محمود شقير - ملحمة اسمها "سعيد وزبيدة"

1

يكتب محمود شاهين رواية ملحمية مستعينًا بما تراكم لديه من خبرات في كتابة السرد الروائي، وبما لديه من قدرات في تطويع لغة السرد لكي تستجيب لما يستدعيه خياله من صور فنية، ومن مشاهد تصل حدود الفانتازيا والغرائبية، كأن تتعرى نساء القبيلة أمام بطل الرواية الملحمي العبد سعيد بن قعدان حين يبدأ عزفه على الناي، فيكون القارئ في حالة استقبال ناجز لهذه المشاهد التي يهيئ لها شاهين السبيل للدخول إلى وعي القارئ من دون تعقيدات

يستوحي محمود شاهين في روايته هذه روح الملاحم الشعبية التي ظهرت في تراثنا مثل عنترة والزير سالم والأميرة ذات الهمة، وكذلك الحكايات الشعبية التي يظهر فيها أبطال يستميتون في الدفاع عن حبيباتهم، ويضيف إلى قصص الحب التي ظهرت في أدبنا وفي الآداب العالمية قصة حب لا تقل إدهاشًا عن تلك القصص، فيصبح حب سعيد وزبيدة إضافة أكيدة إلى قصص الحب بين قيس وليلى وعنترة وعبلة وروميو وجولييت وغيرها من قصص الحب الخالدة في الثقافة الإنسانية، ولا بد من التنويه أن قصة الحب هذه بين سعيد وزبيدة لها سمات فلسطينية؛ حيث تدور وقائعها في القرن التاسع عشر، في زمن الإقطاع وبقايا العبودية، في قبيلة بدوية تعيش على مساحة واسعة من الأرض واقعة على تخوم مدينة القدس.

2

تبدأ الرواية من لحظة مثول العبدة سجاح المقيمة في منطقة حوران بين يدي العرافة التي تتنبأ للطفل الذي تحمله سجاح في رحمها، بأنه سيكون طفلًا وسيمًا قويًّا وعازفاً ماهراً. لكنه سيتعرض للإخصاء وأهوال فظيعة اُخرى كيلا تغرم به النساء حين يكبر،يفقد على أثرها قوته الخارقة وقدرته على العزف، ومن جراء هذا التنبؤ المشؤوم تغادر سجاح وزوجها العبد قعدان حوران بإذن من سيدهما الإقطاعي الذي باعهما لتاجر عبيد، وذلك هروبًا من المصير الذي سيتعرض له الطفل المنتظر، ويأخذهما قدرهما في نهاية المطاف إلى فلسطين ليكونا في خدمة الشيخ عاقب كبير قبيلة العقايبة. ولم تكن رحلة سجاح وقعدان هينة قبل الوصول إلى حمى الشيخ عاقب، ثم إن الشيخ نفسه أعجب بجمال سجاح، ما دفعه إلى التفريق بينها وبين زوجها لتكون محظية له لسنوات عديدة

3

بلغة سردية تبدو محايدة، لكنها في الحقيقة ملتحمة بكل التفاصيل المرّة المؤلمة، يتابع محمود شاهين مصير العبدة سجاح التي احتملت كل الصعاب من أجل أن تواصل حياتها، واحتملت بكثير من الصبر مصير طفلها الذي خصاه الشيخ عاقب حين رآه يتفوق على كل الأطفال في ساحة اللعب، خصاه الشيخ كيلا يكون سببًا في افتتان الفتيات به، لكن زبيدة ابنة الشيخ التي ولدت في اليوم ذاته الذي ولد فيه سعيد، ظلت ملازمة له منذ الطفولة، ولم يتمكن والدها الشيخ من إبعادها عنه برغم ممارسته الضغوط عليها وعلى سعيد؛ حدَّ إجبار هذا الأخير على التنكر لحب زبيدة، لعلها تبتعد عن حبيبها ولكن من دون جدوى.

4

لم يكن الإخصاء هو الممارسة الوحشية الوحيدة ضد سعيد، بل إنه تعرض لمؤامرة من أبناء الشيخ الذين اغتاظوا من سطوع نجمه في الحروب التي خاضتها القبيلة؛ إلى حدِّ أن ولّاه والدهم الشيخ قيادة الجيش، فاضطر أمام احتجاجهم إلى نزع صلاحيات سعيد وإعادته راعيًا لأغنامه، ولم يكن سعيد يتذمر أو يشكو من أي إجراء يتخذه الشيخ بحقه، بل كان يمارس حياته بتفوق وإبداع في كل شأن يوكل إليه، فقد حمى أغنام الشيخ من هجمات الذئاب، وحين صار عزفه المثير على الناي يحفّز النساء على التعرّي أمامه وفي بيوتهن وأينما كنَّ، فقد كان لا بدّ من قطع أصابع يديه لكي يكف عن ممارسة تفوقه الذي لا يروق السادة المتحكّمين في رقاب الناس البسطاء المسالمين.

هنا؛ وكما يؤكد الروائي محمود شاهين، فإن خضوع سعيد لهندسة حياته على النحو الذي يلائم مصالح السادة عبر الإخصاء والإزاحة من مواقع القيادة وعبر تقطيع الأصابع وغير ذلك من ممارسات، إنما ينبع من هذه المصالح التي تستهين بكل شيء في سبيل الحفاظ عليها، وليس من تدبير القدر، بحيث يبدو تنبؤ العرّافة بما سيحل بسعيد الذي ما زال جنينًا في بطن أمه، مجرد حيلة فنية ابتدعها شاهين ببراعة، ليضع المتلقي منذ البداية في طقس الملحمة التي تتكشّف بعض ملامحها، ثم يجري الغوص في التفاصيل في ما سوف يلي من أحداث.

5

وهنا أيضًا؛ يفترق مصير العبد سعيد، البطل الملحمي لرواية سعيد وزبيدة عن مصائر أبطال حكاياتنا الشعبية الذين يعودون إلى أهلهم وقد انتصروا على كل المصاعب، وذلك من باب التخفيف على الناس المسحوقين الذين يستمعون إلى الحكايات، وإيهامهم بنصرٍ متخيّل ينقضه بلؤم واقعهم المأزوم، حيث يجاهر محمود شاهين بالحقيقة المرّة التي تقول: لا يمكن لإنسان بسيط في أسفل سلم التراتب الاجتماعي في مجتمع طبقي أن يهزم الشر بمفرده مهما سمت قدراته الجسدية والذهنية، بل إنه يظل عرضة للهزيمة وللموت، إنما من دون يأس أو تخاذل أو خضوع، وبتأكيد على القيم النبيلة التي ينبغي أن تكون في خدمة الناس برغم الظلم والعسف والتحكم بمصائر الناس.

6

في الرواية سرد مُتأنٍّ رصين لحكاية حب حافلة بالقسوة وبالمفاجآت بين العبد سعيد بن قعدان وبين الفتاة الجميلة زبيدة ابنة شيخ القبيلة، التي رفضت كل الخطّاب من أجل حبّها الصادق الذي اضطرها في النهاية إلى أن تضع حدًّا لحياتها حين رأت حبيبها سعيد يذوي ويموت أمام عينيها، فآثرت أن تموت إلى جواره؛ لنكون أمام قصة حب شبيهة بقصص الحب التي خلّدها التاريخ.

وطبقًا لذلك؛ تنتهي الرواية بمشهد ملحمي مؤثّر لا يمكن نسيانه، إذ تنهي زبيدة حياتها لتموت إلى جوار حبيبها الذي مات محرومًا من الوصال مع حبيبته على النحو السوي الذي تفترضه حياة سوية لا ظلم فيها ولا عبودية ولا استبداد.

تحية للروائي القدير محمود شاهين

محمود شقير/ القدس

22/09




* مقدمة الكاتب الكبير محمود شقير لرواية سعيد وزبيدة الصادرة حديثا عن مكتبة كل شيء في حيفا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى