د. أحمد الحطاب - القبائل الكبرى

في الماضي، كانت القبيلة هي النواة الأساسية للتَّجمُّعات البشرية. و القبيلة مؤلَّفة، عادةً، من عدَّة عائلات (عشائر) تعيش في نفس المنطقة أو في نفس الرُّقعة الأرضية. ما يًميِّز القبيلةَ هو أنها تُسيَّر من طرَ ما يُسمَّى "سيِّد القبيلة" أو "زعيم القبيلة" أو "شيخُ القبيلة". وقد يُلقَّب سيد القبيلة، في بعض الحالات، "ملكُ القبيلة" أو "أمير القبيلة". وجرت العادة أن يكونَ للقبيلة نظامٌ (سياسي) يُسيِّر شؤونَها، فضلا عن تقاسُمِها اللُّغةَ والنَّسبَ والقرابة والثقافة ومعتقداتٍ روحية (دينية). وكل قبيلة لها عاداتُها وتقاليد خاصة بها.
و ما كان كذلك يُميِّز القبيلةَ هو أنها حريصةٌ أشدَّ الحِرص على الحِفاظ على ترابها أو المنطقة أو الرُّقعة الأرضية الجغرافية التي تستقر بها. لا يُسمح للأجنبي الاعتداءَ عليها أو إلحاق أضرار بأعضائها أو عشائرها. كما كانت كل قبيلة تتفاخر بحَسَبِها ونَسَبِها… كل هذه الأمور كانت سببا في ظهور العَصَبِية التي تتمثل في اعتبار القبيلة أحسن من القبائل الأخرى والاستعلاء عليها. والعصبية، في الماضي، أدَّت إلى حروب قبلية طاحنة غالبا ما يكون خيطها الناظم هو شعار "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". وهذا معناه أن العصبيةَ تؤدي إلى الغطرسة واستعمال القوة بغير حق والدفاع عن أشياءٍ واهية لا تستحق أن تُسفكَ من أجلها الدماءُ. فلا شيءَ يعلو على نَسَبِ القبيلة وشرفها. فكل قبيلة تجرَّأت وعابَت نسَبَ أو شرفَ قبيلة أخرى، تُشَنُّ عليها حربٌ انتقاميةٌ ممِيتة.
إلى حد الآن، ليس في هاتين الفقرتين السابقتين من هذه المقالة ما يُبرِّرُ لماذا عنونتُ هذه الأخيرة ب"القبائل الكبرى".
ما يُخفيه هذا العنوانُ هو أنني أريد أن أقولَ، من خلالِه، أن الفكرَ القبلي أو النزعة القبلية لا تزال قائمةً إلى يومنا هذا. ولا تزال هذه النزعة تؤدي إلى الحروب الدامية بل، أحيانا إلى حروب إبادة رهيبة. وحتى إن لم تؤدي النزعةُ القبليةُ إلى حروب، فإنها، في غالب الأحيان، تكون مصدرا للعداوة وللفتنة بين القبائل. والأمثلة في هذا الصدد كثيرةٌ.
كلنا نتذكّرُ حربَ الإبادة التي نشبت في رُوَاندا سنة 1994 بين قبيلة التوتسي Tutsi وقبيلة الهوتو Hutu. سببُ هذه الحرب هو أن قبيلةَ التونسي، المشكَّلة اساسا من مُربّي المواشي، كانت منذ القديم تحتقر قبيلة الهوتو، المُشكَّلة أساسا من الفلاحين والمعروفين بقِصَرِ قاماتهم. لما وصلت قبيلة الهوتو إلى الحكم، لم تتأخَّر في الانتقام من التوتسي. فكانت حربُ الإبادة التي راح ضحيتَها أكثر من 800000 قتيل أغلبهم من التوتسي.
وكمثال آخر غير بعيد عنا، أذكرُ ليبيا الشقيقة التي زرتُها عدَّةَ مرات في إطار مهام رسمية. هذا البلد لا يزال يعاني، إلى يومنا هذا، من النزعة القبلية التي كان معمَّر القذافي يستعملها كأحد ركائز حُكمه. والدليل على ذلك، التفرقة السائدة بين قبائل شرق البلاد وبين قبائل غربها. والنزعة القبلية ليست حكرا على شريحة من الليبيين دون أخرى. بل لاحظتُها، أثناء إقامتي بهذا البلد، عند كبار الشخصيات وحتى عند أساتذة جامعيين. و وجود النزعة القبلية هي التي حالت، إلى يومنا هذا، دون تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
غير أنه، عندما أعطيتُ لهذه المقالة عنوانَ "القبائل الكبرى"، فالمقصود منه هو أن بلداناً كثيرةً عادت إلى النزعة القبلية، أي تحوَّلت من وضعها كدولة إلى وضعِها كقبيلة كبيرة. وبما أن البلدانَ التي عادت أو سائرة في العودة إلى النزعة القبلية كثيرة، فعنوانُ هذه المقالة أصبح "القبائل الكبرى".
وبما أن القبائل كانت تتطاحن فيما بينها لأسبابٍ، أحيانا تافهة، فخير مثال أسوقُه، في هذا الصدد، يتعلَّق ب "قبيلة الجزائر" التي يقودها أسيادٌ أو شيوخٌ يتصرفون تحت ضغط الأهواء وليس العقول. قبيلة الجزائر تُكن للمغرب عداءً لا مثيلَ له وتعتبِره قبيلةً مضادة ومُعادية لها ولو في أبسط الأشياء واتفهها.
وفي سياقٍ آخرَ ودائما في نِطاق عودة بعض البلدان إلى النزعة القبلية، يمكن أن نقولَ مثلا "قبيلة الولايات المتحدة" و"قبيلة روسيا"... كل واحِدة من هاتين القبيلتين يقودها شيخٌ أو أميرٌ يريد أن تكونَ كلمةُ قبيلته عي العليا. ولهذا، فإنه كل واحدة من هاتين القبيلتين تُكِن عداءً كبيرا للقبيلة الأخرى. وكل واحدة منهما تظن بل وتعتقد، اعتقاداً راسخاً أنها سيٍِدة العالم (البلدان/القبائل الأخرى). وحتى إن لم تنشب بينهما حربٌ مباشِرة، فإنها نشبت بينهما بالوكالة من خلال أوكرانيا Ukraine. فكما كانت قبيلةٌ، في الماضي، تكِن عداءً لقبيلة أو قبائل أخرى، عبر هِجائها بالقصائد الشعرية وإدلالها أمام القبائل الأخرى، فقبيلتا "الولايات المتحدة" و "روسيا" تكِنَّأن الواحدة للأخرى عداءً عبر الحرب الباردة وفي المنابر الدولية.
وما قيلَ عن "قبيلة روسيا"، يكمن أن يُقالَ عن "قبيلة كوريا الشمالية". هذه القبيلة ضربت رقما قياسيا في العداء ل"قبيلة الولايات المتحدة". بل إنها ضربت رقما قياسيا في القبلية التي جعلت منها قبيلة فريدةً من نوعِها يقودها زعيمٌ (شيخٌ) فريدٌ من نوعه فرض نفسَه على قبيلتِه كما كان الشأن في الماضي لأسياد وزعماء القبائل.
فإذا كانت القبائل، في الماضي، صغيرةً في حجمها وفي انتشارها الجغرافي، فإن بلدانا بأكملها أصبحت اليوم عبارة عن قبائل كبرى كل واحدة تطمح أن تكونَ أحسن من القبائل الأخرى. غير أنه، إذا كانت القبائل، في الماضي، تتنازع فيما بينها بسبب تشويش على نسبها أو حسبها أو شرفها أو إلحاق ضرر برُقعتِها الجغرافية، فاليوم، الهاجس الأول والأخير للقبائل الكبرى هو الهيمنة على القبائل الأخرى والسيطرة على خيراتها. وإن اقتضى الحالُ إدلالُها أمام أعيُن العالم في المنابر الدولية وفي الوقت المناسب.
بل إن القبائل الكبرى (قبيلة الولايات المتحدة، قبيلة الصين، قبيلة روسيا، قبيلة فرنسا، قبيلة المملكة المتحدة…)، بحُكم وجودها في قبيلة من صُنعِها (مجلس الأمن)، تكيل بمكيالين في المكان والزمان المناسبين، أراد مَن أراد وكره مَن كره.
ولولا هذه القبائل الكبرى، لما نشأت، في قلب القبيلة العربية، "قبيلة إسرائيل" التي تمارس القَبَليةَ بمعناها الكامل والتي، بدعمٍ من القبائل الكبرى، تصول وتجول بدون حسيب ولا رقيب.
مَن قال إن القَبَلِيةَ انتهت وأصبحت من ذكريات الماضي؟ من قال إن الإنسانَ البدائي المعاصر للقبيلة قد تحوَّل إلى إنسانٍ عاقلٍ، متمدِّنٍ مُتحضِّرٍ؟
نعم، انتهت القَبَلية وتحوَّل الإنسان من إنسانٍ بدائي إلى إنسانٍ عاقلٍ. لكن القبلية عادت في شكل معاصرٍ وخَفِيٍّ ما دامت تختبئ وراء الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة والعدل والإنصاف والنزاهة والاستقامة والمسئولية والواجب…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى