فاتن فاروق عبد المنعم - بقعة ضوء (5) جلد الذات:

(5)
جلد الذات:

البطريرك اليوناني صفرونيوس كان مسئولا عن بيت المقدس وقت دخول العرب فلسطين، وعلى حد توصيف كينيدي له كان رجل كنيسة، متعلما وذكيا، يحتقر «البدو الأجلاف» وهو من رأى أن ظهور العرب علامة على غضب الرب بسبب خطايا النصارى، فخطب فيهم يقول:

«من أين حدثت الحروب ضدكم؟ من أين تعددت غزوات البرابرة (المسلمون)؟ من أين صعد المسلمون في مواجهتكم؟ ممن يتزايد بهذا القدر الرهيب من النهب؟ من أين تأتي إراقة الدماء الإنسانية التي لا تتوقف؟

ما سبب أن طيور السماء تلتهم الأجساد البشرية؟ ما سبب أن الصليب محل سخرية؟ وما سبب أن المسيح نفسه مانح كل خير ومصدر النور لنا تجدف بحقه الأفواه البربرية؟

واستمر يقول: لقد ظهر المسلمون بشكل غير متوقع ضدنا بسبب خطايانا ونهبوا كل شيء بالقوة وبوحشية وبجسارة لا تعرف الدين ولا تعرف الرب»

ويعقب كينيدي المنحاز ضد الإسلام والمسلمين (وهذا لا يعيبه شريطة أن يكون موضوعي) فيقول:

هذا هو الصوت الحقيقي للثقافة الإغريقية، وقد آثار الفتح الإسلامي لبلاد الشام رعبه وفزعه.

ولي تعقيب على خطبة الراهب رأس الكنيسة ببيت المقدس:

المسلمون لم ولن يجدفوا بحق المسيح، بل ننزله المكانة اللائقة به عليه وعلى الأنبياء جميعهم أفضل الصلاة والسلام،

وأمه صديقة سليلة بيت النبوة، فلا توجد ملة على الأرض تجله مثلنا ولا حتى أنتم،

أما عن القوة والجسارة والوحشية التي ذكرتها فيرد عليها كينيدي نفسه بمجتزأ من العهدة العمرية نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب

(واحد من البرابرة الأجلاف كما وصفهم من لا يعرفون الاستبراء من بولهم حتى جاءوا لحضور المونديال بقطر2022):

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان:

أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطوا أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللهوت (اللصوص)»

وقبل أن يخرج علينا واحد من عباد «الآخر» أي آخر ليصف عمر بقبوله للآخر أو يلعنه ويسبه لأنه فرض عليهم الجزية، فالأمر بالنسبة إلينا “سواء” لأن المنافقين الذين لا يبغون بنا إلا كل سوء يفضحون أنفسهم بأنفسهم.

لا يتعلق موقف عمر بمسألة قبول الآخر فكما قلت وأوكد دائما أن ديننا ليس دين محبة وإنما دين العدل، العرب «البدوالأجلاف» في هذه الأثناء لا يعرفون سوى القرآن، وفي القرآن الخطاب الإلهي نوعان،

خطاب يخص المؤمنين بقوله جلا وعلا «يا أيها الذين آمنوا….»

وخطاب لعموم الناس بقوله جل شأنه «يا أيها الناس…»

حتى وإن لم يؤمن جموع الناس بالقرآن فلهم خطاب إلهي يخصهم ربما اهتدوا…،

وهذه دلالة على نظرة الإسلام الشمولية للإنسان في حد ذاته، فهو قيمة يعتد بها فلربما اهتدى أو جاء من صلبه من يوحد الله وهذا هو فكر الحضارة الإسلامية حتى ولو لم يؤمن بالدين،

وهو تصدير الخصوبة والنماء في كل شيء وهذا يتواءم مع سببية خلق آدم والمشروع البشري الكبير،

بينما الحضارة الآنية (التي تتكئ على قوانين من لدن الشيطان) تعمل على محو الإنسان وسحقه (ليبلغوا المليار الذهبية)،

لذا فهم يستوردون البشر ولو لم يفعلوا ذلك لانتهت بلادهم إلى جملة من العجائز لا يجدون من يخدمهم.

وهذا ما يبطنه عمر، فماذا كان يضير «العرب الأجلاف» المنتصرين بسحق مخالفيهم،

ومن الذي يفرض عليهم تأمين من لا يؤمنون بدينهم ويرونهم دونهم ومازالوا،

ولكنه القرآن مرة أخرى الذي يسمو بالمرء حتى يبلغ بخلقه الثريا، عمر كان لا يعرف سوى القرآن الذي يقول فيه ربنا عز وجل

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}

159 آل عمران
عمر كان يوقن قول ربنا عز وجل

(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)

125 النحل

، نعم هو ليس في موقف دعوي بل تقنين لوضع غير المسلمين وهو ما عني به القرآن أيما عناية، ولكنه أيضا لا ينسى أن هؤلاء يجهلون الإسلام الذي يبشر به فلربما كان سببا في هدايتهم، فهو من يعي قول نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام: مجتزأ من حديث صحيح

(انفُذْ على رِسْلِك حتَّى تنزِلَ بساحتِهم ثمَّ ادعُهم إلى الإسلامِ وأخبِرْهم بما يجِبُ عليهم مِن حقِّ اللهِ فيه فواللهِ لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَم)

ومن الملاحظ في نص العهدة العمرية أن لا يسكن اليهود مع المسيحيين، وهذا نزولا على رغبتهم أثناء التفاوض (وهو قانون روماني قديم لأنهم كانوا يشعرون بالقرف من اليهود)،

نفس الراهب اليوناني لو كان في زماننا ورأى ما فعلت أمريكا بالعراق وأفغانستان هل كان سيصفهم «بالبرابرة الأجلاف» أم أن ميزانه بمكيالين؟

يقول المؤرخ المسيحي العربي سعيد بن البطريق والذي يعرف باسم أوتيخا في القرن الحادي عشر الميلادي/الخامس الهجري:

رحب صفرونيوس بالخليفة عمر بن الخطاب بالمدينة وأعطى الناس الأمان على أنفسهم وممتلكاتهم مع ضمان حرية العقيدة، وعندما حان وقت الصلاة اقترح البطريرك عليه أن يصلي في كنيسة الضريح المقدس، ولكن عمر رفض لأنه قال أنه لو فعل ذلك فإن المسلمين سيتخذونها مسجدا وسوف يخسرها المسيحيون، ثم أصدر مرسوما يمنع فيه المسلمين من الصلاة في الكنيسة، ونتيجة لهذا بقيت الكنيسة بأيدي النصارى منذ ذلك الحين، ثم طلب عمر موضعا لبناء مسجدا وأخذه البطريرك بيده إلى الصخرة التي كان يقوم عليها معبد هيرود، ومن الواضح أن الرواية صيغت لبيان أن مكانة المسيحيين في القدس كانت قائمة على أساس من سلطة عمر بن الخطاب نفسه والتي لا يمكن لأحد أن يشكك فيها.
من عبادة البشر والحجر إلى عبادة الله الواحد:

الدولة البيزنطية كانت لها ديوان من الموظفين يديرون شئون الدولة وجيش وكنائس مترامية لأن أغلب السكان يدينون بالمسيحية، هذه النخبة فرت إلى القسطنطينية، لكن الدولة الساسانية ومركزها العراق لم تكن لها جيش وإدارة للدولة من الفرس المجوس، ويتحدثون اللغة الفارسية ولكن أغلب السكان يدينون بالمسيحية النسطورية ويتحدثون اللغة الآرمية (كنيسة الدولة البيزنطية يعتبرونهم من الهراطقة) بالإضافة لبعض اليهود، لذا كان لها فقط نخبة ارستقراطية حاكمة تدين بالديانة الزرداشتية وهؤلاء يعتقدون بوجود إلهين لهذا العالم، إله الخير ويسمى أهرمزد، وإله الشر ويسمى أهريمن (نفس اعتقاد النورانيين وجود إلهين) والنار عندهم عنصر مقدس، وهذا الرتق العقائدي بين النخبة الحاكمة والعوام لم يكن ليصمدوا أمام الإسلام بعقيدة التوحيدالتي تنقض معتقد هؤلاء وتلكم.

العراق العريق فتحه خالد بن الوليد وكانت أول المدن التي فتحت مدينة الحيرة وتم أسر الكثير ومن بينهم “نصير” الذي قدر لابنه موسى فتح الأندلس فيما بعد عام 712م

الفرس واجهوا المسلمين بجيش هائل وأفيال وراية من جلد النمر طولها أربعين مترا وعرضها ستة أمتار.
معركة القادسية.. دروس مجانية:

يزدجرد الثالث كسرى الفرس الذي انضم إليه فرق أرمنية بقاداتهم (تحالف الفرقاء كما العادة الزرادشتية المجوسية مع النصارى) لمواجهة جيش المسلمين، جيش كسرى يتألف من ثمانين ألف وجيش المسلمين يتراوح بين ستة آلاف واثني عشر ألف.
يصف هيو كينيدي المنحاز المتكبر المعركة بالقول:

«وقد شكلت قصة معركة القادسية الأساس الذي قامت عليه أساطير عظيمة، ذلك أن ذكرى انتصار جيش عربي صغير فقير سيء التجهيز على قوة الجيش الإمبراطوري الفارسي كانت إلهاما للعرب على امتداد العصور»

يستمر كينيدي في الحط من قدر المسلمين فيقول أن رواية الطبري ينقصها الكثير من التفاصيل وينحاز لرواية مؤرخي الأرمن وهم من وصفوا هزيمة الفرس بالكارثية ولكن الأمراء الأرمن بطبيعة الحال حاربوا بشجاعة عظيمة ولقى اثنان من أهمهم حتفهما مع الكثير من أعيان الفرس، فهل لمثلي أن تسأل المؤرخ المنحاز لماذا انتصر «البربر الأجلاف» بجيشهم الصغير البائس على البرجوازية الفارسية والساسانية؟!!

ثم هو نفسه كينيدي يستمر في غطرسته فيقول أن قادة المسلمين كانوا يؤكدون لجيشهم أن عليهم ألا يدخلوا في عمق المدينة وإنما عليهم الالتزام بأطراف الصحراء حتى إذا فشلوا أمكنهم الهرب في البرية بسهولة وبذلك أكدوا على حرج موقف المسلمين،

ولم ير كينيدي هذا السلوك من قادة المسلمين أنه تكتيك من حاذق يريد أن يحافظ على جنده ويتصرف في حدود الإمكانات المتاحة لهم بجيشهم الفقير البائس الذي لا يقارن في العدة والعتاد بجيش إمبراطورية مترامية،

ولو حدث عكس ذلك بأن أمر القادة الجنود بالانتشار في عمق المدينة وتشرذموا وانهزموا لجاء كينيدي ليلوم هؤلاء القادة ويستمر في احتقار المسلمين ولظل يسرد علينا أن سبب الهزيمة أنهم لا قبل لهم بجيش إمبراطورية عظيمة وحضارة ضاربة… ألخ، من تلك المنمقات اللفظية الجوفاء،

ورغم الفارق الشاسع آنف الذكر فإن النصر كان حليف المسلمين وعجز كينيدي وسيعجز أمثاله عن إيضاح سبب انتصار جيش المسلمين.

وللحديث بقية إن شاء الله
فاتن فاروق عبد المنعم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى