أمل الكردفاني - إحساسنا الإنساني

إن كل ما نفعله وما لا نفعله غايته هو الإحساس بشعور ما. بالرضى بالتفوق، بالحب، بالسلام بالنصر، بالربح، بالكره والحقد، بالسكينة، بالأمن..
فأصل الحياة هو الإحساس الإنساني، أما انشطتنا المادية والذهنية فهي وسائلنا للوصول إلى ذلك الإحساس. فنحن نعمل لكي(نشعر بالرضى) عن أنفسنا. نحن نتزوج (لنشعر بالسكينة) نحن ندخر الأموال (لنشعر بالأمن)، نسافر ل(نشعر بالدهشة) نستمع للموسيقى ل(نشعر بالهدوء) نصلي لنشعر (بأن هناك من يرعانا في السماء).. الخ.
مشكلة الرأسمالية هي أنها ألغت كل هذا التنوع في الاحاسيس والوسائل وركزت على الإحساس بالتفوق، والذي يعني الكسب والنجاح والنصر وبالتالي هناك آخر يجب أن ينهزم أو يخسر أو يخضع. وهي بالتالي تفتقر لفهم التنوع الإحساسي الإنساني. تركز كل وسائل الإعلام على العمل وريادة الأعمال والشهرة والمشاهير، والمال، وحسابات البنوك، والسيارات الفارهة.. إنها تركز مشاعرنا في إتجاه واحد هو التفوق. وهذا خطأ. فنحن نتجاهل أن الحياة إحساس، وأن الحس يمكن أن يبلغ قمته بالتشارك والتعاون وبالإحسان إلى الآخرين ومساعدتهم دون انتظار مقابل مادي، لأننا حين نفعل ذلك نصل إلى شعور إيجابي وهذه هي غاية حياتنا. فليس هناك معنى للحياة سوى في الأحاسيس الإيجابية (الرضى، الحب، السلام، الأمن..)، إن ما توجهنا نحوه الرأسمالية هو أن نفكر بمثل عقلية المجرم؛ الذي لا يكترث بأمن الآخرين وسلامهم النفسي إذا كانت الجريمة تعود عليه بنفع ما. ونحن في الحقيقة لا نحتاج لوسائل محددة لنصل إلى النتيجة، فلكي نشعر بالرضى يمكن أن نعمل ويمكننا أن نضحي بأنفسنا من أجل الآخرين ويمكننا أن نرعى الأغنام أو نسرق بنكاً.. إن الوسائل تتنوع لكن الشعور الذي سنصل إليه واحد. ويمكننا أن نحاول الشعور بالحب بشراء الآخرين بالمال كما يفعل السياسيون أو بإغراء امرأة جميلة، أو بتربية العصافير وزيارة حدائق الزهور، او إنجاب أطفال، ولذلك فالإحساس المطلوب قد يكون واحداً ومع ذلك فلدينا خيارات عديدة بالنسبة للوسائل. ولكي نشعر بالسلام، يمكننا أن نسافر أو نستمع للموسيقى أو نبني جدراناً عالية لمنازلنا او نعيش في حالة ارتحال مستمر كما يفعل الغجر، لكن الإحساس واحد.
مع ذلك فالرأسمالية تفرض علينا وسيلة واحدة وهي أن نخوض الصراع ونهزم الأعداء ونحقق الأرباح.
يمكننا أيضاً أن نبحث عن السعادة في مشاهدة كرة قدم، أو القيام برحلة تخييم، أو الجلوس مع بائعات الشاي والقهوة في الشوارع، أو نخلع ملابسنا ونعيش مع القبائل البدائية في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو حتى أن تعاطي المخدرات،..الخ تتنوع الوسائل لبلوغ الإحساس المطلوب والخيار لنا.
لكن الخطأ في كل ما يحدث اليوم هو أن الإعلام يجعلنا نتجاهل الأصل وهو الإحساس ويفرض علينا التفكير في الوسائل بل ويحدد لنا الوسائل التي تتناسب مع التوجهات الآيدولوجية للنظام العالمي الجديد.
نتيجة لقلب الحقيقة، تتشتت أذهاننا بشدة. نظل مهمومين دائماً بمدى كفاءتنا للحصول على تلك الأحاسيس، وتلك الكفاءة محددة بمقاييس مؤسسية داخل النظام system أو النظم. ولذلك تكثر خيباتنا في الحياة، لأننا نشعر بأننا أقل كفاءة من الحصول على تلك الاحاسيس كغيرنا، من المشاهير من الفنانين والسياسيين والرياضين والمليارديرات. لا.. هؤلاء أنفسهم سيعانون من عدم الكفاءة في لحظة ما ما داموا خاضعين لمعايير النظام.. سيخسر آيلون ماسك، وسيبحث كرستيانو عن فريق يقبل به وقد تتعاطى شيرين المخدرات..الخ.. إنهم أيضاً يعانون من التشتت الذهني بسبب حصرهم للوسائل التي يمكن بها الحصول على الإحساس الذي نطلبه.
أتذكر أنني في الساعة الرابعة صباحاً، أتصلت بصديقي وطلبت منه انتظاري في الشارع، ورغم امتعاضه لكنه استجاب. من الجيزة استقلينا المواصلات إلى المنيب ومن المنيب إلى أبو النمرس، في الخامسة صباحا وقد بدأ الفجر يبزغ كنا نسير في شارع معبد طويل وعلى جانبيه حقول خضراء، وغلالات بيضاء من الضباب تسبح فوق الأعشاب والفلاحات خرجن مع الجواميس، لتشرب من الترعة الموازية للشارع. قال لي صديقي الذي لم أكشف له عن وجهتنا وهو منتشٍ بالمشهد حيث الخضرة والماء والوجه الحسن:
- طلعت ذكي ..
ببساطة نستطيع أن نصل إلى أحاسيسنا بطرق مختلفة، بسيطة جداً. لكننا نفكر في أعدائنا أكثر مما نفكر في أحاسيسنا الإيجابية.
استيقظ صباحاً، وأعد فنجان قهوة، واستمع لأغنية، وأبحث عن سلامك بوسيلة مناسبة وبسيطة. ليس بالضرورة أن تشقى في هذا العالم يا سيد إنسان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى