د. أمجد ريان - لم يعد مكان للحقيقة المطلقة.. قراءة في قصيدة "تفاصيل صغيرة" للشاعرة : أريج محمدأحمد

يشعر البعض بأننا فقدنا الثقة فى ثقافتنا ، وأنه ينبغي أن نبدأ من جديد بعد أن نمحى كل شىء ، بعد التغيرات الكبرى للنظرية النقدية ، والفلسفة ، والمعمار ، والفنون ، والأدب والثقافة .
لقد انتفت قضية الذات التقليدية ، وتحرر الفكر الفلسفى والإبداع الأدبي من غطرسة الحقيقة المطلقة ، والمثالية قد وصلت إلى مأزق .
وفي نص أريج "تفاصيل صغيرة" لاتوجد ذاتية مركزية يدور حولها النص بل توجد شرائح من معاني متتالية ، وتفاصيل صغيرة تمثلها جمل قصيرة أو مقاطع قصيرة :
فنجد لديها : الشعور الذي أعاد الفكرة
ثم : الكون قصيدة
ثم : مدن ترقص على أوتار الاغتراب
ثم : أشجان قديمة تتكدس على هيئة أوراق متغضنة
ثم : مقطع التقسيمات الهندسية : تنجبنا الشمس
ينجبنا المطر
ينجبنا الصقيع .. الخ
ثم : المقطع الأخير: نحن معاً في حقائب الأيام
نسافر نحونا .
لاتوجد إذن ذات مركزية يدور حولها النص (مثلما كان في الكتابات الشعرية السابقة) بل يوجد منطق التتالي ، والنمو العفوي ، أو النمو الذي يبدو عفوياً بسبب مهارة الشاعرة ، ولكن بالطبع فالعقل قد تدخل لابتداع هذه المعاني والصور الشعرية الفائقة المتتالية .
الشعرية في جوهرها الإبداعي خلق ، وطاقة تخييل خلاقة ، ودرجة وعي الشاعرة ، وثقافتها الإبداعية هي التي تخلق المتغير التخييلي الجمالي ، وقيمة أي نص تزداد بمقدار تميز الرؤية التخييلية المتوهجة ، وشاعرتنا المبدعة ترتقي بمتخيلاتها الشعرية آفاقاً من الحراك الرؤيوي الذي يضمن قوة التأثير في المتلقي من خلال صورها الشعرية المبهرة :
رسمَ للحرف أجنحةً فانطوت كل الحدود
بات الكون بداخلي يحتمل أن يصبح قصيدة .
ورؤى الشاعرة الجمالية تفرض عليها أن تواكب العصر، وتعيد خلقه من خلال تقنياتها الشعرية :
نحن معاً في حقائب الأيام
نسافر نحونا في كل حين
في صمتنا كل الكلام
في شعرنا أصل الحكاية .
والشاعرة في تجربتها دقيقة في خلق الصورة الشعرية المدهشة ـــ كما سبقت الإشارة ــــ ، نابعة من الذاكرة : ذاكرة الحزن ، أو الفرح ، أو الحب , أو الأحداث اليومية المعيشة .
ولدى الشاعرة قدرة على التوليد والتخييل، واقتران" الرؤيا" بالصورة الشعرية ، ولديها تقنيات شعرية ذات طابع جديد مختلف ، ولغتها الشعرية قريبة من الأجواء العامية حتى لو خلت من الألفاظ العامية ، والروح العامية اليوم أصبحت تميز معظم النصوص الإبداعية ، لأنها أقرب إلى طبيعة حياتنا اليومية .
ولدى الشاعرة قدرة خاصة على ابتداع التقسيم الجمالي الهندسي المحسوب ، من خلال هذا التكرار الذي يصنع جاذبية لغوية ويعطينتا إحساساً بالعفوية في الوقت نفسه ، وفي هذا المقطع على سبيل المثال تضع الشاعرة بعد المفردة المعرّفة : عنصرين يكوّنان مبتدأ فى جملة تالية ، فالشمس (المعرفة بالألف واللام) في الجملة الأولى يأتي بعدعا عنصران (ظلان) وهذان العنصران يشكلان مبتدأ ، وما يليه جملة في محل رفع : (خبر) : يلتقيان في قبلة .
تنجبنا الشمس : ظلان يلتقيان في قبلة
ينجبنا المطر : نقطتان تعلقان في مظلة
ينجبنا الصقيع معطفان
يضمهما العناق
ينجبنا الربيع :
زهرتان تحملان سر اللون
ورؤية الشاعرة حزينة باستمرار ورافضة للعالم ، وهذا يجسد موقفاً واضحاً يسعى للتغيير والخروج من قيد المحبطات التي نعيشها في كل يوم :
ترقصُ المدن على أوتار الاغتراب
حد التعرق
إنها الشاعرة المتمردة الباحثة عن حلول لمشكلات الواقع والإنسان ، لتحقيق التغيير ورفض الاستلاب ، ولديها أشكال متعددة للتمرد في مقدمتها السخرية بأنواعها :
أشجان قديمة
تتكدس على هيئة أوراق متغضنة
تحجب الرؤية
وتحبس اللغة في لون الوحدة
والنزعتة التجريبية في حد ذاتها تتضمن نوعاً من التمرد على ما هو قائم من القيم والأخلاقيات والأسس السائدة ، والسخرية منها ، مما سنعرضه في دراسات أخرى تالية .



القصيدة

تفاصيل صغيرة ...
ما كان شيئاً عابراً
ذاك الشعور أعاد تشكيل الفكرة
رسمَ للحرف أجنحةً فانطوت كل الحدود
بات الكون بداخلي يحتمل أن يصبح قصيدة
وأن يمسي لحناً :
فترقصُ المدن على أوتار الاغتراب
حد التعرق
ومساحاتُ الفراق تتقلص
بكلمة تكسر العناد
بابتسامةٍ على شفاه الزهر
تغازل الندى
وتسافر في الأيام عطراً
يؤرخ للحظات من العمر لا تشيخ
فيها خلاص الروح من
أشجان قديمة
تتكدس على هيئة أوراق متغضنة
تحجب الرؤية
وتحبس اللغة في لون الوحدة

*
نحن بداية تعتمد كل الفصول
لانجاب المزيد من التفاصيل
تنجبنا الشمس : ظلان يلتقيان في قبلة
ينجبنا المطر : نقطتان تعلقان في مظلة
ينجبنا الصقيع معطفان
يضمهما العناق
ينجبنا الربيع :
زهرتان تحملان سر اللون

*
ميلادٌ للدهشة
نحن معاً في حقائب الأيام
نسافر نحونا في كل حين
في صمتنا كل الكلام
في شعرنا أصل الحكاية .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى