خير جليس إيليا حليم حنا - القراءة وأصول الثقافة

القراءة والحياة:

القراءة فن يربط بين الكتب والحياة ويفتح أبواب التفكير والتصور. وهي وسيلة لتوسيع عقولنا وتنمية تفكيرنا الحر وإيجاد ملكة النقد عندنا وزيادة ثقتنا بأنفسنا وبقيمة آرائنا الشخصية.

ويخطئ شبابنا المتعلم عندما يظن أن أيام الدراسة هي مرحلة القراءة والإطلاع. إننا عندما نقطع أكبر مرحلة دراسية لا نكون قد قبضنا على زمام الحياة بل نكون قد بنينا لأنفسنا أساساً صلباً يمكننا أن نثبت عليه أقدامنا لنسير في الحياة نحو الكمال حتى الشوط الأخير فيها. ولا يمكننا أن نساير روح العصر الذي نعيش فيه مرحلة عمرنا إلا بالقراءة المستمرة والوقوف على أسرار الحياة المختلفة التي يميط العلم اللثام عنها كل يوم ويظهر منها شيئاً جديداً كان مجهولاً. ويموت الشخص عقلياً عندما يقف عند حد محدود من ثمار العقل البشري ويتخلف عن قافلة زمانه الذي يعيش فيه.

والقراءة ليست غاية في ذاتها وإنما وسيلة للعيش عيشة إنسانية سعيدة عندما ننتفع بما نطالع انتفاعاً عملياً يقودنا إلى عمل متقن وحياة أفضل. ولا فائدة من القراءة التي لا نبغي من ورائها إلا حشو رءوسنا لنظهر أمام الناس أننا ملكنا ناصية العلم والثقافة

والكتاب وحده لا يصل بنا إلى النمو والنفسي إلا إذا مزجنا قراءاتنا بتأملاتنا وخبراتنا وتجاريب الغير وما يجري معنا وحولنا كل يوم وكل ما نراه في الطبيعة ويقع تحت حسنا وإدراكنا. فكل هذه كتب مفتوحة يجب ألا نهملها عندما نقرأ ونفكر. قال جو نسن: (من يتصور أن الأفكار لا توجد إلا في الكتب وأن في الكتب كل الأفكار، فما هو إلا واهم. والأفكار تجري مع الأنهار والمجاري. وتطفو على وجه البحر، وتتكسر على شواطئه، وتسكن التلال والجبال، وتسطع مع نور الشمس، وتنسدل طي أجنحة الظلام، إن الأفكار موجودة في كل مكان وزمان).

وتصديق كل ما هو مكتوب والأخذ به دون تأمل وبحث عن حقيقة دلالة على جهل القارئ وموته العقلي فالقارئ الحي اليقظ المتوثب لا يترك كتاباً دون أن يقتله دوساً وتأملاً ونقداً.

يقول جون ستوارت مل (يجب على طالب الثقافة أن يشعر بأنه حر الفكر، له أن يجاري الغير في معتقداتهم، وله أن يخالفهم فيها. عليه إذا شك في أمر أن يبحث وينقب جهده ليقف على ما يروقه ويقنعه. وعليه ألا يلقي الكلام على عواهنه، وألا يأخذه دون روية وإعمال فكر).

هذه القراءة الحية التي تقترن دواماً بالتفكير والتأمل والتجرد من أهواء النفس وعدم التعصب للعادات العامة والآراء المتواترة والعقائد الشائعة تخلق منا الإنسان الحي الكامل الذي يتأثر بثقافة عصره ويؤثر فيها بعد أن يكون قد أرضى من البحث حاجته وشفى غليله وأحس الحياة وأمعن فيها إمعاناً بانصرافه إلى التفكير والملاحظة والاستنباط.

القراءة والثقافة:

الغرض الأول من القراءة هو التهذيب الكامل للنفس وليس تعبئة الذهن بالمفردات والتراكيب أو الحقائق مستقلة منفردة. والقراءة الحية تنمي القوى والمواهب الإنسانية وترقيها. فإن ما نكسبه من معلومات ونهضمه ونجعله جزءاً من حياتنا الفكرية وتفكيرنا الخاص يكسبنا قوة ذهنية تتجه بنا نحو الإصلاح بأنواعه وتؤهلنا إلى الاندماج في مشاكل المجتمع الذي نعيش فيه وإنهاض ذلك المجتمع وتجديده، ويزودنا بقوة فكرية مهمتها البحث عن الحقيقة أي كانت والسعي لرقي الإنسان عقلياً وروحياً.

هذه هي الثقافة المنتجة التي تمكننا أن ننعم بالحياة، نسرح فيها ونمرح، ننشط ونستنبط فتنتعش قوانا العقلية وتظهر كفاياتنا المغمورة وتزهو مقدرتنا في أعمالنا أو في أي نشاط ابتكاري تغذيه ميولنا.

هذا كله فعل القراءة الثقافية المجدية التي قال عنها (بيكون) إنها تجعل العقل البشري ينطلق من عقاله لنقبل على كل مجهول ونفكر لنعيش ونعيش لنفكر.

التثقيف الذاتي:

يمكن للقارئ العربي أن يثقف نفسه لو توافر له الميل إلى القراءة المفيدة المحبوبة التي تهدف إلى غرض ثقافي واضح وليست تلك التي يقصد بها التسلية وقطع الوقت.

وقد طرق الكثير من المفكرين والفلاسفة موضوع التثقيف الذاتي فقال (لوك) للتهذيب الذاتي ثلاثة طرق تبتدئ الواحدة من حيث تنتهي الأخرى:

الأولى: قراءة الكتب وإدراك معانيها.

الثانية: التفكير والتأمل في تلك الأفكار والمعاني.

الثالثة: التحدث مع الناس بها واختبار سقيمها من صحيحها وسليمها من فاسدها.

ويرى الفيلسوف النفساني وليم جيمس ثلاثة طرق أخرى للتثقيف الذاتي وهي:

1 - إتقان اللغة القومية اتقاناً يمكن الفرد من التعبير عما يدور برأسه من أفكار وآراء تعبيراً صحيحاً. ويقول (باوند) عميد هارفارد في هذا الخصوص: (الرجل الذي لا تبلغ غرائزه اللغوية النضج لا يمكن أن يفكر تفكيراً متقناً أو يصل إلى نتائج دقيقة).

2 - استيعاب ما يمكن استيعابه من أنواع المعارف المختلفة حتى يمكنه مسايرة الثروة العقلية التي وصل إليها عصره.

3 - تكوين مبادئ وعادات تخلق منه رجلاً كاملاً خليق بما استوعب من ثقافة. ويعرض (أرنولد بنيت) اقتراحين عامين لتثقيف النفس بالقراءة وهما:

1 - عين اتجاه جهودك ومداها وأختر فترة معينة أو موضوعاً معيناً أو مؤلفاً واحداً وقل لنفسك مثلاً: أريد أن أعرف شيئاً عن الثورة الفرنسية أو عن اختراع السكك الحديدية أو. . . وتفرغ في زمن معين لما وقع عليه اختيارك فإن متعة عظيمة تستفاد من التخصص.

2 - فكر واقرأ في آن واحد، فإني أعرف أناساً يقرئون ويفكرون كثيراً ولا يستفيدون شيئاً. . . ذلك لأنهم يجوبون أقاليم الأدب في سيارة وكل همهم الحركة ويفتخرون بعدد ما قرءوا من كتب في العام.

ويقول (أندريه مورو): لا تهمل آراء الأجيال التي سبقتك بل يجب أن تعنى عناية خالصة بالكتب القديمة الخالدة ولنثق بما اختارته القرون السالفة من روائع الكتب، فقد يخطئ الاختيار رجل واحد وقد يخطئه جيل واحد ولكن الأجيال لا تخطئ جميعاً فشكسبير وموليير جديران بما نالا من مجد خالد على الدهر. . . ومن الضروري أيضاً أن نهتم بالكتاب المعاصرين لأننا بدون شك نجد فيهم أصدقاء يشعرون بما نشعر ويحتاجون لما نحتاج إليه).

فيما تقدم آراء مختلفة تصلح جميعاً أن يعمل بها للتثقيف الذاتي وأرى بالإضافة إليها أن تدرس كاتباً من كبار الكتاب المعاصرين وتتابع مؤلفاته وآراءه ثم تدرسها دراسة وافية فإنك ترتقي معه ذهنياً وتصل إلى مستواه وتقف على أساليب التفكير المنظم في جيلك. وبذلك تكتسب عصارة قلبه وفكره وتفكر مع إنسان يحسن التفكير ولكن لا يجب أن تنساق معه بدون تفكيرك الحر. حاول أن توسع دائرة اطلاعك واجعل ما أنتجه المفكرون أساساً لتكون لك رأياً على ضوئه. وبذلك قد تكتشف نقصاً تكمله في رسالة زميلك الكاتب فتعلو عليه في هذا الزاد العقلي وترقى بالإنتاج الثقافي.

فند آراء كبار الكتاب وحللها وقارن بين ما احتوت عليه مؤلفاتهم. ولا تكتفي بهذا، بل كرس جهودك في ناحية من نواحي الثقافة وأقتلها بحثاً وتمحيصاً وتتبع جميع ما يكتب عنها في اللغات التي تعرفها. ولكن مع هذا لابد أن تعرف أشياء كثيرة دون أن تتعمق فيها.

القراءة للاستلهام والابتكار والاختراع:

هذه هي أرقى أنواع القراءة التي تعمل عملها العظيم في حياة الفرد والمجتمع وتدفع الأمة نحو حضارة أرقى بما يدفع هذه القراءة البارعة من التفوق العلمي والأدبي والروحي.

ويقبل على هذه القراءة أصحاب العقول الممتازة الذين يرون مع الفيلسوف العالم (إسحاق نيوتن): (إن الناس مع كل ما بلغوه من المعرفة وتوصلوا إليه من الاكتشافات، ليسوا إلا أولاداً صغاراً يلتقطون الأصداف والأعشاب التي ينبذها ويقذف بها بحر الحقائق وخضم المجهولات من حين إلى آخر).

ويؤسفنا أن المضمار العلمي عندما يخلو من مثل هذا القارئ العبقري ونسأل أنفسنا ما الذي جعل الاختراع والاستنباط والتفوق العلمي وقفاً على أبناء العرب! ليس السبب في عقولهم أو ذكائهم ولكن لأنهم عرفوا لذة القراءة وانغمسوا فيها وجعلوا شعارهم (اقرأ وفكر وأعمل) فمكنهم ما اكتسبوه من محصول من فهم العالم الذي حولهم وضبطه والكشف عن قوى الطبيعة المجهولة وإخضاعها لفائدة البشر. وهؤلاء القراء البارعون هم حملة المشاعل في الأمم النواهض واجبهم ملائمة التطور والعون على التقدم والسبق.

والقارئ العبقري يقرأ ويهضم ويفكر ويجرب ليستخلص شيئاً جديداً يضيفه إلى تراثنا وحضارتنا ويعمل على تغيير حياتنا وتكييفها. وكلما أكثر من هذه القراءة المركزة المنظمة كلما وجد نفسه يقترب من هدفه فيزداد تفكيراً. وأثناء حرارة التفكير والانغماس فيه بعقله وكل حواسه تنقدح في ذهنه الأفكار الملهمة فيزداد محصوله العقلي ويزداد هو استحواذاً على العالم الخارجي واندماجا في حياته العقلية.

ومثل هذا القارئ يتبع في قراءته طريقة التفرغ والاستيعاب أي طريقة أخذ الشيء والتمكن من كل جزء من أجزاءه فتظل أفكاره في حركة دائمة تتحرك حول غرض عملي واضح فتتحرك هذه الأفكار إلى ملكة. يقول (هربرت سبنسر): المعرفة لا يكاد يعيها الواعي حتى تتحول عنده إلى ملكة، وتظل بعدها تعينه على التفكير عامة. ويأخذ هذا القارئ المفكر ينمو في نشاطه العقلي يبني المقدمات بالخبرة والمشاهدة والاستقراء والقياس حتى يصل إلى النتائج التي يهدف إليها.

وهذه القراءة المركزة المنظمة السبب القوي في توجيه حياة الأفراد الممتازين إلى نواح معينة وحفزهم لتحقيق غايات جليلة سامية عاد عليهم تحقيقها بالصيت الخالد والجاه والثروة. وأذكر على سبيل المثال أمثلة حية خالدة لما توحي به القراءة عندما تقترن بالتفكير العميق واليقظة المستمرة والرغبة القوية وتحديد الهدف وحشد الجهود.

اشترى لورد كلفن كتاباً عن الحرارة تأليف عالم طبيعي اسمه (فورييه) وانغمس في قراءته واستيعابه. فكان لهذا الكتاب أكبر الأثر في حياة الرجل بما أوحى إليه من الاختراعات.

وقرأ (بت) كتاب (ثروة الأمم) تأليف (آدم سمث) فاستطاع أن يرسم للأمة الإنجليزية سياستها الاقتصادية الرشيدة في وقته. وقرأ (سسل رودس) كتاب (الإمبراطورية الرومانية)، تأليف (جبون) فذهب إلى أفريقية يوسع نطاق الإمبراطورية البريطانية.

وقرأ (فورد) مقالا في مجلة عن العربات التي لا تجرها الخيل؛ فأوحى إليه هذا المقال بالتفكير في صنع السيارة ودأب على تحقيق هذا الحلم الجميل حتى كان له ما أراد.

كل من هؤلاء عرف كيف يستفيد مما يقرأه، وهضم ما قرأه فأصبح جزءاً من كيانه العقلي وحجراً أساسياً لابتكار أو خلق أو عمل شيء جديد.

والأديب الفنان كالمخترع ورجل العلم يقرأ للابتكار والاستلهام وليس ليشبع جشعه الثقافي فقط؛ بل لتوحي إليه الفكرة المقروءة بفكرة جديدة، وهو في قراءته يحلق في الآفاق العليا منطوياً على نفسه، ولا يتقيد بمكان وزمان بالغاً المكانة التي يستشرف منها للإلهام ويتعرض فيها بروحه وبصيرته لنبضات الوحي فيمزق حجب الأشياء وينفذ تواً إلى صميمها، ويصل إلى أعمق الأغوار من الفكر الإنساني الأصيل.

هكذا يقبل القارئ الأديب على القراءة لتفتح لذهنه آفاقاً جديدة فتنهال عليه الخواطر التي تضطرب في نفسه وتريد أن تظهر، وتملأ قلبه وتريد أن تفيض، وتكرهه على أن يأخذ القلم ويسجل ما تمليه عليه تلك الأصوات الخافتة التي يسمعها داخل عقله وقلبه ويلمسها بإحساسه المرهف في جوه السحري الصامت. إنه لا يقرأ لينقل ولكن ليحس نبضات الفن والإلهام والبصيرة.

(أسيوط)

إيليا حليم حنا

مدرس أول للغة الإنجليزية والآداب
مدرسة النهضة الوسطى: الأبيض - سودان


< مجلة الرسالة‏ | العدد 842

بتاريخ: 22 - 08 - 1949


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى