نتابع احتفاءنا الذي كنّا قد بدأناه في مقالنا السابق باليوم العالميّ للغة العربية فنبيّن التطوّر الكبير الذي طرأ على العربية الفصحى مع ظهور الإسلام..فنقول:
جاء الإسلامُ والعربيةُ القُرشيّة الفُصحى هي لغةُ القوم الأدبية والرسميّة التي يعتمدونها في نِتاجهم الأدبي، والشِّعريّ أوّلُه، وفي علاقات القبائل فيما بينها. وممّا لا ريبَ فيه أنّ هذه العربية الفصحى كانت قد قطعت مسيرةً طويلة من التهذيب والتّشذيب والاصطفاء اللغوي، فاستوت بذلك على عودها لغة راقيةً مكتملة العُدّة والعتاد: أصواتاً وتراكيب ودلالات وأساليباً في التعبير.
يقول الدكتور صبحي الصالح في ذلك:
" اصطنع العربُ لغة قريش للتّفنّن في القول، والإبانة في التعبير، فدلَّ استصفاؤهم إيّاها على أنّها اختارت من كلام العرب أبينه، وراعتْ أرشقَه، واعتمدتْ أصفاه، فكان حقّاً ما ذهب إليه الباحثون من المستشرقين وغيرهم من أنّ أهمّ مزيّة للعربية حفِظتْ لها شخصيّتها بين أخواتها الساميّات إنّما هي عُزلتُها عن الشعوب الأعجميّة، واكتفاؤها بمقدرتها الذاتيّة على التعبير، وعلى التّمثُّل والتّولّد وعلى التّخيّر والانتقاء، في موطنها عينه، وبيئتها نفسها."
ثمَّ كان نزول القرآن الكريم بلسانها، بوصفه معجزة النبيّ الكبرى، تكريساً وتكريماً لهذه اللغة من جانب، وتحدّياً لأصحابها الناطقين بأصواتها، والمدِلّين ببيانها، من جانبٍ آخَر. فكان هذا الكتاب السماويّ أقدمَ
وثيقة مكتوبة وصلتْ إلينا من هذه اللغة.
إنّ استشعار العرب لشخصيّتهم وكيانهم ظلّ ناقصاً وقلقاً لا يجدُ معادله اللغويّ، حتى جاء القرآن الكريم فأكملَ النقص، وبدّد القلق في معرِض دحضه لتخرّصات المشركين، فوصفَ النبيّ (بالعربيّ ) وصفاً يدلّ على الانتماء ويحدّده.
جاء في سورة (فُصّلتْ) الآية، ٢١
" ولو جعلناهُ قرآناً أعجميّاً لقالوا لولا فُصِّلَتْ آياتُه، أأعجميٌّ وعربيّ"
أي: أكتابٌ أعجميٌّ، ونبيٌّ عربيّ؟
إنّنا لن ندرك قيمة هذه الدلالة القرآنية في تحديد الشخصية العربية إلّا إذا عرفنا أنّ الشِّعر الجاهليّ الذي وصل إلينا قد خلا من لفظَيّ( عربيّ وعربيّة ) للتدليل على الانتماء العِرقيّ في الأول، وعلى اللغة، في اللفظ الثاني.
ويُعلّل الدكتور عمر فرّوخ ذلك بقوله:
" لقد كان الجاهليون غارقين في منازعاتهم القبلية، فلم يكن لديهم، فيما لدينا من التراث اللغوي، ما يدلُّ على المُدرَك القوميّ الجامع" .
فعندما استشعرَ شاعرُهم عنترةُ العبسيّ انتماءه القوميّ في مواجهة الفُرْس لم يجد الكلمة التي تعبّر عنه، فاضطرَّ إلى الدَّوَران حول المعنى ببيت كامل من الشعر، حيث يقول:
شربتْ بماءِ الدُّحرُضَين فأصبحتْ
زوراءَ تنفُرُ عن حِياضِ الدَّيلَمِ
لقد أسقطَ عنترةُ شعوره بالانتماء لقومه من العرب ومراهيته للفُرْس-الدّيلَم- على ناقته، فجعلها تزوَّرُ عن مباههم.
أجل..لقد حدّد القرآن الكريم بلفظ (عربيّ) المعادِل اللغويّ لانتماء النبيّ الكريم لقومه من قريش، لكنّهُ تحديدُ وصفٍ، لا تحديد قيمة؛ فالمعيار الإسلاميّ الوحيد للتفاضل بين الناس- كما هو معلوم - إنّما هو التقوى، وليس الانتماء لهذا العِرق أو ذاك.
جاء في سورة (الحُجرات، الآية ٢٤)
" إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"
بل لعلّنا لا نغالي في شيء عندما نقول إنّ الإسلام قد ذهب أبعدَ وأعمقَ من ذلك بكثير عندما أعاد تحديد مفهوم العروبة والعربيّ، وذلك بتقويضه للفهم العِرقيّ وتأسيسه للفهم العَقَديّ لهما، متوسّلاً إلى ذلك بالبُعد اللغويّ، فأخذتْ العربية وِفاقاً لهذا المنظور أبعاداً إنسانية جديدة في إطار المجتمع الإسلاميّ الجديد.
نشير في هذا السياق إلى ما رواه الرواة من أنّ النبيّ الكريم قد غضب عندما تناهى إلى سمعه أنّ أحدهم قد نال من الأصل العِرقيّ لسلمان الفارسي، فدخل المسجد وقال:
" أيُّها الناس إنّ الربّ واحد، والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، إنّما هي اللسان، فمن تكلّم العربيّة فهو عربيّ" .
نحن إذاً أمام تبدّل جوهريّ لمفهوم الأمّة واللغة، لمدلول العرب والعربية في إطار المجتمع الإسلاميّ الجديد..
فكأنّ القرآن الكريم قد نزل باللغة العربية لإثباتها ولتجاوزها في الآن ذاته، لتكريم العرب ولتحدّيهم في الوقت عينه. من هنا نشأت ظاهرة الإعجاز القرآنيّ..............................
وبفضل هذا القرآن تحوّلت العربية من لغة مجتمع قبليّ محدود ومخصوص إلى لغة حضارة إنسانية شاملة تتّسع للتعبير، من خلال أصواتها ومفاهيمها ووسائلها التعبيرية عن جميع الشعوب والأقوام التي انضوت تحت لواء الإسلام.
إنّ اللغة تحدّد وتصوغ فهمنا وتصوّرنا للعالَم المحيط بنا بكلّ أبعاده الفكرية والنفسية والاجتماعية.
تأسيساً على ذلك يمكن القول إذاً: إنّ القرآن الكريم، بصياغته الجديدة لمدلولَي العرب والعربيّة، قد أعاد تشكيل وصياغة وعي العرب بالعالم والكون من حولهم.
وكما لاحظ الدكتور محمود حجازي بحقّ فإنّ انتشار اللغة العربية مع انتشار الإسلام قد أدّى إلى تغيّر الحدود الجغرافية للمنطقة العربية تغيّراً حاسماً؛ حيث امتدت هذه الحدود لتشمل بلاد الشام والعراق وقسماً من بلاد فارس في الشرق الآسيويّ، بالإضافة إلى مصر والنوبة والسودان ودول شمال إفريقيا، التي باتتْ تُعرَف بدول المغرب العربيّ، ناهيك عن المؤثّرات العربية الواضحة في الدول الإفريقية الواقعة جنوب دول المغرب العربيّ.
هكذا غدتْ العربيةُ اللسانَ المعبّرَ عن الحضارة الإسلامية الناشئة بكل أبعادها الدينية والدنيوية.
فكان على اللغة العربية، والحال كذلك، أن تستنفرَ جميع طاقاتها الظاهرة والكامنة للوفاء بحقوق هذه المسؤولية الضخمة التي ألقاها الإسلام على عاتقها، فأصبح القرآن الكريم هو البؤرة اللغوية والمعرفية التي انبثقتْ عنها جميع الجهود العلمية والثقافية التي تضافرتْ على بذلها جميع الشعوب التي انصهرتْ في بوتقة الإسلام.
...........................
نخلصُ من ذلك إلى أنّ اللغة العربية قد اكتسبتْ بفضل الإسلام وكتابه الخالد القرآن ماهيّة حضاريّة جديدة أهّلتها للتغبير الشامل والعميق عن حياة هذا المحتمع الجديد بكلّ عناصره ومكوّناته العِرقية والمعرفية والثقافية.
هذا ما سمح به هذا الفضاء من مختارات بحثي المطوّل المنشور منذ أكثر من عقدين من الزمن تحت عنوان:
( العرب والعربية- مقاربة لغويّة اجتماعية)
راجياً للغتنا العربية ولجميع الناطقين بها في كلّ مكان دوام التّقدّم والرِّفعة والازدهار.
دكتور زياد العوف
جاء الإسلامُ والعربيةُ القُرشيّة الفُصحى هي لغةُ القوم الأدبية والرسميّة التي يعتمدونها في نِتاجهم الأدبي، والشِّعريّ أوّلُه، وفي علاقات القبائل فيما بينها. وممّا لا ريبَ فيه أنّ هذه العربية الفصحى كانت قد قطعت مسيرةً طويلة من التهذيب والتّشذيب والاصطفاء اللغوي، فاستوت بذلك على عودها لغة راقيةً مكتملة العُدّة والعتاد: أصواتاً وتراكيب ودلالات وأساليباً في التعبير.
يقول الدكتور صبحي الصالح في ذلك:
" اصطنع العربُ لغة قريش للتّفنّن في القول، والإبانة في التعبير، فدلَّ استصفاؤهم إيّاها على أنّها اختارت من كلام العرب أبينه، وراعتْ أرشقَه، واعتمدتْ أصفاه، فكان حقّاً ما ذهب إليه الباحثون من المستشرقين وغيرهم من أنّ أهمّ مزيّة للعربية حفِظتْ لها شخصيّتها بين أخواتها الساميّات إنّما هي عُزلتُها عن الشعوب الأعجميّة، واكتفاؤها بمقدرتها الذاتيّة على التعبير، وعلى التّمثُّل والتّولّد وعلى التّخيّر والانتقاء، في موطنها عينه، وبيئتها نفسها."
ثمَّ كان نزول القرآن الكريم بلسانها، بوصفه معجزة النبيّ الكبرى، تكريساً وتكريماً لهذه اللغة من جانب، وتحدّياً لأصحابها الناطقين بأصواتها، والمدِلّين ببيانها، من جانبٍ آخَر. فكان هذا الكتاب السماويّ أقدمَ
وثيقة مكتوبة وصلتْ إلينا من هذه اللغة.
إنّ استشعار العرب لشخصيّتهم وكيانهم ظلّ ناقصاً وقلقاً لا يجدُ معادله اللغويّ، حتى جاء القرآن الكريم فأكملَ النقص، وبدّد القلق في معرِض دحضه لتخرّصات المشركين، فوصفَ النبيّ (بالعربيّ ) وصفاً يدلّ على الانتماء ويحدّده.
جاء في سورة (فُصّلتْ) الآية، ٢١
" ولو جعلناهُ قرآناً أعجميّاً لقالوا لولا فُصِّلَتْ آياتُه، أأعجميٌّ وعربيّ"
أي: أكتابٌ أعجميٌّ، ونبيٌّ عربيّ؟
إنّنا لن ندرك قيمة هذه الدلالة القرآنية في تحديد الشخصية العربية إلّا إذا عرفنا أنّ الشِّعر الجاهليّ الذي وصل إلينا قد خلا من لفظَيّ( عربيّ وعربيّة ) للتدليل على الانتماء العِرقيّ في الأول، وعلى اللغة، في اللفظ الثاني.
ويُعلّل الدكتور عمر فرّوخ ذلك بقوله:
" لقد كان الجاهليون غارقين في منازعاتهم القبلية، فلم يكن لديهم، فيما لدينا من التراث اللغوي، ما يدلُّ على المُدرَك القوميّ الجامع" .
فعندما استشعرَ شاعرُهم عنترةُ العبسيّ انتماءه القوميّ في مواجهة الفُرْس لم يجد الكلمة التي تعبّر عنه، فاضطرَّ إلى الدَّوَران حول المعنى ببيت كامل من الشعر، حيث يقول:
شربتْ بماءِ الدُّحرُضَين فأصبحتْ
زوراءَ تنفُرُ عن حِياضِ الدَّيلَمِ
لقد أسقطَ عنترةُ شعوره بالانتماء لقومه من العرب ومراهيته للفُرْس-الدّيلَم- على ناقته، فجعلها تزوَّرُ عن مباههم.
أجل..لقد حدّد القرآن الكريم بلفظ (عربيّ) المعادِل اللغويّ لانتماء النبيّ الكريم لقومه من قريش، لكنّهُ تحديدُ وصفٍ، لا تحديد قيمة؛ فالمعيار الإسلاميّ الوحيد للتفاضل بين الناس- كما هو معلوم - إنّما هو التقوى، وليس الانتماء لهذا العِرق أو ذاك.
جاء في سورة (الحُجرات، الآية ٢٤)
" إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"
بل لعلّنا لا نغالي في شيء عندما نقول إنّ الإسلام قد ذهب أبعدَ وأعمقَ من ذلك بكثير عندما أعاد تحديد مفهوم العروبة والعربيّ، وذلك بتقويضه للفهم العِرقيّ وتأسيسه للفهم العَقَديّ لهما، متوسّلاً إلى ذلك بالبُعد اللغويّ، فأخذتْ العربية وِفاقاً لهذا المنظور أبعاداً إنسانية جديدة في إطار المجتمع الإسلاميّ الجديد.
نشير في هذا السياق إلى ما رواه الرواة من أنّ النبيّ الكريم قد غضب عندما تناهى إلى سمعه أنّ أحدهم قد نال من الأصل العِرقيّ لسلمان الفارسي، فدخل المسجد وقال:
" أيُّها الناس إنّ الربّ واحد، والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، إنّما هي اللسان، فمن تكلّم العربيّة فهو عربيّ" .
نحن إذاً أمام تبدّل جوهريّ لمفهوم الأمّة واللغة، لمدلول العرب والعربية في إطار المجتمع الإسلاميّ الجديد..
فكأنّ القرآن الكريم قد نزل باللغة العربية لإثباتها ولتجاوزها في الآن ذاته، لتكريم العرب ولتحدّيهم في الوقت عينه. من هنا نشأت ظاهرة الإعجاز القرآنيّ..............................
وبفضل هذا القرآن تحوّلت العربية من لغة مجتمع قبليّ محدود ومخصوص إلى لغة حضارة إنسانية شاملة تتّسع للتعبير، من خلال أصواتها ومفاهيمها ووسائلها التعبيرية عن جميع الشعوب والأقوام التي انضوت تحت لواء الإسلام.
إنّ اللغة تحدّد وتصوغ فهمنا وتصوّرنا للعالَم المحيط بنا بكلّ أبعاده الفكرية والنفسية والاجتماعية.
تأسيساً على ذلك يمكن القول إذاً: إنّ القرآن الكريم، بصياغته الجديدة لمدلولَي العرب والعربيّة، قد أعاد تشكيل وصياغة وعي العرب بالعالم والكون من حولهم.
وكما لاحظ الدكتور محمود حجازي بحقّ فإنّ انتشار اللغة العربية مع انتشار الإسلام قد أدّى إلى تغيّر الحدود الجغرافية للمنطقة العربية تغيّراً حاسماً؛ حيث امتدت هذه الحدود لتشمل بلاد الشام والعراق وقسماً من بلاد فارس في الشرق الآسيويّ، بالإضافة إلى مصر والنوبة والسودان ودول شمال إفريقيا، التي باتتْ تُعرَف بدول المغرب العربيّ، ناهيك عن المؤثّرات العربية الواضحة في الدول الإفريقية الواقعة جنوب دول المغرب العربيّ.
هكذا غدتْ العربيةُ اللسانَ المعبّرَ عن الحضارة الإسلامية الناشئة بكل أبعادها الدينية والدنيوية.
فكان على اللغة العربية، والحال كذلك، أن تستنفرَ جميع طاقاتها الظاهرة والكامنة للوفاء بحقوق هذه المسؤولية الضخمة التي ألقاها الإسلام على عاتقها، فأصبح القرآن الكريم هو البؤرة اللغوية والمعرفية التي انبثقتْ عنها جميع الجهود العلمية والثقافية التي تضافرتْ على بذلها جميع الشعوب التي انصهرتْ في بوتقة الإسلام.
...........................
نخلصُ من ذلك إلى أنّ اللغة العربية قد اكتسبتْ بفضل الإسلام وكتابه الخالد القرآن ماهيّة حضاريّة جديدة أهّلتها للتغبير الشامل والعميق عن حياة هذا المحتمع الجديد بكلّ عناصره ومكوّناته العِرقية والمعرفية والثقافية.
هذا ما سمح به هذا الفضاء من مختارات بحثي المطوّل المنشور منذ أكثر من عقدين من الزمن تحت عنوان:
( العرب والعربية- مقاربة لغويّة اجتماعية)
راجياً للغتنا العربية ولجميع الناطقين بها في كلّ مكان دوام التّقدّم والرِّفعة والازدهار.
دكتور زياد العوف