د. علي زين العابدين الحسيني - الشاعر حسن الصيرفي ... أمير الثقافة بالمدينة المنورة

لا أستطيع أن أصف لك قيمة هذا الأستاذ الأجلِّ والشاعر الأديب على وجه الدقَّــة؛ لأنَّ تكوينه المعرفي نادر الحدوث، فكانت زيارته في بيتـه بالمدينة عميقة الأثر في نفسي، أشهد لقد اندهشتُ من سعة اطِّـلاعـه وغـوصه في الفنون اندهاشًا يتخلَّـله إدراك بعظمة هذا الرجل، أعقبها حـزنٌ وحُـرقـةٌ، يـُغالبها دمعٌ على تلك الجلسات التي كان يجلس فيها في مجلسه الثـقافي في ندوته الأسبوعية.
هو الشاعر الأديب حسن بن مصطفى صيرفي بن الشيخ صادق ـ مفتي المالكية والمدرِّس بالمسجد النبوي ـ بن صالح العقبي المدني، لُـقِّبَ أخيرًا بالأنصاري، كما أملى عليَّ اسمه، واشتُهِـر بالشاعر حسن بن مصطفى الصيرفي.
كان الفقيد أحد أبرز شعراء المدينة المنورة، وتصفه الموسوعات الأدبية السعودية بأنه أحـد أوائل روَّاد الـحركة الشعريـة في المملكة العربية الســعودية، ومن طلائع شعراء المدينــة المنـورة في العصـر الحديث، ويُـعدُّ كذلك من كبار المسندين بالمدينة، فقد أخذ عن علمـاء كبار لم يكونوا ليجتمعوا في مشيخة رجل واحد ، فانفرد أستاذنا بالرواية عنهم مدَّة من الزمان، ولم يشاركه في ذلك أحد، ولحسن الحظ أني سمعت منه في بيته ذلك الحديث الـمشهور عند أهل الإسناد والرواية المعروف بـــ"حديث الرحمة المسلسل بالأولية"، وأجاز لي عامة ما له من مرويات.
وعى شيخنا الدنيا على تاريخٍ علميٍّ عريقٍ لأسرته، فرسم طريقاً واضحاً منذ مطلع حياته، ومضى فيه يوسع آفاقه، ويعمقه دون أن ينشغل بشيء آخر، يكفيه أنه من أهل المدينة، فقد أُتيح له من عوامل النبوغ ما لـم يكن لغيره، وُلِـدَ الشاعر حسن الصيرفي في المدينة المنورة عام 1336 في شهر رمضان من هذه السنة، وكان مولده ليلة الاثنين كما حدَّثني بذلك، وتوجَّه منذ صغره لحفظ كتاب الله كما هي العادة المألوفة آنذاك، فحفظ القرآن الكريم وسنُّـه دون البلوغ على الشيخ عبد القادر بشير، ثم التحق بحلقات العلم في المسجد النبوي الشريف، وظهر نبوغه وتـفوقه على أقرانـه، وحصَّل العلوم في أقصر مدَّة، فأخذ عن الشيخ محمد الطيب الأنصاري، وقرأ فقه المالكية على الشيخين محمد أحمد بن محمد التكينة السوداني، والشيخ الميلود بن أبي بكر الجزائري، وسمع الأولية من الشيخ عمر بن حمدان الـمحرسي المشهور بـــ"محدث الحرمين"، وأجازه الشيخ صالح بن الفضيل التونسي، والشيخ عمر بري، والشيخ محمد الطيب الأنصاري، وغيرهم، وفي كلامه عنهم يجلهم ويوقرهم، ويتحدث عنهم حديث العارف لفضلهم.
ولهؤلاء الأعلام المذكورين عملٌ كبيرٌ وتاريخٌ باهرٌ في الحياة المدنية العلمية والحضارية، قد كانت أسماؤهم معروفة ومشهورة، يعرفها القاصي والداني، فهم أرباب الإحياء العلمي الحقيقي في المسجد النبوي آنذاك، وقد اعترف لي بفضل شيخه محمد الطيب الأنصاري عليه، حيث وجد فيه العالم الصادق الحريص على تعليم طلابه، وتزويدهم بالكثير من المهارات، ومما لا ريب فيه أنّ هذه المشيخة الواسعة -الحافلة بعلو أسانيدها، وجلالة أصحابها، والحية بتأثيرها- لم تجتمع إلا في أفراد العصر.
والحق أن أستاذنا الكبير حسن صيرفي ثمرة من ثمار الدروس الشرعية والعربية التأصيلية، وخطوة تالية لأساتذته بالمسجد النبوي الشريف!
كان المرحوم فقيهًا مالكياً، أديبًا، لغويـًّا، ذا مشاركة في كثير من العلوم؛ إلا أن له التفوق والبراعة في الأدب والشعر، فطوف بالأدب العربي منثوره ومنظومه، واستوعب جميع نصوصه في كتب التراث، وكانت له أيضاً خبرة واسعة بتراجم علماء المدينة وأخبارهم ومشايخ وعلماء المسجد النبوي، وأسرته على وجه الخصوص، كما كان في مناقشاته العادية يتسم بطابع الفهم، والقدرة على العرض والاستيعاب، واستخلاص الدرر والفوائد من تجارب حيوات العلماء الذين اجتمع بهم، وله صداقات متعددة مع العلماء والأدباء من مختلف البلدان، وكان شخصية مرموقة معروفة عند العام والخاص في المدينة المنورة، بعيدًا عن الترفُّع في حياته، متواضعاً، دمث الأخلاق، موطأ الأكناف، محافظاً على كلّ مقومات الوفاء، والإباء، والتزام الدقة، وتحري القصد، لم تغيره السنون عن طبعه الأصيل.
عمل في عـدَّة وظائف، آخرها: مدع عام في الشرطة، كما يعدّ من مؤسسي "أسرة الوادي المبارك" التي أسَّست فيما بعد "النادي الأدبي" بالمدينة المنورة، وكانت لهذه الأسرة الأدبية ندوة تـُعقد أسبوعيًّا في منزل أحد الأعضاء، وكانت أغلب الندوات الأدبية تـقام في منزله، وقد شغل الصيرفي بعد تأسيس النادي منصب نائب الرئيس في المجلس الأول للنادي الأدبي، واحتضن عدداً من الشعراء والأدباء فأظهرهم في المنتديات الثقافية، وللصيرفي إنتـاجٌ أدبـيٌّ منشورٌ، منه ديوان "شبابـي"، و "دموع وكـبـريـاء"، و "قلبي"، وله عديد من الأغاني الشعبية المدنية المشهورة مغنَّـاة من فنانين محليين، ومنذ شبابه وهو ينشر في صحف أدبية مختلفة بأسماء مختلفة منها "أشعب"، و"قيس"، و"المعداوي القديم"، و"حسن مصطفى العقبي"، بخلاف بعض توقيعاته المستعارة الأخرى.
وفي عام 1417 أسَّس في بيتـه مجلسًا أدبيًّا أسبوعيًّا، وكان يـُعقد في بيتـه الكائن أول طريق العيون يوم الثلاثاء من كل أسبوع، ويحظى باهتمام وحضور الأدباء والشعراء والوجهاء وأرباب الفضل، وحدَّثني عن هذا المجلس أستاذنـا حمزة محمد قاسم المدني كثيراً، فقد كان من المداومين على حضوره، وفيه تـُـناقش ألوان الأدب المختلفة، وما تزال مجالسه جديرة ببث روح جديدة في الأجيال الناشئة عن الثقافة، والفنون الأدبية، ففضله على الحركة الثقافية بالمدينة المنورة واضح جلي، بل يصح لي أن أسمي تلك الحقبة الثقافية بـــــ"عصر الصيرفي"، فلولاه ومجالسه ولولا العصبة الأدبية التي التفت حوله لما أينعت ثمرات الحركة الأدبية بالمدينة المنورة.
ما زلتُ أشعر في أعماقي بالسعادة البالغة للاجتماع بهذا الفرد العَلَم، والأخذ عنه قبيل وفاته، وما زلتُ أذكر حفاوته بي، وسماحة نفسه، ودماثة أخلاقه، وطلاقة وجهه، فأدركتُ وقتئذٍ أنني أصل حاضري ونفسي بماض مشرق من الحياة العلمية بالمدينة المنورة عن طريقه، فهو الرابطة التي تربطنا بعلماء أجلاء، ونبهاء أذكياء من عظماء الأمة وصالحيها، وقد توفي المرحوم حسن الصيرفي عشاء يوم الأربعاء 21 محرم 1429 عن عمر يناهز الاثنين وتسعين عامًا، قضاها في التعلُّم والتعليم والشعر والأدب، ولم يغادر الدنيا حتى ذاع صيته بين الناس، فأقبل عليه في آخر عمره راغبو الإجازة الحديثية، وقصده من أجلها النابهون من كل مكان، وبموته فـقدت المدينـة حقاً رئيس دولة الأدب وأمير الثقافة بها.
ستظل حياته في المدينة بأحداثها ومراحلها المختلفة علامة على النبوغ العلمي والثقافي بها!



د. علي زين العابدين الحسيني.. كاتب أزهري
مجلة النيل والفرات، عدد: 32

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى