع تلهفتها، وقرأتها، وتصورت نفسي ناقدا، حيث كان الدكتور رشاد رشدي قد نشر لي بعض المحاولات النقدية في مجلة المسرح، فكتبت ما تصورته نقدا لمجموعة بهاء طاهر. ونشره لي – أيضا – دكتور رشاد رشدي في المجلة الوليدة –حينئذ – “الجديد”. ثم كانت زيارتي التالية لبهاء طاهر بعدها، وكان في زيارته حينها “إدوار الخراط”. وكعادته يقدمني له الأستاذ بهاء، وما كاد إدوار الخراط يسمع الإسم حتي انهال عليَّ هجوما وتعنيفا، إذ : من أنت حتي تكتب عن بهاء طاهر، أنت لا تستطيع فهم ما يكتبه بهاء طاهر، حتي شُل لساني ولا أعرف كيف أرد علي إدوار الخراط وأنا مجرد طالب بالجامعة، ثم لقد تصورت أنني أرد بعض الجميل لأستاذي بهاء طاهر. إلا ان موقف بهاء طاهر حينها وضعني في أسر هذا الرجل من حينها، فقد أخذ يدافع عني، وأن هذه رؤيتي وأنا حر فيها، ويبحث عن شئ جيد في المقال يدافع به عني. فعرفت كيف يكون المبدع إنسانا، ويكون صادقا مع ما يؤمن به، ويكرره في كل محفل، علي الرغم من الخصومات التي نالتني – فيما بعد – ممن كتبت عنهم، حتي لو كانوا هم من طلبوا مني إبداء الرأي في عملهم.

إلا أن هذا الموقف الذي انحفر في جوانيتي، كان دافعا لإعادة قراءة “الخطوبة” لأكتشف أن كتابة بهاء طاهر، رغم بساطتها الظاهرية، إلا انها تحمل ما لا يجب أن يتسرع المتلقي في الحكم عليها، وأن عليه البحث عن عديد الرؤي، والاتجاهات التي يُلمح لها دون أن يصرح، وأن هذه البساطة – الظاهرية- ما هي إلي شرك يستردج به بهاء طاهر القارئ، علي كافة مستوياته الثقافية، حتي يبثه رسالته الممزوجة بالبساطة. وبعد القراءة الثانية، وتكشف ما كان قد خبا عني في القراءة الأولي، حاولت تصويب رؤيتي بالدراسة عن المجموعة والتي ضمنتها كتابي “البواكير في القصة المصرية القصيرة” والذي يتتبع التسلسل الرأسي لكتاب القصة القصيرة في مصر من خلال مجموعاتهم الأولي. وهو عين ما حاولته – أيضا- بالنسبة لرواية “واحة الغروب” بإعادة ما كتبته عنها في كتاب “مصر بين ثورتين .. مسيرة روائية” بإعادة توسيع الرؤية لتشمل العوامل والعوالم المشتركة بينها وبين “أنا الملك جئت” في مجموعته التي تحمل ذات العنوان، والتي سعيت من خلالها، تحديد السمات المشتركة بين أعمال بهاء طاهر، والتي من خلالها أدعي أنه يمكن تحديد الصفات الشخصية لبهاء طاهر، الإنسان، إيمانا بأنه ما من عمل إبداعي إلا ويحمل شيئا من المبدع ذاته، وأن شخصيته، ورؤيته، لابد تنعكس علي إبداعه الذي يمكن للقارئ أن يستشفها منها. وقناعة أيضا بأن الرواية- بصفة خاصة – هي المؤرخ الحقيقي والصادق للمجتمعات في فتراتها الإبداعية. والتي منها أستطيع القول بأن رؤية إبداع بهاء طاهر هى رؤية جيل كامل، اسمه جيل الستينيات، وهو الجيل الأكثر تأثيرا من أي جيل آخر، فقد صنع ثورة إبداعية، وظل تأثيرهم لفترة طويلة، ورؤيتهم لتلك المرحلة في تاريخ مصر الستينيات والسبعينيات، والتي لم يختلفوا عليها وحدهم، وإنما إختلفت رؤية المجتمع ككل لكل من العقدين وما جري بهما من تغيرات سياسية جوهرية، كان لها كبير الأثر علي الحراك فيما بعدهما. وإن تميز بهاء طاهر عن الكثيرين الذين تناولوا العقدين بأعمالهم، الذين صبوا كل السوءات علي عقد السبعينيات، متغافلين عنما كان في عقد الستينيات، حيث لم يغفل –بهاء طاهر- ذلك العقد، ويعفيه من المسئولية، منذ بدايته الروائية. فهو وإن كان في أولي تلك الأعمال “شرق النخيل” قد عالج (السلام والاستسلام) الذي يرمي به عقد السبعينيات، وفي ثانية هذه الأعمال “قالت ضحي” تناول الفساد والرشوة التي يُرمي بها أيضا عقد السبعينيات، فإنه لم يغفل ذلك السوس الذي نخر في بناء الستينيات، من داخل المنظومة نفسها، ثم في روايته الثالثة “خالتي “صفية والدير” يبرزها واضحة بتأثير النكسة التي أدت إلي التفسخ والسعي نحو السياسة التجارية، الساعية للربح السريع. وتتغلل تلك الرؤي عبر ما تبع هذه الثلاثية من أعمال روائية.

غير أن الحديث عن بهاء طاهر، كأحد أبناء ذلك الجيل، يأتى لتفرده من جانب، إضافة إلى أهم صفات كتابة ذلك الجيل، والتى تتمثل فى:

الشخصيات المُحبطة

ونستطيع تفسير ذلك الإحباط إذا علمنا أنه بقدر الأمل.. يكون الفرح أو الصدمة. وقد حلم هذا الجيل كثيرا بما أعلنه الضباط فور القيام بحركتهم في 1952، غير أن الآمال كانت مخيبة. وهو ما أكده بهاء طاهر في واحدة من أولي رواياته “قالت ضحي” حيث يوضح ذلك الإحباط في: {كنا أنا وحازم في المدرسة الثانوية وكنا نشطين جدا في المظاهرات. نكره كل ظلم: الإنجليز الذين يحتلون البلد، والملك الذي يبيع البلد للإنجليز والباشوات الذين يقتسمون البلد مع الملك ومع الإنجليز……. ولما جاءت الثورة .. فرحنا. قلنا تحققت كل الأحلام.. سيخرج الإنجليز … سيتحقق العدل فلا يعيش ناس في بيوت كالجحور تملؤها القذارة ويملؤها المرض……….. ولكننا رأينا ملوكا جددا وباشاوات جددا يريدون أن يستولوا علي البلد التي كنا مستعدين أن نفقد أنا وحاتم حياتنا من أجلها. ….. واجتمعنا أنا وحاتم مع بعض أصدقائنا القدامي وقررنا أن نقوم بمظاهرة كما كنا نفعل قبل الثورة لكي نطلب الحرية….. ونحن نردد الهتافات التي كنا نرددها أيام الثانوية والجامعة.. دماؤنا فداؤك يا مصر.. لا استعمار ولا طغيان .. واضفنا أشياء جديدة .. يسقط حكم البكباشية …. وأخذونا يومها لواحد من معسكرات الجيش وبدأت العصي والأحذية السوداء الغليظة تنهال علي أجسادنا..}ص74.

2- الحب .. غير المكتمل

لا يكاد يخلو عمل لبهاء طاهر من الحب .. غير المكتمل. حيث كان الحب هو نقطة النور التي يؤمن بها بهاء طاهر،والتي تقف هناك في نهاية الدهليز، متخفية وراء غيوم المشاكل الحياتية الاجتماعية. كما أن الحب هو الحالة التي تحتل الإهتمام الأكبر في حياة الشباب، وكان كل من انتمي لجيل الستينيات، في بداياة سن الشباب، فإذا كان بهاء طاهر قد أتي الدنيا في العام 1935 بما يعني أنه عندما قام الضباط بحركتهم (المباركة) في العام 1952 كان بهاء طاهر في نحو السابعة عشر من عمره، أي بدايات مرحلة الشباب، وكان من أبناء هذا الجيل من جاء للدنيا بعد ذلك (في الأربعينيات). فكان منطقيا أن تتعطل كل مشاريع الحب، الذي يمثل المستقبل لهؤلاء الشباب المتطلع للغد. وهو ما نستطيع تلمسه فى “الحب فى المنفى” و”واحة الغروب”.

3- الاهتمام أو التركيز علي التغيرات المجتمعية والنفسية.

تميزت التغيرات التي حدثت خلال فترة شباب جيل الستينيات، بالتسارع، وبالأحداث المُحبِطة. فما أن كانت حركة الضباط في 1952 بأمالها وأحلامها، ولم تكن نكبة فلسطين التي حملت هما قوميا ألقي بظلاله علي ذلك الجيل، حتي دخلت البلاد في العدوان الثلاثي علي مصر، والذي تحول إلي نصر، حيث لم يدم الإحتلال الإسرائيلي لسيناء طويلا. ثم تسارعت بعدها الأحداث لندخل في العام 1967 في نكسة مدوية. تركت شرخا عميقا في نفوس المصريين عامة، والشباب خاصة، ثم موت عبد الناصر بعدها، ولم تكن آثار النكسة قد انزاحت، لتدخل البلاد بعدها في دوامات التغييرات الجذرية في مسيرة عبد الناصر، الحلم، والتي اعتبرها هذا الجيل ذروة الإحباطات لحلمهم الشخصي، والمجتمعي. كل تلك التغيرات التي انعكست بالضروة علي الإبداع بصفة عامة، وعلي الرواية بصفة خاصة، فكان حتما أن تحتل الجزء الأكبر من اهتماماتهم. وهو ما نستطيع أن نجده فى “الخطوبة” و”خالتى صفية والدير” و” واحة الغروب”.

4- الحلم .. والضمائر

الحلم والضمائر المختلفة، كانت من الأساليب البارزة في إبداعات جيل الستينيات عامة، والتي ظهرت واضحة في إبداعات بهاء طاهر. حيث كانت نكسة 67 تحديدا وما أحدثته من شرخ نفسي، الأثر الكبير في تفتيت وحدة العمل الإبداعي. فكسرت تراتبية الأحداث، وتشظي الزمن، وتفتت الجملة- وإن كان بهاء طاهر قد نجي من ذلك – إلا انه اشترك مع أبناء الجيل في استخدام تقنية الحلم ، كنوع من الهروب من الزمن، ومن التسلسل الرتيب، فضلا عن إمكانيته في التعبير عن مكنون النفس ومخبوئها، وإلقاء الضوء غير المباشر عن الرؤيا الأبعد في العمل، وهو ما يمنحها العمق والإتساع. كما أن استخدام الضمائر المختلفة تخلق الحركية والحوار في العمل، خاصة استخدام ضمير الأنا والمخاطب، ليخلق بهما الحوار الداخي، وتبيان التفكك النفسي، وقوة تأثير الغائب، الذي يبدو حاضرا.

شوقى عبد الحميد يحيى



أعلى