فاتن فاروق عبد المنعم - بقعة ضوء (٦)

(٦)

نيران المجوس.. أطفأها الإسلام:
مازلنا مع الدروس المجانية من معركة القادسية، كان كسرى الفرس يدعى يزدجرد، بينما الحاكم الفعلي للعراق العريق كان رستم الأرمني،

وطبقا لوصف كينيدي له (وهو من يزدري المصادر العربية) يقول عنه أنه رجل داهية، ذكي، ومحارب قدير، عالم فلك واسع المعرفة، يهتم بنصائح الكهنة،

وقد كتب قصيدة مطولة لأخيه يتنبأ فيها بالهزيمة ونهاية السلالة الساسانية، وينعي نفسه لشعوره بموته في هذه المعركة، وينعي المملكة الفارسية المحكوم عليها بالموت،

وحث كسرى على ألا يجارب العرب إلا إذا دعت الضرورة القصوى، وكان وحده من بين الفرس الذي اعترف بالقدرات العسكرية والالتزام الديني للبدو الذين يزدريهم الفرس وأدرك أن النصر سيكون حليفهم.

ربعي بن عامر التميمي:
أرسل إلى كسرى ووضعته السلطات الفارسية تحت الحراسة وأخذوه لمقابلة رستم، واتفق الفرس على أن يرهبوا هذا البدوي ويخيفوه،

فأبدوا العناية بثراء ورقي البلاط الفارسي وتم عرض جواهر الزبرجد والأرائك والسجاد، ورستم نفسه جالسا على عرش من الذهب مزين بوسائد مطرزة بخيوط من الذهب،

وهذا ما نسميه اليوم ممارسة الحرب النفسية (والتي مفادها أنتم لا تقدرون علينا) عليه لكسره داخليا فيتهيب لقاءهم عسكريا (وهذا الفعل مازال يمارس من العدو حتى يومنا هذا في كل سلوك يسلكه حريص على كسرنا من الداخل، سليم العقيدة والطوية يعرف أن لا خير في كثير من نجواهم، ومريض القلب يمضي كسير مهطع)

أما حالة ربعي بن عامر فقد جاءهم على فرس مغبر أشعث، سيفه لامع ولكنه في غمد من القماش المشعث، وكان رمحه مربوطا بأوتار الجمل، وكان معه درعا أحمر مصنوعة من جلد البقر على وجهها أديما أحمر مثل الرغيف.

استمتعوا معي بهذه السطور كي تعرفوا كيف يقيم الرجال ولماذا اختار الله هذا النموذج الذي يزدريه كل سقيم القلب محاط بالحجب أينما ولى وجهه، وكل الذين يعمهون.

يقول كينيدي المشترك مع الفرس في احتقار «البدو الأجلاف»:
وبدلا من ترويعه، كان البدوي جريئا غير هياب، وكان منظره مستفزا عن عمد، كانت عباءته غطاء راحلته وصنع فيه ثقبا وكان يربطه بحبال من القصب،

وكان غطاء رأسه عبارة عن حبل من حزام سرج راحلته لفه مثل عصابة الرأس، وفوق رأسه أربع خصلات من الشعر، كانت تبرز مثل قرون الماعز، أما سلوكه فكان في مثل خشونة مظهره،

وبدلا من أن يترجل من فوق فرسه حسبما أمر قاد فرسه حتى وطأ السجاد، وعندما نزل مزق وسادتين لاستخدامهما في ربط حصانه،

وعندما طلب منه أن يضع أسلحته، رفض في عناد، قائلا أن الفرس قد دعوه وعليه أن يقبلوه كما هو أو يذهب عائدا،

وعندما أحضروه في النهاية في حضرة رستم كان سلوكه مدمرا في كبريائه، فقد استخدم رمحه في إحداث حفر وخدوش في السجاد والوسائد بحيث أنه لم يبق فيها ما لم يتضرر، وعندما سألوه عن السبب فيما فعل أجاب:

«إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه»

ثم سأله رستم مالذي جاء بك إلى هنا فأجاب:
«الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى سعة الإسلام،

فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا، حتى نفضي إلى موعود الله»

ولما سأله رستم عن موعود الله أجاب:
«الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى»

سأله رستم ما إذا كان رئيس المسلمين فأجاب:
بأن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض، يجير أدناهم على أعلاهم.

فطلب رستم وقتا للتشاور مع رفاقه وبعد تردد أجابهم ربعي بمدة ثلاثة أيام،

ولما ذهب ربعي وبقى رستم مع رفاقه من النبلاء الفرس، أعرب عن إعجابه بما قال ربعي فخاف الفرس من أنه يتخلى عن ديانة الفرس بناء على نصيحة هذا «الجلف»

فقال لهم رستم كلام يكتب بماء الذهب: «لا يجب أن تنظروا إلى ثيابه وإنما إنظروا إلى الرأي والكلام والسيرة»

مازال الفرس على كبرهم وغطرستهم:
توجه الأعيان وتفحصوا أسلحة ربعي وانتقدوا نوعيتها،

ولكنه أظهر لهم أنهم كانوا يقصدون العمل عندما أخرجوا سيفه من غمده «كأنه شعلة من نار»

وعندما جاء أمر الرمي بالنشاب، ثم رمى ترسا ورموا حجفته (ترسه) فخرق ترسهم وسلمت حجفته وعاد ربعي إلى معسكر المسلمين ليمنح الفرس وقتا يتدبرون أمرهم.

طلب رستم عودة ربعي في اليوم التالي فأرسل له المسلمون رجلا آخر للتأكيد على فكرة أنهم متساوون جميعا ومتحدون،

وفعل مثلما فعل ربعي من وطيء السجاد الثمين وقدم لهم بجسارة الاختيارات الثلاثة

«الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء ونمنعكم إذا احتجتم، أو المنابذة (القتال)»

فاقترح رستم هدنة ووافق العربي على أن تبدأ من الأمس لمدة ثلاثة أيام.

المغيرة بن شعبة:
طلب رستم من العرب رجل ثالث (مازال رستم يراوغ) فأرسلوا له المغيرة

فكان أكثر أهمية من الاثنين السابقين، وقدر له أن يكون له دورا رئيسيا في فتح العراق والاستقرار به،

وقاموا باستعراض ثرائهم وسطوتهم أمامه من الترفل المفرط في الذهب والديباج والسجاد والأثاث والثياب والرياش الفاخر،

وفعل معهم مثلما فعل ربعي من وطيء سجادهم والقفز على كرسي العرش بجانب رستم مسافة رمي رمح مبديا احتقاره لهم،

فرده الفرس بقسوة فرد عليهم بخطبة قصيرة عن المساواة ترجمها له عربي من الحيرة،

وكانت حجته أن المسلمين يتعاملون مع بعضهم البعض بالمساواة فلا طبقية ولا تراتبية، فكيف لا يفعلون الشيء نفسه؟!

وخاطبهم المغيرة بأنهم مغلوبون وهزومواولكنهم سينتصرون مرة أخرى،

في الوقت نفسه قالوا أن المغيرة على صواب ولكن الدهاقين ملاك الأراضي قالوا إن عبيدهم كانوا يلعنون أسلافهم لأنهم لم يأخذوا العرب مأخذ الجد.

مساومة رخيصة:
مازال الفرس لا يعون أن الإسلام إذا تلبس سفلة القوم يحيلهم إلى الثريا قلبا ومكنونا وسلوكا،

وقف المترجم بين رستم والمغيرة وهما يتبادلان خطبا قصيرة،

ومازال رستم على صلفه وغروره يذكر المغيرة بمجد الفرس وعزتهم ومنعتهم

وأن على المسلمين ألا يغتروا بنصرهم عليهم لأنه شيء مؤقت وحتما سيعيد لهم الله مجدهم،

وأخذ يذكر المغيرة بأن العرب كانوا دائما يشكون العوز والحاجة

ولما داهمتهم المجاعة وقفوا على الحدود يطلبون المساعدة،

ثم عرض عليه أن يعطي كلا منهم حمل تمر وثوبين ويرحلوا ولن يقاتلهم الفرس أو يأسروهم.

توقف المفاوضات:
كان رد المغيرة على رستم مفحما بما يكفي لأن يفقد أعصابه ويطلق التهديد المطلق حيث قال:

أن الدافع لقتالهم فقط التبشير بالدين وأضاف

«وإن احتجت أن نمنعك فكن لنا عبدا تؤدي الجزية عن يد صاغرا، وإلا فالسيف إن أبيت…»

فرد رستم في عصبية: بأن الفرس سيقتلونهم قتلا ودعم تهديده بالقسم بالشمس ألا يبقي منهم أحد.

بعد أن رحل المغيرة قال رستم لأعيان الفرس:
«أن أحدا لا يمكن أن يصمد أمام قوم بهذه الأمانة والذكاء والإخلاص للهدف»

هيو كينيدي يشكك في مصداقية المصادر العربية التي ذكرت ذلك وأن هذا آنف الذكر دونه الفاتحون المأخوذون ببيريق النصر ولكنه في الوقت نفسه لم يذكر أية أسباب،

منطقية أو حتى دون المنطقلهزيمة الفرس وانتصار المسلمين؟

الحقيقة أن ما يعنيني في هذه السيرة هم الرجال أنفسهم، كيف كانوا وكيف أصبحوا بعد إسلامهم،

أولئك المدفوعون بنقاء وسلامة العقيدة التي أورثتهم الثقة في موعود الله أولا

ثم الثقة في المتن الوحيد الذين لم يعرفوا غيره، القرآن وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة السلام.

وبالمثال يتضح المقال:
قارن بين توصيف رقة حال الفاتحين الأول وثراء ونقاء داخلهم ونضارة إيمانهم،

وبين الخليفة العباسي الغارق في الملذات والذي سحله التتار في شوارع بغداد،

وكذلك ملوك الطوائف بالأندلس الذين كانوا يرفلون في النعيم المقيم،

الغارقون في ارتشاف كؤوس الطلا والسقوط بين أفخاذ الجواري وسكنى القصور

ومدى الهوان الذي بلغوه من دفع الجزية لألفونس والاستعانة به

كي يغيروا على بعضهم البعض بعد أن غرقوا في مرج سحيق من الآثام تلو الآثام،

ومازلنا ندفع الجزية لكل ألفونس ويأكل بعضنا البعض، فهل عرفنا الداء والدواء أم مازالت الرؤية مضببة؟

وللحديث بقية إن شاء الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى