مصطفى نصر - الأديب والوظيفة

يحكي نجيب محفوظ أن الدكتور منصور باشا فهمي – أستاذ الفلسفة بكلية الآداب - كان عقلا فذا، بشر في وقت ما بثورة فكرية في حياتنا الثقافية، لولا وشاية حقيرة أجهضته قبل أن يقف على قدميه، فقد زعموا فيها إنه طعن في الإسلام – ضمن رسالة الدكتوراة التي قدمها للسربون – واتهموه بالإلحاد، وطالبوا بفصله من الجامعة. وهو لم يكن ذا طبيعة مقاتلة، ولا قبل له بتحدي الرأي العام، فضلا عن حرصه على وظيفته وشدة حاجته إليها، فأنكر التهمة ودافع عن عقيدته، وتوسل بكثيرين، وعلى رأسهم صديقه وزميله في هيئة التدريس - الشيخ الدكتور مصطفى عبد الرازق- والظاهر أن المحنة جعلت الدكتور منصور فهمي يركز نشاطه في دروسه الجامعية وينسحب من الحياة الفكرية خارج جدران الكلية.
ما حدث يعبر بوضوح عن العلاقة بين الموظفين في العمل بصفة عامة، خاصة في المجال الثقافي والعلمي. فأمر طبيعي جدا أن يهاجمون استاذا ناجحا مستخدمين اتهامات، هم أول من يعلم بكذبها، وإنما الدافع الحقيقي هو حقدهم عليه، ومن الأمور العادية أن يتهم كاتب كبير وموهوب وناجح في عقيدته، وقد حدث خلاف بيننا في الإسكندرية منذ سنوات طويلة، فأرسل زميل لنا لكاتب قاهري واتهمنا بالشيوعية. وهو يعلم أن هذا غير حقيقي، وكان دافعه النيل منا، وفي فترة تلونت الإسكندرية الثقافية بلون الخيانة، فقد تعامل البعض ثقافيا فيها مع إسرائيل، فحذرت من مغبة اتهام الناس بالباطل، فكنت اعلم ان البعض سيتخذ هذا ذريعة للنيل من كتاب ناجحين، يعلم الكثير من الأدباء أنهم شرفاء، لكن نجاحهم هو السبب في اتهامهم بأشياء لم يفعلوها، واذكر ان الشاعر المرحوم عبد المنعم الأنصاري قابلني أيامها وشكرني لأنني كنت مهتما بعدم اتهام الناس بالخيانة دون دليل.
**
ويحكي نجيب محفوظ عن علاقته بالكاتب المعروف كامل الكيلاني، فقد جمعت بينهما مودة صميمة، منذ أول يوم دخل فيه محفوظ الخدمة في وزارة الأوقاف.
كان كامل كيلاني يشغل وظيفة وكيل السكرتارية. وعندما عرفه محفوظ، شد على يده بحماس شديد، فقد كان معجبا بمقالاته في التراث، والموظفون – في مكتب السكرتارية - يرمقونهما بفتور وقرف. فزملاء كامل كيلاني يعتبرونه مغتصب للدرجة السادسة باسم الخزعبلات التي يؤلفها ويزعم إنها أدب، فالموظف القح – في رأيهم – لا يحترم عادة إلا الموظف " الحقيقي " الخبير في الإدارة واللوائح، أما تأليف الكتب فيعد – عندهم – نوعا من العربدة التي لا تليق بالمحترمين من الموظفين.
ويحكون إن كامل كيلاني كان كاتبا بالأرشيف – كما ينبغي له – فحتى الإبتدائية لم يحصل عليها، لكنه دأب – كلما تولى الوزارة وزير جديد – أن يحمل إليه مجموعة من مؤلفاته مصحوبة بإهداء شعري، وكان الوزراء يتقبلون الهدية شاكرين، حتى جاء للوزارة رجل يحب الأدب فأعجب بكامل كيلاني ورقاه للدرجة السابعة، ثم بعد عامين إلى السادسة مع نقله وكيلا للسكرتارية.
وفي المرات القليلة التي جلست فيها مع نجيب محفوظ بالإسكندرية، سمعته يحكي عن كامل كيلاني، فقال، سألني مرة:
- أنت نجيب محفوظ الذي ينشر في الجرائد والمجلات؟
فأجابه محفوظ بنعم.
فقال له:
- لا تخبرهم هنا بذلك حتى لا يسيئوا إليك، كما يسيئون لي.
هذا ما يحدث في كثير من الكليات – خاصة المتعلقة بالأدب والصحافة، ففي كليتي الآداب والتربية في الإسكندرية، بعض الدكاترة على صلة بالأدباء والإعلام، وهذا ليس جديدا ولا غريبا، فطه حسين عندما كان أستاذا في الكلية، كانت له أنشطة أدبية وأعلامية بارزة، وكذلك فعل الدكتور محمد مندور والدكتور عبد القادر القط والدكتورة سهير القلماوي وغيرهم، لكن بعض الدكاترة لا يعطوا اهتماما لهذا، ربما لعدم قدرتهم على ذلك. أو لاحساسهم بأن هذا العمل ينتقص من مكانتهم العلمية.
وقد عملت بشركة الورق دون واسطة، فمن حسن حظي أن رئيس الشركة كان صديقا مقربا للكاتب الكبير عبد الحميد جودة السحار، فاشترط في المعينين الجدد أن تكون لهم اهتمامات رياضية أو ثقافية، وعندما قابلني اعجب بي وكنت الأول، وعينوني في أفضل مكان مناسب لمؤهلي، وهو الحسابات -
وتقابلت في الشركة مع نوعين مختلفين، فالبعض رحب بي لأني كاتب، وقد استفدت من زميل – أكبر مني سنا - محب للقراءة، شجعني بحماس شديد، وكان يذهب معي لمكتبة البلدية نستعير الكتب منها، وحدثني عن سلسلة كتابي لحلمي مراد، ولم أكن قد سمعت عنها قبل مقابلتي له. ومدير حسابات سعد لأني انشر في الصحف والمجلات، واظهر احيانا في التلفزيون، وكان يقول لي مداعبا، ومعترضا عما قلته في التلفزيون:
- أنا علمتك تقول كده؟!
وسهل لي أمورا كثيرة، لكن البعض كان كارها لي. فقد تحدث زميل معي، فقلت: " نحن الأدباء " فصاح زميل آخر قائلا في اعتراض:
- أهو عمل نفسه من الأدباء.
فقلت له:
- لقد نشرت في الأهرام، وفي روايات الهلال، وأصبحت عضوا في اتحاد الكتاب، فلماذا لا أكون أديبا؟!
ظل هذا يؤرقه ويعذبه. وزميل آخر يعمل بإدارة التدريب، يكتب مسرحيات، ويهتم بقضايا العمال، فأعد برنامجا عماليا في القناة الأولى بالتلفزيون.
فسألت زميله - الذي يعمل معه في الإدارة، وهو صاعد السلالم -
- شفت برنامج زميلك فلان الفلاني في التلفزيون أمس؟
كان قد صعد عدة درجات، ثم نظر نحوي قائلا:
- مش يمكن تشابه اسماء يا أستاذ مصطفى؟
لا حول ولا قوة إلا بالله، غير قادر على أن يصدق أن زميله - الذي يجلس بجواره في مكتب واحد - يعد برنامجا تلفزيونيا.
واتصلت بي دار الهلال وابلغوني بأن إعلانا عن روايتي الهماميل الصادرة عنهم، سيذاع في التلفزيون يوم كذا وفي الساعة الفلانية. فاعلنت هذا في الشركة التي اعمل بها، ودخلت حجرة من الحجرات، فسألتني زميلة عن موعد إذاعة الخبر. واجبتها. فقال زميل لها – علاقتي به علاقة جيدة جدا - :
- ستظهر في هذا الإعلان؟
قلت: لا.
قال في قرف وضيق:
- وفالقنا بالإعلان ده، وبعدين هي الناس لاقية تاكل لما حاتروح تشتري كتب؟!
وعدت من مكتب سعيد سالم في المصنع ممسكا بمجلة منشور بها قصة لي، كانت عند سعيد يقرأها، فقابلني مهندس من مهندسي الشركة في الطريق، سألني عن المجلة التي امسكها، فقلت:
- كانت عند سعيد سالم.
قال:
- أنت حاتعمل زيه، لما تنشر لك حاجة، تدور تلف بيها وتوريها لده ولده؟!
فتركته وعدت لمكتبي بعد أن شعرت بالحزن والأسى لموقف البعض مني، محاولا إخفاء المجلة عن الذين قد يقابلونني في الطريق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى