أدب السجون مهند ياسين - أدبُ الأسرى الفلسطينيّين.. فعلُ اشتباكٍ مُتواصِل

"أدب المعتقلات بين الواقع والفانتازيا" كان عنوان الندوة التي احتضنتها قاعة الشهيد غسان كنفاني على أرض المكتبة الوطنية في بلدة سردا، ضمن فعاليات معرض فلسطين الدولي للكتاب بدورته الثانية عشرة هذا العام، التي اختُتِمَتْ في الرابع والعشرين من أيلول (سبتمبر) الماضي.

أدار الندوة الروائي والأسير المحرر وليد الهودلي، وشارك فيها كلٌّ من: رئيس نادي الأسير قدورة فارس، والباحث الأكاديمي أحمد عزيز، والروائي الأسير المحرر عصمت منصور، والكاتبة الأسيرة المحررة نادية الخياط.

وتحدثت الخياط في مداخلتها حول الواقعية في أدب السجون من حيث المحتوى والأسلوب، قائلةً "يمثل الأدب الذي كتبه الفلسطينيون في المعتقلات الإسرائيلية صورةً حيةً وواقعيةً للمعاناة التي مرُّوا بها وعايشوها وعبَّروا من خلالها عن حالة إنسانية وأبعاد فكرية ونضالية".

"إن واقعية ما تطرحه التجربة الإبداعية في المعتقلات تعكس حقيقة الواقع الذي عاش فيه المعتقل الفلسطيني، وتكشف بشكلٍ فعّالٍ المثل العليا الوطنية والسياسية والاجتماعية، وعن المضمون النضالي الإنساني. حاول الأدباء المعتقلون أن يكونوا صادقين مع تجربتهم أوفياء لها، يُسَجِّلونها بصدقٍ وأمانة لأنها تعكس ما في دواخلهم من مشاعر وطموحات وتحديات وروح عالية وتمسُّك بالهدف السامي الذي اعتُقِلوا في سبيله".

وأكَّدت الخياط أن إصدارات الأسيرات الفلسطينيّات شحيحة، فهناك من كتب عن تجاربهن، ولكن هذا لا يكفي، لأن هناك اختلافاً كبيراً جداً بين أن تكتُب تجربتك بنفسك كما عشتها وأحسستها، وأن يكتب آخرون عنك كما يروق لهم.

أمّا قدورة فارس، رئيس نادي الأسير، فتحدَّث في مداخلته حول قدر الاهتمام الذي أعطاه الأسرى للثقافة، للتعبير عن مخزون ما تحصَّل لديهم من ثقافة من خلال الأدب والروايات والكتب التي نشروها، يقول: "في السجن كان الكتاب ملاحقاً والقلم ملاحقاً والورقة ملاحقة، لذلك استنتج الأسرى أن العلم والمعرفة والتنوع والارتقاء بثقافتك جبهة من جبهات الصراع مع هذا الاحتلال".

"ربما معظم ما كُتِبَ من قِبَل الأسرى، والذي يمكن تصنيفه في خانة الأدب، لم يُنْشَر ولم يَرَ النور، إلا أننا في الآونة الأخيرة بدأنا نلمس حالة من النهضة وتيسير الأمور لنشر هذه التجربة الغنية بحكم التطور والاطلاع عليها، وإدراك الناس لأهمية أن يكتُبَ الأسرى عن تجربتهم وعن التجربة الكفاحية للشعب الفلسطيني بشكل عام".

وحول أدب السجون، تحدّث فارس: "معظم الأسرى في كل مراحل النضال من فئة الشباب، فمشاعرهم متأججة، يعيشون في محيط مليء بالإثارة، فمثلاً في سجن يكتظّ بألف أسير، لكل أسير منهم حكايته الشخصية التي تصلح أن تكون رواية، من ظروف نشأة هذا المناضل أو المناضلة، وكيف التحق بالثورة الفلسطينية، ودوافع التحاقه بها، وماذا فعل خلال مسيرته النضالية، وما مرَّ به في التحقيق، أو في فترة المطاردة، وكيف اجتاز الحدود. فهم يجدون أنفسهم في جوٍّ مغامرٍ، وفي سياق حالة مليئة بالإثارة والمعاني. ثم إنهم داخل السجن يصنعون التاريخ، فهم في مواجهة يومية وعلى مدار الساعة مع العدو الإسرائيلي، وهذا الأمر يضعهم في جوٍّ مليء بالصخب والعمل والتخطيط والصراع حول من انتصر، ومن هُزِم، وما الذي يجب عمله".

وتحدث الباحث والأكاديمي أحمد عزيز حول أدب السجون، باعتباره "من أعمق التجارب الإنسانية، هو حقل معرفيٌ قديم، لكن الاهتمام به يشتعل في ظل الصراعات، وما أسخنها في الحالة الفلسطينية. في الأجناس الأدبية التي يُقبل عليها الأسرى نلحظ مسألتين، أبرزهما أن هذا الأدب فعل تحويل من الفضاء المكاني السجني إلى الفضاء الخطابي النصّي"، مضيفاً: يريد الأسير من الكتابة أن يستمر في الاشتباك، وليس فقط الحديث عن الماضي، هو يتحدث عن الماضي ويرتهن إلى استرجاع التاريخ، وتأريخ الوقائع، لكنه يُصَوِّب قلمه وعينيه نحو المستقبل.

وفيما يتعلق بالفانتازيا (التخييل)، وضَّح عزيز أنها نشاط ذهني يفتح مساحات واسعة للتحليق، يتحرَّر فيها الكاتب من ذاته وذاكرته، ويذهب باتجاه تركيب الأحداث الماضية، وإعادة تصويرها، يوضح "هذه صنعة لا يمكن لكل أسير فلسطيني أن يُتْقِنها، ولا يمكن الإمساك بها إلا من خلال المصداقية، لذلك تجد بعض الأعمال تذهب باتجاه التقريرية. لكن مع تنامي أدوات الكتابة وهذه التقنيات وهذه الاستراتيجيات تمكَّن الأسرى الفلسطينيون، في داخل السجون والمحررون، أن يقدموا أدباً رفيعاً يليق بمستوى بلاغة الدم والتضحية". مؤكداً أنها بحاجة لاهتمام أكبر على المستوى الرسمي.

وفي مداخلته تحدَّث الأسير المحرَّر عصمت منصور، صاحب رواية "الخزنة"، حول وظيفة الفانتازيا والخيال في الأدب، قائلاً "أنت تركِّب أحداثاً، أو تستعيد أحداثاً، أو تختلق أحداثاً حتى تُوصِلَ صورةً ما، لكن عندما يكون الواقع أغرب من الخيال أو أصعب من الخيال، هنا تصبح بحاجة للفانتازيا (الخيال) من أجل تسهيل العمل وتبسيطه". مؤكداً أنه في روايته "الخزنة" استخدم الخيال من أجل تبسيط الصورة، وهنا كانت الوظيفة عكسية.

وأضاف: أعتقد أن الفانتازيا في أدب السجون تلعب دوراً عكسياً لتقريب صورة السجن، لأن السجن بحد ذاته حلقة غامضة بالنسبة لنا، وبالنسبة لكل العالم، فهو حالة مثيرة للفضول وللسؤال، وأحياناً تنسج حوله الأساطير. وأنا أعتقد أيضاً أن أدب السجون، وما استعان به من فانتازيا وخيال، أنْسَنَ الأسير بالنسبة لنا، فنحن كنا نعتبر الأسير هو الرجل الخارق والقادر على كل شيء، وأنه لا يتألم، ودائماً ينتصر ويتفوق. معنوياً، هذا صحيح، وصموده يشكِّل هذه الحالة في مجمل حالة الصمود، لكن في مسيرة حياته اليومية هو يتعرض للحظات ضعف وتردد وخوف، وأحياناً تراجُع وأحياناً انهيار، وبالتالي أنا أعتبر أن أنسنة الأسير من خلال أدب الأسرى، ومن خلال هذا التصوير والخيال الذي استخدمه في تصوير حياته، ساهم في تقريب الأسير لنا وتقريب صورة السجن وجعلها أكثر واقعية، وساهم في أن نستطيع التماهي مع الأسير، وأن نشعر به.

وحول فرض الأسرى لواقع وجود إنتاجاتهم في معرض الكتاب، قال "أصبحت هناك زاوية دائمة لأدب الأسرى في المعرض، وهذا يعكس اهتماماً نريده أن يستمر، وهذا حق للأسرى، ففي المعرض تجد عشرات الإصدارات فقط في الأعوام الأخيرة، ومئات الإصدارات على مدار تاريخ الحركة الأسيرة، وبالتالي هم فرضوا هذا العنوان على الندوات والمحاور".

وكشف منصور، في نهاية مداخلته، عن مؤتمر متخصص بمعايير ومقاييس أكاديمية وبحثية، يعدّ له اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين ليُعقد نهاية العام الجاري، بحيث يعمد عبر أوراقه البحثية إلى دراسة أدب الأسرى ورواياتهم وإنتاجهم من جميع زواياه .. "أعتقد أن هذا الأمر فرض نفسه من خلال هذه الكثافة في إنتاجات الأسرى التي نشهدها في الفترة الأخيرة، وهي فعلاً ظاهرة تستحق التوقُّف، فهذا الأدب يستحق أن يُدرَس وأن تُعَمَّم مضامينه، على أمل أن ننطلق منه لتطوير هذا الأدب فهو بحاجة لتطوير وأنا أعترف بذلك".

مهند ياسين


* منصة الاستقلال الثقافية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى