خير جليس علي حسين - عندما تشكل الكتب حياتنا

كان من عادتي وأنا صغير في السن إذا سمعت أسم شخص لا أعرف عنه شيئا، أن أبحث عنه في رفوف الكتب، أو أسأل أحد رواد المكتبة عنه، في ذلك الحين وقعت في يدي مجلة إسمها المختار وفيها موضوعا عن كاتب إسمه مارك توين كتبه ديل كارينجي، من هو مارك توين؟ كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها بهذا الاسم، أما كارينجي فسبق لي أن تعرفت عليه من خلال كتابه الشهير ” دع القلق وابدأ الحياة”.
لكي يجد المرء مكانه في هذا العالم الذي يحيط به، ومن أجل أن يتعلم العيش والعمل فيه فإنه يتوجب عليه أولاً بأول التعرف عليه. هذه هي العبارة التي ماتزال في ذهني من كتاب كارينجي ” دع القلق وأبدأ الحياة “.
يقول كارنيجي سل نفسك؟ ثم هيئ نفسك لقبول أسوأ الإجابات ثم اشرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبعبارة اخرى إن السؤال هو الذي يجعلك تعيش حياتك بإطمئنان،
مثل كثير من القراء كانت هناك كتب أدين لها بالفضل ، لأنها غيرت مسار حياتي ، عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري أتسمت طبيعتي بالخجل ، وكنت أعاني من صعوبة التعرف على أصدقاء جدد ، ونادراً ما أتحدث مع أحد ، ولا أفعل ذلك إلا بصعوبة ، وتشاء الصدف أن يقع بيدي كتاب صغير الحجم مطبوع على ورق أسمر مثل معظم الكتب التي تسمى " شعبية " عنوانه " كيف تكسب الاصدقاء وتؤثر في الناس " للاميركي ديل كارنيجي ، في تلك الأيام كان الكتاب يعد الاكثر مبيعاً ، حتى أن العديد من دور النشر تعيد طباعته باستمرار ، وكنت وأنا الصبي الصغير أسأل بيني وبين نفسي : هل يمكن لكتاب أن يجعل لك الكثير من الأصدقاء ؟ وحين سألت قريبي صاحب المكتبة ذات يوم عن الكتاب ، قال لي بلهجة ساخرة : هذه كتب بلا منفعة ، هدفها المال ، لم اقتنع بالحجة التي ساقها ، فكيف يمكن أن أقاوم كتاباً يمهد لي الطريق لأن يصبح لي أصدقاء وأوثر فيهم .
كانت أول نصيحة تعلمتها من مؤلف الكتاب " ديل كارنيجي " إنني اشتريت دفتر ملاحظات لأسجل به ما اشاهده كل يوم وما يمر بي من مواقف وما أقرأه في الكتب .، إذ يخبرنا كارينجي انه لكي تعيش حياتك بشكل حقيقي عليك ان تهتم بالآخرين . ينبغي أن تصغي اليهم وأن تكون سخياً في محبتك لهم . ويطلب منا أن نكون صادقين .نقرأ في سيرة ديل كارنيجي إنه ابن لمزارع فقير ، وكانت أمه تطمح أن يصبح إبنها كاهناً .كان اسمه الحقيقي ديل كارناجوي ، لكنه غير نطق اسمه : " كنت أريد تحسين حظوظي في الحياة " عمل وهو طالب كلية بائعاً جولاً ، وكان يقطع المسافات الطويلة على قدميه ليبيع الصابون ومنظفات المنازل ، وبعد أن أكمل كليته قرر أن يدرس الفنون الدرامية لكي يصبح ممثلا ، إلا ان مسيرته الفنية انتهت في دور صغير بمسرحية لاقت فشلاً كبيراً ، بعدها عمل بائعاً للسيارات المستعملة ، وفي هذا الوقت قرر أن يكتب عن الطريقة المثلى لكسب ود الناس ، فاستأجر غرفة صغيرة لإقامة دورات عن كيفية التأثير في الآخرين وكان يردد مقولة الفيلسوف الاميركي أيمرسون :" إفعل الشيء الذي تخاف أن تفعله ، وسيصبح موت الخوف عندئذ أمراً مؤكداً بصورة مطلقة " . يبدأ كتاب كيف تكسب الاصدقاء وتؤثر في الناس ، بفصل طريف ومثير اسمه " إذا اردت جمع العسل لاتبدأ بحرق خلايا النحل " وهذه الفكرة يرجعها كارنيجي الى الرئيس الاميركي بنيامين فرانكلين الذي قال لمواطنيه في احدى خطبه :" عزمت على أن لا أتكلم بالسوء عن أي إنسان مهما كان " ، ومثلما يخبرنا ديل كارنيجي إن فكرة فولتير كانت تتلخص في أن " اي أبله يمكن أن ينتقد ويدين ويشكو . لكن لكي يكون المرء متفهما ، فان الأمر يقتضي شخصية متسامحة قوية وضبطاً للنفس " ويتبع هذه الفكرة بصفحات نابضة بالحيوية تعود الى الفيلسوف البريطاني توماس كارليل :" إن الرجل العظيم يظهر عظمته في الطريقة التي يعامل بها البسطاء " ..ويستخدم كارنيجي أمثلة من حياة مفكرين وفلاسفة كانوا يتصرفون بالطريقة التي يجب أن يتصرف بها الانسان ، لقد صرح وليم جيميس ذات يوم بان " أعمق مبدأ للطبيعة البشرية هي التلهف على أن تكون محل تقدير " ويسمي كارنيجي الاسلوب هذا بالاسلوب السقراطي ويصف الفيلسوف اليوناني سقراط بانه " فتى عجوز لامع " ، ويثني على سقراط لقدرته على إقناع الآخرين ، ويحاول كارنيجي الإستفادة من إسلوب سقراط في توجيه الأسئلة واستخراج المعرفة منها ، فقد كان سقراط يحاول أن يقدم لمستمعيه طريقة بسيطة تمكنهم من تمييز ما هو صحيح بانفسهم ، كان سقراط يصر أن بامكان أي شخص يملك عقلاً فضولياً أو سعي الى التدقيق في المعتقدات السائدة أن يبدأ محادثة مع شخص آخر في أحد شوارع المدينة بحيث يصل الى فكرة خلاقة .. ويخبرنا ديل كارنيجي إنه من الممكن التوصل الى تفاهم مع الآخرين دون الإغراق في التفلسف .
كان من عادة سقراط ان يبدأ اسئلته بالافصاح عن جهلة العميق بالموضوع ، حتى يجذب الآخر الى حلبة للمناقشة ، ويحول بصره الى الصعوبة الحقيقية في الموضوع ثم يدخل الى عمق الموضوع ، وكذا كان يشجع الآخرين على سلوك درب الفلسفة دون حاجة الى كرسي المعلم ، ومن دون أن يعطي النصائح والأوامر، فقد كانت براعته تتمثل في قدرته على ان يجعل المحاور يصل بنفسه الى الحقيقة .وقد رأى سقراط إن الفضائل تعتبر تجليات لجوهر واحد هو المعرفة التي تعادل الفضيلة ، وإذا كان الشخص يجب أن يعلن انه لايمكن ان يلم بكل جوانب الحقيقة وانه يستحيل أن يحيط بكل جوانب العلم ، فإن الفضيلة تشير الى وعي الانسان ، ومن ثم يتوجب عليه أن يسلك درب البحث المتواصل عن المعرفة ، وهذا هو جوهر الفضيلة: "أن الفضيلة ما هي إلا دعوى دائبة لإعمال العقل."
كان سقراط يقول: "لا أعرف سوى شيء واحد وهو أني لا أعرف شيئا ." فالفلسفة لا تتقدم إلا عن طريق تبني منهج الشك والبحث الدائم.
إن الفلسفة تبدأ عندما يبدأ الانسان يتعلم الشك، خصوصاً الشك في المعتقدات التي يحبها، والعقائد والبديهيات أو الحقائق المقررة التي يؤمن بها ويقدسها. ولهذا قال سقراط: "إعرف نفسك".وهي العبارة التي حاول كارينجي ان يعيد صياغتها فقد كان يعتقد إن المرء يتعين عليه أن يؤمن بقدراته ، لكي يجعل الآخرين يثقون بهذه القدرات .
في يومياته التي نشرت بعد وفاته يخبرنا ديل كارنيجي إن ثلاثة أشخاص لعبوا دورا كبيرا في بناء شخصيته ابراهام لنكولن وغاندي والكاتب الاميركي هيرمان ميلفيل :" كتاب موبي ديك لميلفيل لايمكن أن يخرج إلا من عبقرية خارقة ، إنه سفينة صوفية أبحرت بها ، عميقة بشكل لايدرك ، من منا لم يمر بتجربة إسماعيل ، من منا لم يكمن عبدا لرغباته ونزواته " .
يقدم أمبرتو إيكو نصيحة للكتاب : " عليك أن تشكل القارئ الذي تريده لكل قصة تكتبها".. وقد اكتشفت أنا بعد سنوات إن بعض الكتب أعادت تشكيل حياتي بصورة أفضل .. ويخبرنا ايكو انه في صباه اطلع على بعض كتب ديل كارنيجي ورغم انه وجدها بسيطة وساذجة أحيانا ، إلا إنها ألهمته بافكار كثيرة خصوصاً ان مؤلفها استطاع ان يقوم بسياحة جميلة في أفكار الفلاسفة الاخلاقيين .
يقول أفلاطون إن أغلب الناس ليسوا مرتاحين فقط لجهلهم وإنما يغضبون بشدة ممن يشير إليه. يكتب ديل كارنيجي في إحدى وصاياه إن " الامر سيكون جيداً لو تحدثت مع الآخرين عن الأشياء التي لا تعرفها " .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى