خالد جهاد - أنغام من نار

المقال رقم (٢٤) ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال)..

انتهى العام تقريباً ولم تنتهي سلسلتنا التي تبحث مع الناس عن أسباب (القبح والجمال) في مجتمعاتنا والتي حاولت ولا زلت الخوض في أهم التفاصيل التي غيرت حياتنا، وفي هذا المقال المتعدد الأوجه قد يرى البعض أن الحديث هو عن بعض المشكلات الفنية أو الإجتماعية، أو قد يراه من زاوية تحابي المرأة لكن من سيقرأه حتى نهايته سيفهم ما أعنيه، فلا نجامل السيدات عندما نقول أنهن من يبني المجتمع من الداخل وهذا لا يتعارض مع المسؤوليات الكبرى الملقاة على عاتق الرجل، ولكن المرأة بدءاً من دور الأم إلى الأخت والخالة والجدة والعمة تشكل البيئة الحاضنة والوسط الذي يتربى الطفل فيه حتى يصل إلى سن الدخول إلى المدرسة والتي وبحسب نوعها (قد) يلتقي فيه بمعلمته قبل أن ينطلق إلى الحياة، ولكل واحدةٍ منهن دورها وتأثيرها المختلف نفسياً وتربوياً وعاطفياً، كما أن لديها دوراً هاماً في توجيه الطفل وتقويم سلوكه وتشكيل ذوقه وتهذيبه وزيادة إدراكه وشعوره بنفسه وبالآخرين والمحيط الذي يعيش فيه مهما كان متواضعاً، فهي من يغرس القيم فيه وهي أيضاً أحد نماذج عالم (الكبار) الذين يعرفون (كل شيء) من وجهة نظره البريئة، لذا فإن (صورتها) بالغة الأهمية بالنسبة له من كل النواحي..

ولا شك أن جزءًا من هذه الصورة يشارك فيها المجتمع فقد اعتدنا منذ عقود (وأحياناً حتى الآن في بعض الأوساط) سماع بعض المصطلحات ذات الدلالة الثقافية والإجتماعية والتي تشير إلى التقدير المعنوي للمرأة بمختلف اللهجات العربية مثل (الهانم) في مصر أو (الخانم) في سوريا أو لقب (الست) والتي لها ما يقابلها من الألقاب بالنسبة إلى الرجل أيضاً، والتي كان لها وقعها الإيجابي بين الناس حيث لم تكن فقط مستندةً إلى واقعٍ طبقي بل كانت تشير أيضاً إلى القيمة الأخلاقية والمعنوية والإنسانية لهؤلاء الأشخاص، ولا شك أن ضرب صورة ومبادئ الرجل والمرأة هو هدف مهم لتغيير بنية المجتمع وتركيبته وطبيعته واتجاهاته، وهو ما حدث بشكل تدريجي مصطحباً معه مجموعةً من القيم والمبادئ والأفكار في مختلف المجالات وأماكن العمل ومن ضمنها الفن والثقافة والإعلام، ودخلت إلينا عبر بوابتين هما المال والإعلان (المتصلتين ببعضهما اتصالاً وثيقاً) والقائمة على (منطق السوق) و (العرض والطلب) و(ما يطلبه الجمهور) وصولاً إلى ما يعرف اليوم بمنطق (التريند)، والذي لا يعني المؤمنين بها جميعاً معايير الكفاءة أو الضرر الفكري والأخلاقي أو تدمير الثقافة والقيم طالما أنها تدر مدخولاً مادياً أو تحقق الشهرة بأي شكلٍ كان، حيث يمكننا رؤية أثره في كل ما حولنا من تعاملات في حياتنا اليومية من أبسط الأشياء حتى أكثرها تعقيداً والتي تتصل بشكلٍ وثيق (كلٌ في مجاله وعلى طريقته) بالنموذج الذي آثرت الحديث عنه بشكل منفرد بعد استعراض التغير في النماذج الفنية بعد دخول الألفية الجديدة..

وهنا للتذكير فإن بعض الحديث عن الأسماء الواردة هو حديث بعيد عن تناول الشق الشخصي لها أو التجريح كما أنه بعيد تماماً عن الترويج لما تقدمه، والإسمان اللذان سيتم تناولهما هنا كونهما أحدثا تغييراً في المجتمع بشكلٍ لا يمكن إنكاره على أكثر من صعيد هما (هيفا وهبي) و (روبي)، فكلاهما كانت بداية شهرته (الفعلية) من خلال عالم الغناء والفيديو كليبات المعتمدة على الإغراء والإثارة بشكلٍ مباشر من ناحية الملبس والأداء والرقص وكلمات الأغنيات وتصويرها، وهو ما خلق حالة من البلبلة والجدل الأخلاقي حول العالم العربي بأكمله منذ أول عمل قدمته كلّ منهما، حيث لم يتوقف الأمر عند حد معين بل شجع (نجاح أغنياتهما) على ظهور عدد هائل من الأسماء التي حذت حذوهما ولكنها فشلت ولم تستطع أن تستمر، وفتح النقاش على أكثر من جبهة حول صورة المرأة في المجتمع من خلال الفن والإعلام بين وجهتي نظر أحدهما يعتبرها نوعاً من التسليع للمرأة وتكريس لصورتها كجسد ومصدر للإغواء بعيداً عن النظر لإمكاناتها الفكرية والمهنية، ووجهة نظر مقابلة تعتبرها شكلاً من أشكال التمدن والتحرر أسوةً بالغرب..

ولكن الإسمين المذكورين لم يكتفيا بما قدمتاه لمعرفتهما بأنه لن يدوم طويلاً فقاما بعدة خطوات لترسيخ وجودهن في الوسط الفني وتمييزهن لأنفسهن، وأولها اختيار أغنيات ايقاعية بمواصفات خاصة تناسب أصواتهن، وتعتمد على اختيار (كلمات غريبة) تجذب الشباب لتوظف في (قالب استعراضي) مع (أشهر) الأسماء (الحالية) في التلحين والتوزيع الموسيقي ليتم تصويرها بشكل مبهر ومثير على صعيد الصورة، وبتكلفة إنتاجية عالية مع استخدام أحدث الكاميرات والتقنيات كونه سينعكس إيجابا ً في زيادة عدد الحفلات التي ستقوم بإحيائها لاحقاً بعد اكتمال هذه العناصر في كل مرة، أما الخطوة الثانية هو اتجاه كليهما نحو ترسيخ وجودها كممثلة عبر المشاركة المستمرة في الأفلام والمسلسلات من خلال أدوار رئيسية وقد يكون بعضها أحياناً بعيداً عن ما قدمنه في الغناء من إثارة..
هنا سيتسائل القارىء عن علاقة تسلسل المقالات بالمقدمة حول الطفل والمرأة بالنموذج الذي قدمته كل من (هيفا وهبي) و (روبي) ؟

سأقول بأننا إذا أردنا معرفة قيمة وتأثير شيء من عدمه بغض النظر عن رأينا فيه فعلينا رؤية تأثيره على الأرض وبين الناس، وأذكر جيداً في تلك الفترة أن ظهور هذا الشكل من الغناء والفن كان له بالغ الأثر على تفكير الجيل الصاعد فتحول إلى قدوة حيث لا توجد مقومات سوى الإعتماد على الشكل والملبس والإغراء والإثارة دون صوت ودون أي موهبة أو أي اعتبارات أخرى، وبات حلم الكثير من المراهقات أن يكن مثلهن، وما الضرر؟ ڤيديو كليب ساخن ينقل فتاة مغمورة بدون تعب إلى (مصاف نجمات الصف الأول) التي تتصدر أخبارها أغلفة المجلات والصحف وبالتالي إلى شاشات التليفزيونات ثم الإعلانات والمزيد من المال والشهرة و...و... و.....

وبعد مرور فترة من الزمن سينسى (المجتمع) البدايات بعد (ترسيخ وجودها) ولتصبح لاحقاً ضمن (لجنة تحكيم) يعتد برأيها ولتصبح الأعمال التي قدمتها سابقاً نوعاً من (الشقاوة والصبيانية) وجزءاً من (الكلاسيكيات) بعد الوصول إلى مرحلة (النضج)، وسينسى ما كتب من نقد ومن هجوم كان يتناقله الناس وستصبح هذه الأغنيات (عادية ولطيفة ويمكن للأطفال مشاهدتها)..وسنتناسى الأثر المدمر لهذه الموجة من العري تحت اسم الفن (والفن بريء منها) و كأن الخلاصة هو أن ما يهاجمه الناس اليوم ويستنفرون ضده سيتقبلونه بشكلٍ أو بآخر مع مرور الوقت بل وسيكرمونه ويندمون على (سوء فهمهم له وضيق رؤيتهم) التي لم تستوعب تفرده، وسيصفقون لأشخاص بلا إنجازات فيما يتم إقصاء أصحاب مسيرة حافلة من العطاء كل في مجاله وسيكون الشكل والمظهر هو سيد الموقف دون حاجة إلى وجود مضمون طالما أن التريند (مضمون)، فهذه الظاهرة لم تؤذي الفن وحسب بل غيرت طريقة تفكير الناس وجعلتها أكثر (عملية وأنانية) وكسرت الكثير من القيم في سبيل الماديات لمعرفتها بأن المجتمع هش، كما جعلته يتجرد من كرامته وانسانيته فقط لأجل بعض الشهرة الزائفة والمؤقتة، لذلك مخطأ من يعتقد أن أثر بعض الأعمال محدود في نطاق معين لأنه كالنار تمتد لتحرق كل ما حولها..

للسلسلة بقية..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى