فلاديمير نابوكوف - بيلغرام..

كان الشارع، وهو ينعطف جانبا بواحد من الترامات يبدأ من زاوية شارع رئيسي مزدحم بالناس ويمتد في الظلام خاليا من واجهات المحلات ومن أية أفراح، ثم، وكأنه أراد أن يعيش حياة جديدة شرع يغير اسمه بعد ساحة مستديرة التف الترام حولها بقرقعة ساخطة، وبعد ذلك أخذ الشارع يزداد حيوية. فظهر على الجهة اليمنى حانوت للفواكه وفيه أهرامات من البرتقال المضاء إضاءة باهرة، وحانوت للتبغ فيه تمثال لزنجي معمم صغير، وحانوت لبيع السجق مليء بأفاع سمينة بنية اللون، تليه صيدلية، فعطارة ثم فجأة دكان لبيع
الفراشات، ليلا، ولا سيما في الليالي الماطرة حين يكون الأسفلت براقا كجلد فقمة، قلما يمر أحد دون أن يتوقف لحظة أمام علامة الطقس البديع هذه. كانت الفراشات المعروضة ضخمة ساطعة الألوان. وكان المار يحدث نفسه: «يالها من ألوان! كم هي نادرة»، ويتابع طريقه. وتظل الفراشات عالقة في ذاكرته بعض الوقت. فالأجنحة ذوات الأعين الكبيرة المناهلة والأجنحة اللازوردية، والأجنحة السوداء بتألقها الزمردي تستمر تسبح أمام ناظريه الى أن يضطر لتحويل انتباهه إلى ترام يدنو من المحطة. وتحتفظ ذاكرته أيضا بمجسم للكرة الأرضية وبأدوات أخرى وجمجمة فوق قاعدة من كتب سميكة.
بعدئذ تتالى حوانيت عادية من جديد خردوات مستودع فحم، مخبز، وثمة في الزاوية حانة صغيرة، أما صاحب الحانة، وهو رجل هزيل ذو جلد متهدل تضغط عليه ياقته، فكان عالي المهارة في صب الكونياك الرخيص من زجاجة بمنقار في كؤوس صغيرة، وكان معلما بارعا في صوغ العبارات الظريفة. وكل مساء تقريبا كان بائع الفواكه وبائع الخبز والمصلح وقريب الساقي يتحلقون حول طاولة دائرية بالقرب من النافذة وينهمكون يلعب الورق، وسرعان ما يطلب الرابح بيرة للأربعة، الأمر الذي لم يكن يسمح لأحد في المحصلة بأن يثري، وفي أيام السبت كان يجلس إلى طاولة أخرى بالقرب منهم رجل وردي اللون، جسيم، وخط الشيب شاربيه المشذبين بعصبية، فيطلب "روما" ويدك غليونه وهو
يتأمل اللاعبين بعينين دماعتين لامباليتين، كانت اليمنى منهما مفتوحة على نحو أكثر اتساعا من اليسرى. ولدى دخوله كانوا يحيونه دون أن يرفعوا عيونهم عن الورق. كان المصلح يبل إصبعه بلعابه ويرمي ورقة، وكان بائع الخبز يعد واحد، اثنان ثلاثة، وهو يرفع الأوراق عاليا وبقوة يضرب الطاولة بكل واحدة منها، ثم تعقب ذلك دفعة من البيرة.
أحيانا كان يتوجه أحدهم إلى الرجل الجسيم ويسأله عن سير التجارة في دكانه فيبطئ هذا في الرد أو لا يجيب البتة في كثير من الأحيان. وإذا ما مرت ابنة صاحب الحانة بالقرب منه وهي فتاة ضخمة ترتدي فستانا صوفيا مخططا بمربعات، كان يجهد ليربت على عجيزتها الرجراجة، دون
أن يغير إبان ذلك من ملمحه المتجهم أنه يتضرج حمرة وحسب. كان صاحب الحانة الظريف يسميه السيد البروفيسور، وينضم إلى طاولته أحيانا قائلا : إيه كيف يعيش السيد البروفيسور؟ - فيطيل هذا النظر إليه وهو يمصمص غليونه لاهثا قبل أن يرد عليه، ثم يمط شفته من تحت مشرب الغليون على شكل زورق صغير شأن فيل يعتزم تلقي ما يحمل إليه خرطومه، ويتلفظ بأي شيء فظ لا يضحك، فيعترض صاحب الحانة بعنف، وإذ ذاك يترنح الجالسون قريبا منهما مقهقهين وهم يحدقون بأوراقهم.
كان يرتدي بذلة رمادية فضفاضة تكشف عن جزء كبير من
صدريته، وإذ يتخطى اللقلق أعماق ساعة الحانة برمشة عين كان بحركة بطيئة، وهو يمتعض من الدخان يخرج من جيب صدريته بصلة فضية فينظر إليها ممسكا بها متدلية على كفه. وفي منتصف الليل تماما كان ينفض عليونه في المنفضة ويدفع حسابه، ثم يعد يده بالتحية مودعا صاحب الحانة، فابنته، فاللاعبين الأربعة ويخرج بصمت. كان يسير على الرصيف بشيء من العرج، أخرق الخطى، وساقاه شديدتا الضعف والنحول قياسا إلى جسمه الثقيل، وما أن يتجاوز واجهة حانوته حتى ينعطف حالا نحو باب في الجدار الأيمن ثبتت في وسطه لوحة معدنية تحمل اسم بيلغرام. كانت شقته صغيرة باهتة، تطل شبابيكها الكئيبة على الفناء، وكان يمكن الخروج نهارا إلى الشارع عبر الدكان، عبر غرفة الضيوف الضيقة مباشرة، حيث توجد أريكة كابية الحمرة وآلة خياطة قديمة مرصعة بالزخارف مرورا بمجاز مظلم يغص بسقط المتاع، وفي ليالي السبت، عندما يدخل بيلغرام إلى حجرة نومه، حيث يوجد فوق سريره العريض عدد من صور فوتوغرافية ذابلة لسفينة واحدة. كان يجد إليانورا نائمة كعادتها فيدمدم بصوت خفيض، ويتلمس طريقه إلى مكان ما ومعه شمعة مشتعلة، ثم يعود فيغلق الباب بقوة، ويلهث وهو يخلع جزمته، وبعدئذ يستغرق طويلا في الجلوس على طرف الفراش، فيما تبدأ زوجته، وقد استيقظت تئن في مخدتها مقترحة عليه أن تساعده في
خلع ثيابه، فيأمرها إذ ذلك بهدير منذر في صوته، أن اهدئي، ثم يكرر كلمة اهدئي بضع مرات بوحشية متزايدة. وبعد الجلطة، يوم كاد يموت من ضيق التنفس وعجز عن الكلام طويلا، تلك الجلطة التي أصابته في العام الماضي، تماما وهو يخلع جزمته، شرع بيلغرام يذهب إلى النوم متوجسا دونما رغبة، ثم كان وهو مستلق تحت لحاف الريش إلى جانب زوجته يبلغ به الغضب مداه إذا ما تساقطت قطرات ماء من الصنبور في المطبخ المجاور. كان يوقظ زوجته فتجر قدميها إلى المطبخ قصيرة القامة في قميص نوم باهت شعراء الساقين، ووجهها صغير يلمع من دفء الريش. كانا متزوجين منذ ربع قرن وعقيمين، لم يكن بيلغرام يريد أولادا، إذ لم
يكن في وسع هؤلاء أن يكونوا إلا عقبة إضافية على طريق تحقيق ذلك الحلم المشبوب الثابت المضني والرغيد الذي كان مريضا به منذ أن وعى نفسه. كان ينام على ظهره دائما منكسا طاقيتة الليلية على جبينه، وكان نومه مكرورا عميقا وصاخبا، نوم تاجر طيب، تستطيع حين تنظر إليه أن تفترض أن نوما بهذا المظهر الوقور خال من الأحلام. أما في الحقيقة
فإن هذا الرجل البالغ الخمسة والأربعين عاما، الثقيل والفظ، الذي تربى على السجق بالحمص والبطاطا المسلوقة، والمطمئن إلى جريدته واثقا، الموفق في جهله بكل ما لا يمس صبوتة الوحيدة الفارعة، كان يرى، دون أن تعرف زوجته وجيرانه أحلاما غير عادية. كان ينهض متأخرا أيام
الأحد، فيشرب قهوته على دفعات ثم يخرج مع زوجته ليقوم بنزهة صامتة بطيئة. كانت إليانورا تثابر على انتظار التلذذ بها طيلة الأسبوع. أما في أيام العمل فكان يبكر بفتح دكانه قدر المستطاع، أخذا في حسابه الأطفال الذين يمرون به في طريقهم إلى المدرسة، ذلك أنه في المدة الأخيرة كان قد
ضم إلى بضاعته الأساسية بعض المستلزمات المدرسية، ويصادف أحيانا أن يكون صبي في طريقه إلى المدرسة يجرجر قدميه ببطء ويلوح بحقيبته وهو يلوك ماشيا أثناء مروره أمام حانوت التبغ، حيث تحتوي على بعض أنواع السجائر على صور ملونة وتجميعها مفيد جدا، وأمام دكان
السجق الذي يذكره بأنه بكر كثيرا بأكل زاده وأمام الصيدلية، ثم أمام العطارة وإذ يتذكر أن عليه أن يشتري ممحاة يدلف إلى الحانوت التالي. كان بيلغرام بخور وهو يمط شفته من تحت مشرب الغليون، فيبحث بضجر ثم يضع أمامه على الطاولة علبة كرتون مفتوحة، ومن ثم يسرح نظره أمامه صامتا، مكثرا من إطلاق حلقات دخانه الرخيص، كان الصبي
يحس المماحي الباهتة الحسنة ولا يجد النوع المرغوب فيبتعد دون أن يشتري شيئا، كانت البضاعة الرئيسية تظل غير ملحوظة - هكذا هم الأولاد اليوم - يفكر بيلغرام بمرارة مستعيداً طفولته بلمح البصر، كان المرحوم أبوه وهو بحار متسكع محتال، قد تزوج في سن الشيخوخة تقريبا من امرأة هولندية صفراء كابية العينين جاء بها من بورنيو ثم ألقى
عصا الترحال وفتح دكانا لبيع الأشياء الغربية وسرعان ما توفيت الزوجة وقت كان ابنهما يرتاد المدرسة، ثم غدا يساعد أباه في الدكان، لم يكن يذكر الآن بدقة كيف ومتى شرعت تظهر في الدكان صناديق الفراشات، ولكنه يذكر أنه كان يحب الفراشات منذ ولادته، وببطء كبير أخذت الفراشات تحل محل طيورالبحر المجففة وطيور الكوليبري المحنطة، وتمائم المتوحشين والمروحة المزينة بتنينات وباقي التفاهات المغبرة. وحين مات أبوه كانت الفراشات تحتل الدكان نهائيا، وإن ظل موجودا ولمدة طويلة هنا وهناك حذاء دبياجي وسلاح ارتدادي وطوق من المرجان، ولكن حتى هذه البقايا اختفت فيما بعد فبسطت الفراشات سلطتها باستبداد، ولم تبدأ هذه أيضا بالتقهقر إلا قبيل مدة قصيرة حين
كان لا بد من تقديم تنازلات إذ ظهرت كتب تعليمية، كان صندوق زجاجي صغير يحتوي على سيرة مجسمة لدودة القز هو المسوغ الطبيعي للتحول إليها. كانت التجارة تسير من سيء إلى أسوا. أما الكتب التعليمية وكل أنواع الفراشات التي يمكن أن تروق لذوق ضيقي الأفق، أي الأنواع الأكثر ضخامة وجاذبية والأجنحة البراقة على الجص في أطر صغيرة ذات أفاريز لتكون زينة في غرفة لا مفخرة عالم فكانت معروضة في الواجهة، بينما حفظت أنفس المجموعات داخل الحانوت المشبع برائحة غلوبين لوزية، وكان المكان مكتظا بمختلف أنواع الصناديق وعلب الكرتون
وصناديق السيجار المفروشة بأوراق شجر متفسخة، وكانت الصناديق الزجاجية مصفوفة على الرفوف ملقاة على طاولة البيع أو مدسوسة في خزانات قائمة عالية، وكانت جميعها تغص بصفوف متساوية من الفراشات الفائقة الطراوة، الفائقة الترتيب. وأحيانا كانت تظهر كائنات حية هي شرائق، بنية ثقيلة تتلاقى على ظهورها خطوط طولانية تبين انضمام الجناحين الجنينيين والساقين والمجسات والخرطوم الصغير بينها، والأعضاء التناسلية على بطنها المديب النهاية الذي يبدأ فجأة يتلوى بتشنج ذات اليمين وذات الشمال ما أن يلامس أحد هذه الشرنقة. كانت الشرائق ملقاة في الطحلب ولم تكن غالية الثمن، وبمرور الوقت كانت تخرج منها فراشة مجعدة بديعة النمو. وأحيانا كانت حشرات عرضية أخرى تعرض للبيع، قوامها سلاحف صغيرة بالغة الدقة أو دستة من عظاءات جزيرة مايوركا، باردة سوداء زرقاء البطن، كان بيلغرام يغذيها بوجبة من ديدان الطحين وبتحلية من
العنب. لقد عاش حياته كلها في بروسيا التي لم يغادرها قط. وكان عالم حشرات فذا، وقد أطلق ريبيل ابن فيينا اسمه على احدى الفراشات النادرة، بل هناك ما اكتشفه هو نفسه ووصفه كانت صناديقه تضم جميع دول العالم، إلا أنه لم يزر بلدا واحدا، وكان يكتفي بالقيام أحيانا في أيام الأحد الصيفية بالسفر خارج المدينة قاصدا ضواحي الصنوبر
الرملية المضجرة المحيطة ببرلين فيتذكر طفولته وصيد الفراشات ويتخيل ذلك وقتئذ خارقا للعادة، وكان ينظر بحزن إلى الفراشات التي يعرف جميع أنواعها منذ زمن بعيد وكانت تتناسب مع منظر الطبيعة على نحو راسخ ويائس، أو كان يبحث إلى أن يجد على شجيرة صفصاف برقة كبيرة يتراوح لونها بين الزرقة والخضرة خشنة الملمس ولها قرن خزفي
صغير على مؤخرتها. كان يضعها ذاهلة على راحته فيتذكر لقية مماثلة تماما في طفولته - متجمدا يتمتم بإعجاب - ثم يعيدها إلى الغصن كأنها شيء. أجل، لقد أمضى حياته كلها في وطنه، ومع أن الفرصة واتته مرتين أو ثلاثا لكي يبدأ عملا أجدى كالاتجار بالخوخ، إلا أنه ظل متمسكا بدكانه وكأنها الصلة الوحيدة بين برودة البرليني وشبح السعادة الثاقب، حيث كانت السعادة تكمن في أن يمارس هو شخصيا، بيديه هاتين وبهذا الكيس من الشاش المثبت على عصا، اصطياد أندر فراشات البلدان البعيدة، ويرى بعينيه طيرانها فيطوح بمصيدته وهو غائص في الأعشاب حتى حزامه، شاعرا بانتفاضها العاصف من خلال الشاش، كان يجمع النقود لتحقيق هذه السعادة مثل إنسان يمسك بكأس تحت ماء ثمين شحيح القطرات وفي كل مرة ما أن يتجمع قليل منه حتى تسقط الكأس فيندلق ماؤها ويتعين عليه أن يعيد الكرة من جديد، لقد تزوج وهو يعلق أملا كبيرا على مهر زوجته، غير أن حماه توفي بعد أسبوع مخلفا تركة
قوامها الديون. ثم عشية الحرب وبعد جهد جهيد كان قد أعد كل شيء للسفر، حتى أنه حصل على خوذة استوائية، وحين انهار مشروعه ذاك... ظل لبعض الوقت يحدوه أمل بأنه الآن سيجد نفسه في مكان ما شأن ضباط شباب كانوا فيما مضى يجدون أنفسهم في الشرق فجأة في المستعمرات ويضنيهم ضجر الترحال فيشرعون في تشكيل مجموعات من الفراشات والخنافس يمحضونها ولعهم طيلة الحياة بعد ذلك، كان ضعيفا، مترهلا ومريضا، فتركوه في المؤخرة ولم ير الفراشات الأجنبية الخشنة الأجنحة، ولكن أكثر الأمور غرابة وهو ما لا يحصل إلا في الكوابيس إنما وقع بعد انقضاء الحرب ببضع سنوات، إذ أن ذلك المبلغ من المال الذي كان بين يديه، وكان يمثل إمكانية حقيقية وملموسة بالفعل
لبلوغ السعادة، قد انقلب فجأة إلى أوراق عديمة الفائدة، لقد أوشك على الهلاك، ولم يبرأ من ذلك حتى الآن.
لم يكن المشترون نادرين نسبيا، ولكنهم كانوا لا يقتنون إلا سقط المتاع، يبخلون ويشكون من الفقر. كان في السنوات الأخيرة يتجنب الافراط في الاضطراب فيتحاشى زيارة نادي هواة الحشرات الذي كان عضوا فيه، وإذا ما عرج عليه زميل مرة وطفق يتغنى بفراشة ثمينة ويحكي عن المكان والظروف التي تم فيها اصطيادها، كان بيلغرام يثور إذ كان يخيل إليه أن المتحدث لا مبال إطلاقا، متخم بالرحلات البعيدة، ويفترض به ألا يكون قد عانى أي إحساس حين حمل مصيدته وخرج إلى البرية صباح أول يوم وصل فيه. كانت تفوح في الحانوت رائحة لوز كابية، والصناديق التي كان ينحني فوقها بهدوء هو وزميله كانت تدريجيا تحتل طاولة البيع كلها، وكان الغليون بين شفتي بيلغرام يصدر زقزقة حزينة. كان يستسلم لأفكاره وهو ينظر إلى الصفوف
المتراصة من الفراشات الصغيرة المتشابهة تماما بالنسبة للجاهلين. وكان يصمت أحيانا وهو يدق الزجاج بإبهامه مشيرا إلى مجموعة نادرة، أو يلهث بألم عبر غليونه وهو يرفع صندوقا صوب الضوء ثم ينزله إلى الطاولة، ويغرس أظفارة تحت أطراف الغطاء الحكم فيخلخله ويخلعه بدفعة خفيفة ورشيقة: «نعم إنها أنثى»، يقول زميله وهو ينحني أيضا فوق الصندوق المفتوح. ويحشرج بيلغرام وهو يتناول
بإصبعه رأس الدبوس الأسود الذي صلب عليه كائن مخملي دقيق، ثم يطيل النظر إلى الجناحين وإلى الجسم، يقلبه وينظر إلى بطنه، وبعد أن يلفظ مع الدخان اسمه اللاتيني يعيد غرس الفراشة من جديد. كانت حركاته تبدو عديمة الاكتراث، ولكن عدم الاكتراث هذا كان مميزا لا يخطئ، كان عدم اكتراث جراح ضليع أن الفراشة الهشة التي أمكن أن
تتكسر مجساتها لدى أدنى صدمة - أو ذلك ما كان يبدو على الأقل -والتي كان في الامكان أن تنزلق ببساطة وهو يدورها ممسكا بالدبوس هذه الفراشة الغالية الثمن هذه الفراشة التي قد تكون الوحيدة من نوعها، تناولها بيلغرام بقدر من البساطة كما لو كانت اصبعاه والدبوس أجزاء متناغمة في آلة بريئة واحدة، ولكن كان يصادف أن زميلا مأخوذا بالمنظر يمس بطرف كمه علبة ماء مفتوحة فتبدأ تتزحلق على زجاج
الطاولة، وإذ يلحظها بيلغرام يوقفها في الوقت المناسب. ثم بعد بضع دقائق فقط يطلق أنة ألم وهو مشغول بشيء آخر.
بعد قليل كان الزبون يتناول قبعته عن الطاولة ويخرج فيما يستمر بيلغرام يغمغم مدة طويلة منهمكا بالصناديق وبالبحث عن شيء ما، كانت معرفته الضخمة في مجال الفراشات تثقل عليه وتغيظه وتبحث عن مخرج، فلم يكن يتصور أي بلاد باستثناء بلاده، إلا بوصفها وطنا لهذه الفراشة أو تلك - وما كان في الإمكان مقارنة ذلك التوق الذي يكابده عندئذ
إلا بالحنين إلى الوطن. كان يعرف العالم على طريقته هو تحديدا من زاوية مميزة جلية جلاء عجيبا وعصية على الآخرين ، فلو زار بيلغرام منطقة شهيرة ما، لما لاحظ فيها إلا ما له صلة بطريدته أو ما كان خلفية طبيعية لها، وما كان ليحتفظ في ذاكرته باريكتون إلا إذا طارت عن ورقة
زيتونة تنمو في أعماق هذا المعبد فراشة يونانية بديعة فاصطادها بمصيدته التي تصدر صفيرا، وكان وحده كمتخصص قادرا على إدراك قيمة تلك الفراشة. لقد كون لنفسه، دونما وعي منه جغرافية للعالم ودليلا مفصلا غاية التفصيل -حيث لا وجود لبيوت القمار والكنائس
القديمة وذلك اعتمادا على كل ما وجده في مؤلفات عن الحشرات وفي مجلات وكتب علمية - قرأ منها كمية تتجاوز الحد، وكان يتمتع بذاكرة ممتازة. إن دين في جنوب فرنسا وراغوزا في دالماسيا وسابريتا على نهر الفولجا لأماكن شهيرة وغالية على كل متخصص بالحشرات ففيها
يصطاد الحشرات الدقيقة أناس قريبون - وهذا ما يثير عجب السكان الأصليين وخوفهم - جاءوا من بعيد - هذه الأماكن الشهيرة بحيواناتها كان بيلغرام يراها بقدر من الوضوح كما لو كان قد سافر شخصيا إلى هناك، وكأنما هو بالذات في ساعة متأخرة قد أخاف صاحب فندق رديء
بهديره ووقع قدميه وقفزاته في الغرفة التي اندفعت فراشة رمادية تطير عبر نافذتها المفتوحة قادمة من الليل السخي الأسود ومضت تدور بعنف وتصطدم بالسقف. لقد زار تينيريف وضواحي أوروناوا حيث في السواقي الصغيرة الحارة المزهرة التي تشق طرقها عبر السفوح الدنيا من
جبال تغطيها أشجار الكستناء والغار، تطير أنواع غريبة من فراشة الملفوف، كما زار الجزيرة الأخرى -ولع الصيادين القديم- التي تعيش فيها فراشة ماخاوون الكورسيكية السمراء السمينة على منحدر السكك الحديدية، بالقرب من فيسافونا، وأعلى قليلا في غابات الصنوبر، وقد زار الشمال أيضا، أي مستنقعات لابلانديا، حيث الطحالب وشجيرات
القونويويل والصفصاف القزمي. وهي منطقة قطبية غنية بالفراشات المخملية، ومراعي الألب العالية ذات الأحجار المسطحة المتناثرة هنا وهناك بين الأعشاب القديمة اللزجة الملتفة، لعله ما من متعة أكبر من أن ترفع أحد تلك الأحجار التي تحتها نمل وجعل أزرق وخفاش سمين ناعس ربما لم يطلق عليه أحد اسما بعد، هناك أيضا في الجبال رأى أبوللونات شبه شفافة حمراء العيون تسبح في الهواء عبر الطريق الجبلي الذي يمر بمحاذاة صخرة شديدة الانحدار ويفصله حاجز حجري واسع عن هوة تتألق مياهها القوية بالزبد. وذات مساء صيفي كانت الطريق الحصباء تصرف بغموض تحت قدميه في البساتين الايطالية، وأطال بيلغرام التحديق عبر الظلمة المبهمة إلى شجيرة مزهرة، وإذا بفراشة دفلى تظهر من مكان مجهول وتبعث طنينا خفيضا ثم تتنقل من زهرة إلى زهرة وهي تتوقف في الهواء أمام التويج وترفرف في مكانها بسر جعلته لا يرى إلا هالة شفافة حول جسمها المغزلي. كان يعرف الهضاب البيضاء الدائمة الخضرة قرب مدريد ووديان الأندلس، والصخور والشمس والجبال الضخمة ومنطقة الباراتسين الحراجية الخصيبة التي نقلته إليها حافلة صغيرة عبر طريق لولبي.. وسافر صعدا إلى الشرق أيضا إلى منطقة نهر أوسوري وبعيدا إلى الجنوب إلى الجزائر، وغابات الأرز، ثم عبر المناحل الى واحة يرويها نبع ساخن وحولها الصحراء صلبة. متماسكة، مزدانة بأزهار المنثور والسوسن الليلكي. ولما كان جل انشغاله منصبا على عالم الحيوان القديم فقد كان يصعب عليه تصور المدارات الاستوائية - وكانت محاولته التغلغل إلى هناك بوساطة الحلم تسرع دقات قلبه وتبعث فيه شعورا يكاد لا يحتمل، حلوا مدوخا. كان يصطاد فراشات أمازونية لازوردية شديدة البريق بحيث أن أجنحتها الوسيعة تلقي على اليد أو على الورقة ظل ضوء أزرق وعلى الأرض السوداء الخصبة في الكونغو كانت الفراشات الصفراء والبرتقالية اللون تقف متراصة مضمومة الأجنحة وكانها مغروسة في الطين فتحلق
سحابة تتلالاً حين يدنو منها، ثم تحط ثانية في المكان نفسه وفي جزيرة سومطرة، في بستان بين الأدغال، كانت أشجار البرتقال المزهرة تجتذب واحدة من أضخم فراشات الفجر ذات الجنحة مجرمة بديعة وبطن مبقع محني بسماكة إصبع.
نعم نعم - يقول وهو يمسك العلية الثمينة أمام عينيه كأنها لوحة. ويرن جرس صغير فوق الباب، ثم تدخل زوجته ومعها مظلة مبللة وسلة للمشتريات - وببطء ، كما لو على قرص دوار، يدير لها ظهره وهو يدفع العلبة في إحدى الخزانات. وذات يوم باهت ورطب من أيام نيسان، وبينما كان مستسلما لأحلامه دق الجرس الصغير فجأة فاحت رائحة المطر ودخلت إليانورا متجهة إلى الغرفة بخطوات قصيرة سريعة وعملية، فأحس بيلغرام إحساسا واضحا أنه لن يسافر إلى أي مكان أبدا، ثم خطر له أنه على مشارف الخمسين وأنه مديون للجميع جرائه وعاجز عن تسديد الضريبة وخيل إليه أن كون فراشة جنوبية تحط الآن، وفي هذه اللحظة بالذات على قطعة صغيرة من البازلت وتتنفس بأجنحتها، وهم همجي وهذيان مستحيل.
كان منذ أكثر من سنة يحتفظ بمجموعة بديعة ورفيعة القيمة تتكون من أنواع بللورية ضئيلة تنتمي إلى فصيلة رائعة تشبه البعوض والزنابير والحشرات الطفيلية، وقد أودعتها عنده للبيع أرملة ما وكان قد تعامل معهما من قبل. وقال للأرملة حالا إنها لن تحصل على أكثر من خمسة
وسبعين ماركا، في حين كان يعرف معرفة أكيدة أن ثمن المجموعة يساوي بضعة آلاف، وأن الهاوي الذي سيحصل عليها بقرابة ألفي مارك سيقدر انه اشتراها بسعر زهيد، غير أن ذلك الهاوي لم يظهر، وردا على الرسائل التي أرسلها إلى أربعة أو خمسة من الهواة المشهورين جاءته إجابات ملتوية، وعندئذ أقفل بيلغرام الخزانة على المجموعة وكف عن التفكير فيها. وها هو في نيسان. وتحديدا يوم كان كدر المزاج يجار على زوجته ويكثر من الشراب والأكل والشكوى من آلام الدوار ، يجيء إلى حانوته سيد في ثياب حديثة الطراز جدا، وفيما كانت عيناه تجوبان الحانوت طلب طابعا
بريديا بثمانية قروش. دس بيلغرام القطع النقدية الصغيرة التي دفعها السيد في حصالة فخارية كانت على الرف وحدق في الفراغ وهو يعص غليونه. أما السيد فتظاهر بالشرود وألقى نظرة إلى صناديق الفراشات ثم أومأ باتجاه فراشة زمردية متعددة الأذيال مائلا إنها جميلة جدا، تمتم
بیلغرام بشيء عن مدغشقر وخرج من وراء العارضة. أما هذه، أهي فراشات حقا، سأل السيد مشيرا بأصبعه إلى صندوق آخر. وفي هذه الأثناء كان بيلغرام قد أخرج الفراشة الزمردية ذات الأذيال وراح يقلبها وينظر الى وريقة المعلومات المثبتة بدبوس تحت صدرها تماما. كرر السيد
سؤاله فنظر بيلغرام باتجاه إصبعه و غمغم قائلا إن لديه من هذه الفراشات مجموعة كاملة تتألف من خمسة آلاف فراشة، ثم أعاد المدغشقرية إلى مكانها وأغلق الصندوق، "تشبه البعوض"، قال السيد.
حك بيلغرام ذقنه غير الطليقة ثم فكر قليلا وابتعد إلى أعماق الدكان، عاد السيد يتفحص الفراشات بالصندوق فتنحنح ووضعه على الدقيقة الملونة الأجسام، أشار بيلغرام بطرف غليونه إلى صف منها، وفي الوقت نفسه نطق السيد باسمها فاضحا بذلك نفسه، أحضر بيلغرام صندوقا آخر، ثم ثالثا فرابعا واتضح شيئا فشيئا أن السيد كان على معرفة ممتازة بوجود هذه المجموعة، وقد جاء من أجلها خصيصا
وأخيرا حين نطق بسؤال عرضي: كم سعر هذا كله لعله، ليس غاليا؟، هز بيلغرام كتفيه وابتسم ساخرا، وفي اليوم التالي حضر السيد ثانية ، وتبين أن بيلغرام كاتبه وأن لقبه زومر نعم نعم زومر الشهير ... وعندئذ أدرك أن الصفقة ستتم.
آخر مرة ربح فيها مبلغا ضخما بضربة واحدة كانت عشية التضخم حينما تمكن أيضا من بيع خزانة فيها نوع معين من الفراشات التي تطلق على أصنافها الوبرية ذات الأجنحة الخلفية الساطعة أسماء لها صلة بالحب مثل: المحظية والمخطوبة والعقيلة والزانية.. والآن، وهو يساوم زومر ببراعة، أحس بالاضطراب وبثقل في صدغيه، ومضت تسبح أمام عينيه بقع سوداء - إن كان إحساسه منذ اللحظة بدنو السعادة ، وبدنو السفر أمرا يكاد يفوق طاقته، كان يعرف حق المعرفة أن هذا جنون وأنه يخلف زوجته المسكينة وديونه ودكانه التي لا يجوز حتى بيعها، وأن ألفين أو ثلاثة آلاف من الماركات التي سيحصل عليها ثمنا للمجموعة مبلغ يسمح له بالترحال مدة عام لا أكثر، ومع ذلك كان ماضيا الى غايته شان إنسان يشعر أن الشيخوخة غدا وأن السعادة التي أرسلت في طلبه لن تکرر دعوتها له بعد الآن أبدا.
وأخيرا، عندما قال زومر إنه سيعطي جوابه النهائي بعد ثلاثة أيام. قرر بيلغرام أن تحقق حلمه قاب قوسين أو أدنى راح يطيل تفحص الخريطة المعلقة على جدار دكانه ويختار خط السفر، ويخمن في أي شهر يتكاثر هذا النوع من الفراشات أو ذاك، وإلى أين سيسافر في الربيع والى أين سيسافر في الصيف - وفجأة رأى شيئا أخضر، باهرا فانهد بثقله على
الكرسي. حل اليوم الثالث. وكان على زومر أن يأتي في الحادية عشرة تماما، ولكن عبثا ظل بيلغرام ينتظره حتى وقت متأخر من المساء وبعدئذ راح يجر قدميه قانيا، معوج الفم، فدلف إلى حجرة نومه واستلقى فصر السرير تحته، لقد رفض العشاء، وأطال مناكدة زوجته وهو مغمض العينين، ظنا منه أنها تقف قرب السرير، ولكنه حين أنصت سمع بكاءها
الخفيض في المطبخ، فساورته فكرة بأنه يحسن صنعا لو أخذ فأسا وهوى بها على نافوخها، لم يستيقظ في الصباح. فنابت إليانورا عنه في الدكان وباعت علبة ألوان مائية وزوجا من الفراشات الرخيصة، وبعد مضي يوم آخر، حين أصبحت ذكرى ذلك الزبون هلامية تماما، شأن شيء وقع منذ
زمن بعيد، أو لم يحدث أبدا وإنما حل ضيفا على الدماغ عرضا - وإذا بزومر يدخل الدكان في الصباح الباكر، قائلا: طيب لك الله، ناولني المجموعة حالا.... ولما أخرج الظرف وخشخ الأوراق المالية الأليفة تدفق الدم قويا من أنف بيلغرام.
كان نقل الخزانة وزيارته إلى العجوز الساذجة التي أكره نفسه على إعطائها خمسين ماركا هما آخر أعماله البرلينية، أما شراء بطاقة على شکل دفتر صغير ذي أوراق ملونة يسهل قطعها فأصبح الآن أمرا له صلة بالفراشات. لم تلحظ إليانورا أي شيء، فكانت تبتسم وكانت سعيدة. تشعر أنه نال ربحا جيدا ولكنها تخاف أن تسأله كم هو المبلغ بالضبط. كان الطقس رائعا، ولم يرفع بيلغرام صوته ولو مرة واحدة طوال النهار. وفي المساء عرجت عليهم السيدة فانفر، صاحبة المغسلة، لكي تذكرهم بأن عرس ابنتها سيقام غدا، وفي صباح اليوم التالي كوت إليانورا بعض الحاجات ونظفت بعضا آخر، ثم تفحصت بذلة زوجها جيدا. كانت تفترض أنها ستنطلق في حوالي الساعة الخامسة، ثم يتبعها زوجها بعد
قليل من إغلاق دكانه، وعندما نظر إليها بحيرة، ورفض فكرة الذهاب أصلا، لم يدهشها ذلك لأنها اعتادت منذ زمن بعيد على كل صنوف الغيبة. الشمبانيا - قالت وهي واقفة بالباب، لم يجب الزوج فقد كان منهمكا بالصناديق في عمق الدكان، فأطرقت ناظرة إلى يديها في قفازيها النظيفين وخرجت. رتب بيلغرام أثمن مجموعاته محاولا أن يفعل كل شيء بدقة.
رغم شدة اضطرابه، ثم نظر الى ساعته فرأى أن أوان الاستعداد قد حان، ذلك أن القطار السريع إلى كيو لن يغادر في الثامنة وعشرين دقيقة، أقفل دكانه وجر حقيبة قديمة مخططة بمربعات ، كانت في الماضي لأبيه، فرتب أول ما رتب لوازم الصيد المؤلفة من مصيدة تطوى وسموم سائلة مع
سيانيد البوتاسيوم في الجص، وعلب من السيلوليد، ومصباح الصيد الليلي في الغابة، وبضع علب دبابيس وذلك رغم عزمه على ألا ينشر أجنحة ما يصطاده وأن يحتفظ بها مطوية في ظروف كما هي العادة دائما أثناء الرحلات. عبأ ذلك كله في الحقيبة ثم نقلها إلى غرفة النوم وطفق يفكر بما يأخذ معه من ثياب. أكثر من الجوارب السميكة والصدريات التحتانية
وأهمل الأشياء الأخرى، وبعد أن نبش الأدراج اختار كذلك بضعة أشياء يمكن بيعها في حالة الضرورة القصوى، مثلا:
مكاسة فضية وميدالية برونزية في غلاف خلفها حموه. بعد ذلك غير ثيابه من رأسه حتى أخمص قدميه، ودس غليونه في جيبه، ثم نظر للمرة العاشرة إلى الساعة وقرر أنه حان الاستعداد للذهاب الى محطة القطار. صاح بصوت عال وهو يرتدي معطفه: إليانورا، لم يأته جواب، فألقى نظرة على المطبخ، لم تكن هناك، فتذكر بغموض خبر عرس ما. وعندئذ أخذ قصاصة من الورق وخط عليها بعض كلمات بالقلم الرصاص، ترك القصاصة والمفاتيح في مكان ظاهر وهو يشعر بقشعريرة ناجمة عن الاضطراب وبفراغ يفرقع في بطنه ثم تحقق لآخر مرة مما إذا كانت النقود جميعها في جعبته. آن الأوان - قال بيلغرام وخطف الحقيبة متجها صوب الباب على ساقين قطنيتين. ولما كان ينطلق في طريق بعيدة
لأول مرة فقد شرع يستذكر بألم ما إذا كان قد أخذ كل شيء وأنجز كل شيء واذا به يتذكر فجأة أنه ليس معه قطع نقدية، وإذ تذكر الحصالة ذهب إلى الدكان لاهثا تحت ثقل الحقيبة، وفي غبش الدكان أحاطت به الفراشات الخانقة من جميع الجهات فخيل لبيلغرام أن ثمة شيئا رهيبا أيضا يخالط سعادته - هذه السعادة المذهلة انهدت عليه مثل جبل ثقيل، وبعد أن نظر إلى هذه العيون الفاتنة التي تعرف شيئا ما، والتي كانت تصوبها نحوه أجنحة لا تحصى، نقض رأسه محاولا ألا يستسلم لفيض السعادة فخلع قبعته ومسح جبينه. ثم رأى الحصالة فمد يده إليها بسرعة، انزلقت الحصالة من يده وانكسرت على الأرض، فتناثرت قطعها النقدية وانحنى بيلغرام لكي يجمعها.
دنا الليل، وكان القمر اللزج الصقيل يجري بين الغيوم نافد الصبر تماما. أما إليانورا العائدة الى البيت من سهرة العرس بعد منتصف الليل ثملة قليلا من النبيذ والنكات المنعشة وبريق طقم الأواني الذي أهدي للعريسين، فقد كانت تسير على مهل وتتذكر بعذوبة مؤلمة فستان العرس تارة وتارة عرسها ذات يوم بعيد، فخيل إليها أن الحياة لو كانت أرخص
قليلا لكان كل شيء في العالم حسنا ولأمكنها شراء إناء وردي للحليب يتناسب مع فناجينها الوردية. إن رنين النبيذ في صدغيها وقمر هذه الليلة الدافئة وهو يجري وشتى الأفكار التي تسعى لتستدير كي تكشف عن وجهها الفعلي الجذاب. كل ذلك كان يبعث فيها نشوة غامضة. وحين دخلت إليانورا المنعطف وفتحت الباب خطر لها أن امتلاك شقة، ولو كانت ضيقة ومظلمة لكنها لك هو سعادة كبيرة رغم كل شيء، كانت تبتسم وهي تشعل النور في حجرة النوم، وسرعان ما رأت جميع الصناديق مفتوحة والأغراض مبعثرة، ولكن ما أن راودها التفكير بوقوع سرقة حتى لمحت المفاتيح وقصاصة أسندت إلى المنبه، كانت الرسالة شديدة الايجاز : لقد رحلت إلى إسبانيا. يمنع مس صناديق الفراشات الجزائرية. أطعمي العظاءات.
كان الماء يقطر في المطبخ، فتحت عينيها ورفعت حقيبتها ثم جلست ثانية على السرير جاعلة يديها على ركبتيها كما عند المصور نادرا ما راحت تراودها فكرة ذابلة بأن عليها أن تفعل شيئا ما أن توقظ الجيران، أن تستنصحهم بل وربما أن تسافر للحاق به.. نهض أحد ما فاجتاز الغرفة وفتح النافذة ثم أعاد إغلاقها ، بينما كانت تراقب ذلك لا مبالية، غير مدركة أنها هي من يفعل ذلك كان الصنبور يقطر في المطبخ.
وفيما هي تنصت إلى تساقط القطرات أحست بالرعب، وبأنها وحيدة وليس في البيت رجل... لم يستوعب عقلها فكرة كون زوجها قد سافر حقا، فاستمرت تتوهم أنه قد يدخل الآن وسيلهث متألما وهو يخلع جزمته فيستلقي ويغتاظ من الصنبور، شرعت تهز رأسها وتزيد من سرعة نشيجها الهادئ تدريجيا. لقد حدث شيء بالغ الغرابة غير قابل للاصلاح، وهو أن الانسان الذي كانت تحبه لقاء فظاظته العتيدة وايجابيته، ولقاء مواظبته الصامتة على العمل، قد تخلى عنها، وأخذ المال ورحل يعلم الله إلى أين. أرادت أن تصرخ أن تركض إلى الشرطة، أن تبرز عقد الزواج، أن تطالب، أن تتوسل، غير أنها ظلت جالسة دون حراك شعثاء بقفازين أسودين.
نعم لقد رحل بيلغرام بعيدا، قد يكون زار غرناطة ومورسيا
والباراسين، ولعله شاهد كيف تحوم الخفافيش الليلية الباهتة حول المصابيح العالية الباهرة البياض في متنزه اشبيلي، وربما اتفق له أن زار الكونغو وسورينام ورأى جميع تلك الفراشات التي كان يعلم برؤيتها سوداء مخملية تتخلل بقع أرجوانية عروقها المتينة مفرطة الزرقة صغيرة وشفافة، ذات مجسات كأنها ريش أسود. وبمعنى ما لم يكن مهما بتاتا
كون إليانورا، وهي تدخل صباحا إلى الدكان قد رأت الحقيبة ثم زوجها جالسا على الأرض وسط قطع نقدية متناثرة، مديرا ظهره للعارضة وقد ازرق وجهه الأعوج ميتا من زمان!

~تمت~

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى