خالد محمد مندور - هل مات جمال عبد الناصر

لقد كان السؤال عندما كتبت عن طلعت حرب عندما أكدت انه قد مات عندما اختفت الفكرة والتمثيل الطبقي الاجتماعي الذى كان يمثله، ولكنى لم احدد متى مات، هل توفى سنة 1941 كما تحددها التواريخ الرسمية أم بعدها، ولا يمكن التحدث عن موت الفكرة والتمثيل الطبقي الاجتماعي إلا بظهور البديل، فالتاريخ لا يعرف الفجوات، بل صيرورة تاريخية تعرف الانتقال التدريجي من واقع قديم الا واقع جديد حيث يتزاوجان مع تغيير الأوزان النسبية إلى أن يستتب الجديد ويترسخ، وعندها يعلن موت القديم.
أن طلعت حرب تعرض للحصار سنة 1939 تحت ضغط النفوذ الأجنبي وحلفائه وأجبر على الاستقالة من رئاسة بنك مصر، ولكنة لم يمت، فاستمر الحلم في التحقق بتأسيس مصر للحرير الصناعي سنة 1946 واستمرت باقي الاستثمارات في الوجود واستمر الإنتاج المادي والفكري والثقافي، ومع التغيير الكبير سنة 1952 التي تبنت تشجيع الرأسمالية المصرية الخاصة، في سنواتها الأولى، عاد طلعت حرب من جديد فأسس
مصر للألبان والأغذية سنة 1956- 19.1٪
مصر لصناعة الكيماويات سنة 1959- 25٪
مصر للفنادق سنة 1955 (5٪)
مصر شبين الكوم للغزل والنسيج سنة 1959- 25%
ولكنها عودة خجولة فلقد شهدت السنوات الأولى صراعا سياسيا داخليا للسيطرة على السلطة وعلى الحركة الجماهيرية المستقلة، وأسفر الأمر، بعد صدامات جماهيرية كبرى وتصادم شبة دموي مع تيار الإسلام السياسي، عن استتباب الأمور للسلطة الجديدة التي تمكنت من عقد اتفاقية الجلاء مع قوات الاحتلال بشروط كانت ترفضها الحركة الوطنية الجماهيرية قبل 1952.
ولكن السلطة الجديدة كانت مازالت داخل نطاق نفس الفكرة والتمثيل الطبقي الاجتماعي ولم يكن الإصلاح الزراعي إلا خطوة اقتصادية واجتماعية تفتح طريق النمو الرأسمالي، برغم محدوديتها، وإن كانت قد تخلت عن الأفكار الليبرالية التي كانت ضرورية في الزمن السابق وأصبحت عائقا في العصر الجديد.
ولكن وبعد معركة تأميم القناة وتأميم المصالح الأجنبية بدأت تتشكل ملامح فئة اجتماعية جديدة، ذات أهداف أوسع وطموحات أكبر، حول السلطة الجديدة، لينتهي الأمر بالتأميمات الكبرى أعوام 1960 إلى 1963 ليموت طلعت حرب مع اكتمال ميلاد وترسخ رأسمالية الدولة وفئتها الاجتماعية الجديدة، الرأسمالية البيروقراطية، بزعيم وطني جديد، لقد اكتمل ميلاد جمال عبد الناصر الذي ولد مقاتلا.
وتشهد البلاد تطورا رأسماليا متسارعا وينتقل الصراع مع النفوذ الأجنبي ليمتد على الصعيدين الإقليمي والعالمي وسط احتدام الحرب الباردة، وتنشأ المئات من المصانع الجديدة وينتشر التعليم وينخفض مستواه وتتحسن الرعاية الصحية ولكن دون النجاح في خلق نظام متطور قابل للاستمرار ، ويتطور الإنتاج الفكري والثقافي الذى نضجت بذوره في عهد نهوض طلعت حرب ، وتعم الازدواجية تحت كل حجر ، فالعداء للاستعمار والنفوذ الأجنبي لا يستبعد القبول بالمعونات الأمريكية واختلاط التعاون مع الاختلاف والخلاف مع القطب الآخر ، ومتطلبات شكل الحكم الجديد والعداء للحركة الجماهيرية المستقلة لا تستبعد الزج بحلفاء النظام الطبيعيين خلف أسوار السجون ، والنهضة الثقافية والفكرية تشهد نفس الازدواج ، ففي الصحافة نجد زبانية جهنم الذين كانوا يعادون المصالح الشعبية قبل 1952 ينتشرون ويتمتعوا بالأوصاف الكبرى ، والتيارات الجديدة تقاتل لتجد لها موضع قدم ، ويتطور المسرح والإذاعة والتليفزيون ولكننا نجد نفس الازدواجية ، ولعل ما كان يقدمه كلا من مسرح التليفزيون ومؤسسة المسرح لشديد الدلالة ، ويفصل طه حسين ومحمد مندور من الصحف بدعوى عدم الجمع بين وظيفتين ، وتوضع اللبنات الأولى لما يسمى تطوير الأزهر لتبدأ في التشكل ملامح كهنوت جديد .
وعندما يقرر الغرب ان محاولات الاحتواء قد طالت وأصبح ناتجها محدودا يقرر اللجوء الى الأعمال العسكرية المباشرة، فتقع حرب 1967، ويهزم الوريث، وريث طلعت حرب، ليس لخطأ أو خطيئة هذا المسؤول أو ذاك، لكنها هزيمة النمط الفكري والتمثيل الطبقي الاجتماعي، لكن الزعيم المقاتل يسترد أنفاسه بدعم شعبي هائل يرفض الهزيمة ومصمم على القتال.
ويقاتل الزعيم وهو مسخن الجراح، من معاركة القديمة والجديدة، لكنه لا يستطيع أن يستدعي القوى الشعبية التي دعمته ودفعته دفعا للقتال من جديد، فيزداد الحمل وينهار الجسد ويرحل، لكنه لا يموت، ويخرج الشعب عن بكرة أبية في وداع الزعيم في استفتاء شعبي ليس له مثيل، استفتاء يضع قيودا هائلة أمام الاتي، انها قيود الحلم نفسه، الحلم القديم، حلم طلعت حرب.
لكن هذا النمط الفكري والتمثيل الاجتماعي، الذي فقد القدرة على الاستمرار وعلى المقاومة، يفتح أمامه باب الاستجابة للضغوط بعد حرب 1973، وتبدأ عملية طويلة من التغييرات تقود في النهاية الى موت جمال عبد الناصر باختفاء النمط الفكري والتمثيل الطبقي الاجتماعي الذي كان يمثله.
ولعل أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من أحداث التاريخ الكبرى هي نزوع البشر الى التمسك بالأحلام الكبيرة و بالانحياز الفكري الدائر اثنائها دون أدراك أن الأحلام الكبيرة تستدعى نمطا فكريا وانحيازا جديدا يتلاءم مع الظروف الاجتماعية الجديدة ، فلا يمكن العودة الى الوراء ، بل فقط يمكن التقدم الى الأمام ، افة سلفية عمت العديد من التيارات الفكرية والسياسية ، يسارية وليبرالية وإسلامية وناصرية ، فالمرشد العام السابق للإخوان المسلمون لم يكن يسب مصر عندما صرح " طظ في مصر " بل كان يعبر عن تمسكه بزمان مضى وانقضى من عشرات السنين ، زمن الخلافة ، والتروتسكيون ما زالوا يرددون الأقاويل القديمة ، والكثير من الناصريين ما زالوا يحلمون بالعودة الى الماضي ، والليبراليون ينظرون الى المسخ الليبرالي قبل عام 1952 ويضعونه مثلا اعلى ولا يتمسكون به في سلوكهم العملي ، ، والجميع يحاكمون الحاضر قياسا على الماضي ، فينتابك العجب .
نعم أيها السادة لقد مات جمال عبدالناصر كما مات طلعت حرب كما سنموت جميعا!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى