كان سعادة سعيد باشا كامل يقول كثيراً لخاصته إن رجلاً مثله ألفت نفسه العمل والنشاط، لأحرى أن تقعده حياة المعاش مقاعد المرضى المنهوكين. وصدقت نبوءته، فما كاد يحال على المعاش حتى سارع إليه ذبول الشيخوخة واعتوره الإعياء والخمول، ولذلك فإنه حين أصيب بالأنفلونزا لم يعمد كعادته إلى قهرها بالعناد والإيحاء الطيب والمثابرة، ولكنه رقد على فراش المرض عشرين يوماً قانعاً من لذيذ المأكل والمشرب بعصير البرتقال وماء الليمون. على أنه في فترة النقه اعتاض عن تصبره لذة لم يكن له عهد بها؛ كان الصيام قد صفى بطنه وطهر قلبه وأسكت نوازع جسده الصارخة، وطرد أشباح نفسه المفزعة، فأضاء عقله بسنا نور بهيج، واستنارت بصيرته بالصفاء والتجلي، وتبدت له الأمور على غير ما كان يرى، تراءت له الدنيا كومة من تراب، وكأنه يعتلي قمة السماء التي تظلها، وانكشفت له الحقيقة بغير قناع، فكأنما انجلت غشاوة الغرور عن ناظريه، فأحس أن بنفسه كنزاً يغنيه عن الدنيا وما فيها، وشعر بالسلام والطمأنينة يتدفقان من ينابيع صدره فذاق سعادة الجنان، وما كان ليفيق منهما لولا أن كرّ به الخيال إلى الوراء يتيه في غياهب الماضي وينبش قبور المنطوي من الزمان وينشر الرمم والعظام من الذكريات. . . كيف اختار أن يدعو الماضي ليتطفل على سعادته الراهنة؟ كيف رضي أن يغفل عن لذة الصفاء ليعاني ضراوة الأفكار؟ في الحق أنه لم يرغب في ذلك مختاراً، ولا راضياً ولكنه وجد الذكريات تطرق باب قلبه بإلحاح وعناد وعنف فلم يملك إلا أن يفتح لها كارهاً وأن يستقبلها ساخطاً متبرماً وأن يجترها بتقزز ونفور. ولم تكن المرة الأولى التي تزوره فيها ولكنها لم تكن تبدو له مخيفة ولا محزنة، أما في ساعة الصفو والتجلي فقد آلمته وأحزنته لأنه استقبلها بقلبه الجديد
رجع به الخيال إلى عهد كان سعيد أفندي كامل كاتباً بالأرشيف في الدرجة الثامنة المخفضة؛ وكان يقيم في منزل قديم بعطفة الجلاد بباب الشعرية، يعاني الأمرين من بساطة حاله وكثرة تبعاته وطموح قلبه وتعالي همته. وكان يقول لنفسه دائماً إن الله وهبه ذكاء عالياً ولكن حظه السيئ ران عليه فصد أو خبا؛ ولكنه كان معروفاً بين الجيران لجمال زوجته الحسناء، وكانت أمينة من أصل تركي عاجية البشرة سوداء الشعر والعينين فاتنة القسمات فكان يدعوها أهل الحي بالأميرة وكانوا يضربون بجمالها المثل
وفي يوم من الأيام صدر قرار وزاري بنقله إلى أسيوط؛ فأسقط في يده، لأنه كان يعول والديه وأخوة صغاراً ولا يقوم مرتبه بالإنفاق على بيتين؛ وبدا له - في يأسه - أن يوجه زوجه إلى قصر (سليمان باشا سليمان) السكرتير العام لوزارته لتستعطف أمه أو زوجه لكي يبقيه الباشا في الإدارة العامة بالقاهرة؛ وراقت الفكرة لأميرة عطفة الجلاد بباب الشعرية فذهبت إلى قصر الباشا وسألت عن أم الباشا فقيل لها إنها ماتت من عهد طويل معه، فسألت عن زوجه فقيل لها إن الباشا أعزب، فأوشك أن يلحقها القنوط وأن تهم بالعودة من حيث أتت، ولكن صادف ذلك خروج الباشا من قصره، فاستوقف بصره منظر السيدة الجميلة التي تحادث البواب، فسأله عنها، فاستجمعت الشابة شجاعتها الموزعة وحدثت الباشا عما جاءت من اجله؛ ورق الباشا لجمالها فدعاها إلى صالون الاستقبال واستمع إلى شكاتها باهتمام وشغف. كانت تنظر عيناه أكثر مما تسمع أذناه، وكان كلفاً بالحسان ينسى في مجلسهن دينه ودنياه، فتحلب ريقه واحترق صدره، وابتسم لها ابتسامة حلوة وربت على منكبها بحنو وقال لها
- سأنظر في طلبك بعين العطف يا حسناء
وكانت أمينة قادرة على قراءة العيون فتولتها الدهشة ونظرت للباشا نظرة ملؤها الشك والارتياب ففتنته النظرة؛ فمد يده - كما تعود وكما ألف - فعبث بذقنها الصغيرة فقطبت جبينها وجفلت منه. فلم يدركه اليأس وما كان يدركه اليأس أبداً وقال لها برقة
- كلانا له رجاء عند صاحبه فاقضي رجائي أقض رجاءك
وعادت المرأة إلى زوجها وقصت عليه ما لقيت من الباشا فانزعج الشاب انزعاجاً كبيراً، وأرادت أمينة أن تشاركه عواطفه فبكت وإن لم تخل من زهو وفخار، وأزمع الشاب يأساً وقال لنفسه: (ليكن سفر، والأمر لله). ولكن في صباح اليوم الثاني استدعاه مدير الأرشيف فذهب إليه مبلبل النفس مضطرب القلب يظن أنه مبلغه أمر النقل لينفذه، ولكن الرجل قال له: (مبارك يا سعيد أفندي لقد ألغي أمر نقلك). فشكره الرجل متحيراً وهم بالرجوع، ولكن المدير قال له: (ومبارك أيضاً فقد رشحت لوظيفة من الدرجة السابعة بمكتب السكرتير العام)
آه كم رنت الدرجة السابعة في أذنيه رنيناً بديعاً. . . لقد اضطرب وغضب وسخط وتحير وتردد وقارن ووازن، ولكن رنين الدرجة ابتلع كل صوت حتى صوت ضميره وعفته، وتيقظت أطماعه وجمح طموحه فاستسلم. وكانت أمينة التركية الجميلة ذات غرور وطموح أيضاً فاتفقا على أن السوأة شيء يدارى، أما الفرصة المؤتية فشيء لا يعوض. . . وهويا معاً. . .
وعزم على ألا تكون تضحيته عبثاً، فدرس في بيته حتى حصل على ليسانس الحقوق ورقى سكرتيراً للسكرتير العام؛ وما زال يصعد مدارج الرقي مستعيناً بهمته وذكائه وجمال زوجه. فلما اختير سليمان باشا سليمان وزيراً جعله مدير مكتبه، وقامت زوجه بنشر الدعوة له في الأوساط العالية وقدمته إلى كبار الرجال، فتبوأ بفضلها مركز السكرتير العام، وصار سعيد باشا كامل، وصارت هي حرم الباشا المصون. . . وكان قد تعود المهانة كما يتعود الأنف الرائحة النتنة. . . وفي يوم من الأيام أعلن الباشا أنه مسافر إلى بور سعيد في رحلة تفتيشية تستغرق عشرة أيام. وبلغ المدينة وشرع في العمل بما عرف عنه من النشاط وعلو الهمة ولكن اعتوره تعب فجائي اضطر معه إلى قطع رحلته والعودة إلى القاهرة، وانتهى إلى قصره مع المساء، وكانت عودة غير متوقعة، فاستقبله البواب بدهشة لم تخف عن عينيه على ندرة اندهاش النوبيين، والتقى الباشا بالسفرجي في الردهة التحتانية، فتولى الرجل الانزعاج ولم يستطع أن يخفي تأثره، فغضب الباشا وسأله: (أين الهانم؟) ولم يجب الرجل كأنه لم يسمع، فقال له بحدة: (أين الهانم يا أحمق؟)، فارتعب الخادم وقال بتلعثم: (فوق يا سعادة الباشا. . . فوق)، فصعد السلم الخشبي المفروش بالبساط الأحمر المخملي وهو يتساءل: ماذا هنالك!؟ وبلغ الصالة في ثوان، فرأى وصيفة زوجه تنسق باقة زهر ناضرة. . . فلما رأته حملقت في وجهه بذهول وجمدت عن الحركة لحظة كأنها فارة جذبت عيناها إلى عينيي هرْ. . . ثم هرعت إلى حجرة النوم ونقرت على بابها المغلق وهي تقول: سيدتي. . . الباشا هنا. . . فساوره القلق والاضطراب ودنا من الباب ووضع يده على الأكرة وهو يعجب كيف لم تسارع الهانم إلى فتح الباب واستقباله، ثم أدارها فلم ينفتح الباب، فالتفت ناحية الوصيفة فلم ير لها أثراً، فنقر الباب وهو يقول بصوت متهدج:
- يا هانم. . . لماذا تغلقين الباب؟
فلم ترد جواباً، فأدنى رأسه من الباب فسمع حركة وصوت اصطدام شيء صلب بالأرض. . . فاهتاجه الغضب. . . فضرب الباب بعصاه وصاح بحدة قائلاً:
- يا هانم. . . ألا تسمعينني. . . أمينة هانم. . .
ثم مضى يدفع الباب بعنف، فسمع صوت الهانم تقول:
- انتظر من فضلك في المكتبة حتى ألحق بك!
فقال بحدة: افتحي الباب
فردت عليه بهدوء وإصرار: انتظرني في المكتبة من فضلك
- هذا سلوك غريب. . . ما هذه الحركة بداخل الحجرة؟
- اذهب إلى المكتبة من فضلك
- لن أتنحى عن الباب حتى يفتح لي
فسكتت المرأة هنيهة ثم قالت بحدة وغضب:
- معي شخص ينبغي أن يخرج بسلام
وخذلته أعضاؤه المنهوكة فأحس خوراً، وذهولاً، وجموداً ثقيلاً ران على قلبه وتنفسه، ولبث دقائق لا يبدي حراكاً، ثم مضى بخطى ثقيلة إلى المكتبة وارتمى على مقعد ترتعش يداه من الانفعال والحنق، وقال بصوت كالمختنق: (يا عجبا. . . إنها لا تكلف نفسها مؤونة التستر على فضيحتها فالخدم يعلمون بغير ريب. . .)، واهتاجه الغضب ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئاً، وما كانت إرادته تقدر على أن تصطدم بإرادتها بحال، فتصاعد غضبه دخاناً كتم على أنفاسه وسد مسالك صدره. . . وقال بلهجة هسترية: (هل يكون هذا المنتهك حرمة فراشي إلا تلميذاً شريراً أو متعطلاً متسكعاً؟!) وانتظر أن تلحق به فلم تفعل؛ فقام مرة أخرى وقصد إلى حجرة النوم يسير بخطى مضطربة فوجدها جالسة على الشيزلنج منكسة الرأس، فلما أحست به بادرته قائلة:
- إني أغادر البيت في الحال إذا كان هذا يروقك
فلوح بعصاه غاضباً وقال بحنق: - ما هذه الفضائح. . . ما هذه القذارة؟
وأصابت العصا ساقها دون قصد منه. فرفعت إليه بصرها وحدجته بنظرة باردة قاسية كان لها في نفسه وقع شديد وقالت له:
- أتضرب الساق التي رفعتك إلى أعلى المناصب؟!
لقد كانت تلك الكلمة أليمة موجعة، ولكن ذكراها التي تعاوده الآن أنكى وأمرّ
وشعر عند ذلك بغمز موجع في صدره، فاتكأ على يديه الضعيفتين وهمَّ جالساً في الفراش وكسر مخدة واستند عليها متنهداً من الأعماق، وبدأ كالمستغيث من أفكاره، ولكن ذاكرته لم ترحمه ولم ترق لحاله فاستحضرت أمام ناظريه حادثة أخرى ليست دون سابقتها بشاعة وقبحاً. . . وكان ذلك وهو في أوج مجده الحكومي وكان يترأس حفلة بمدرسة الجيزة الثانوية فألقى كلمة استقبلت بالتصفيق والتقدير ووزع الجوائز على المتفوقين وغادر المنصة مودعاً من كبار الموظفين إلى سيارته وانطلقت به السيارة، وقد أخذ الظلام يغشى الطرق والحقول؛ وعند منعطف الطريق انبرى له شاب - ولعله كان تلميذاً - وصاح بأعلى صوته: (كيف تضرب الساق التي رفعتك إلى أعلى المناصب) وعرته رجفة شديدة، وتشنج جسمه فلم يلتفت نحو القاذف الخبيث وشعر بانهيار وتفكك، فتفصد جبينه عرقاً بارداً ثم إلى دمه، وعجب كيف ذاعت هذه الجملة الآثمة حتى بلغت هذا الشاب. لقد غدا قصره مورداً لفضائح غير مستورة ينهل منها المتطوعون لإذاعة المخازي. على أنه كان في تلك الأيام قوياً مستهتراً يهضم ضميره القتيل الفضائح بغير مبالاة فهدأ روعه وقال باستهانة وحنق: (قولوا ما يحلو لكم قوله - فسأظل - وأنوفكم في الرغام، السيد المطاع والرئيس المرتجى. أما الآن في ظل النقه والطهارة فقد امتعض وحزن وشعر بالذكريات تصليه لهباً جهنمياً. . .
ودخلت عند ذاك أمينة فسألته برقة: (كيف حالك يا باشا)؛ ثم جلست على مقعد وثير، فنظر إليها بعينيه الذابلتين نظرة غريبة لم تفهم معناها الحقيقي؛ وعجب الرجل كيف تحافظ على حسنها وشبابها حتى ليخال الناظر إليها أنها في منتصف عمرها، مع أنه لا يكبرها بأكثر من ثمانية أعوام. . . ثم قال لنفسه دهشاً: (رباه. . . كأني كلما زدت عاماً نقصت عاماً. . . فمتى تذبل وتذوي وتجفل من النظر إلى المرآة؟؟)
نجيب محفوظ
المصدر:
مجلة الرسالة - العدد 418
بتاريخ: 07 - 07 - 1941
رجع به الخيال إلى عهد كان سعيد أفندي كامل كاتباً بالأرشيف في الدرجة الثامنة المخفضة؛ وكان يقيم في منزل قديم بعطفة الجلاد بباب الشعرية، يعاني الأمرين من بساطة حاله وكثرة تبعاته وطموح قلبه وتعالي همته. وكان يقول لنفسه دائماً إن الله وهبه ذكاء عالياً ولكن حظه السيئ ران عليه فصد أو خبا؛ ولكنه كان معروفاً بين الجيران لجمال زوجته الحسناء، وكانت أمينة من أصل تركي عاجية البشرة سوداء الشعر والعينين فاتنة القسمات فكان يدعوها أهل الحي بالأميرة وكانوا يضربون بجمالها المثل
وفي يوم من الأيام صدر قرار وزاري بنقله إلى أسيوط؛ فأسقط في يده، لأنه كان يعول والديه وأخوة صغاراً ولا يقوم مرتبه بالإنفاق على بيتين؛ وبدا له - في يأسه - أن يوجه زوجه إلى قصر (سليمان باشا سليمان) السكرتير العام لوزارته لتستعطف أمه أو زوجه لكي يبقيه الباشا في الإدارة العامة بالقاهرة؛ وراقت الفكرة لأميرة عطفة الجلاد بباب الشعرية فذهبت إلى قصر الباشا وسألت عن أم الباشا فقيل لها إنها ماتت من عهد طويل معه، فسألت عن زوجه فقيل لها إن الباشا أعزب، فأوشك أن يلحقها القنوط وأن تهم بالعودة من حيث أتت، ولكن صادف ذلك خروج الباشا من قصره، فاستوقف بصره منظر السيدة الجميلة التي تحادث البواب، فسأله عنها، فاستجمعت الشابة شجاعتها الموزعة وحدثت الباشا عما جاءت من اجله؛ ورق الباشا لجمالها فدعاها إلى صالون الاستقبال واستمع إلى شكاتها باهتمام وشغف. كانت تنظر عيناه أكثر مما تسمع أذناه، وكان كلفاً بالحسان ينسى في مجلسهن دينه ودنياه، فتحلب ريقه واحترق صدره، وابتسم لها ابتسامة حلوة وربت على منكبها بحنو وقال لها
- سأنظر في طلبك بعين العطف يا حسناء
وكانت أمينة قادرة على قراءة العيون فتولتها الدهشة ونظرت للباشا نظرة ملؤها الشك والارتياب ففتنته النظرة؛ فمد يده - كما تعود وكما ألف - فعبث بذقنها الصغيرة فقطبت جبينها وجفلت منه. فلم يدركه اليأس وما كان يدركه اليأس أبداً وقال لها برقة
- كلانا له رجاء عند صاحبه فاقضي رجائي أقض رجاءك
وعادت المرأة إلى زوجها وقصت عليه ما لقيت من الباشا فانزعج الشاب انزعاجاً كبيراً، وأرادت أمينة أن تشاركه عواطفه فبكت وإن لم تخل من زهو وفخار، وأزمع الشاب يأساً وقال لنفسه: (ليكن سفر، والأمر لله). ولكن في صباح اليوم الثاني استدعاه مدير الأرشيف فذهب إليه مبلبل النفس مضطرب القلب يظن أنه مبلغه أمر النقل لينفذه، ولكن الرجل قال له: (مبارك يا سعيد أفندي لقد ألغي أمر نقلك). فشكره الرجل متحيراً وهم بالرجوع، ولكن المدير قال له: (ومبارك أيضاً فقد رشحت لوظيفة من الدرجة السابعة بمكتب السكرتير العام)
آه كم رنت الدرجة السابعة في أذنيه رنيناً بديعاً. . . لقد اضطرب وغضب وسخط وتحير وتردد وقارن ووازن، ولكن رنين الدرجة ابتلع كل صوت حتى صوت ضميره وعفته، وتيقظت أطماعه وجمح طموحه فاستسلم. وكانت أمينة التركية الجميلة ذات غرور وطموح أيضاً فاتفقا على أن السوأة شيء يدارى، أما الفرصة المؤتية فشيء لا يعوض. . . وهويا معاً. . .
وعزم على ألا تكون تضحيته عبثاً، فدرس في بيته حتى حصل على ليسانس الحقوق ورقى سكرتيراً للسكرتير العام؛ وما زال يصعد مدارج الرقي مستعيناً بهمته وذكائه وجمال زوجه. فلما اختير سليمان باشا سليمان وزيراً جعله مدير مكتبه، وقامت زوجه بنشر الدعوة له في الأوساط العالية وقدمته إلى كبار الرجال، فتبوأ بفضلها مركز السكرتير العام، وصار سعيد باشا كامل، وصارت هي حرم الباشا المصون. . . وكان قد تعود المهانة كما يتعود الأنف الرائحة النتنة. . . وفي يوم من الأيام أعلن الباشا أنه مسافر إلى بور سعيد في رحلة تفتيشية تستغرق عشرة أيام. وبلغ المدينة وشرع في العمل بما عرف عنه من النشاط وعلو الهمة ولكن اعتوره تعب فجائي اضطر معه إلى قطع رحلته والعودة إلى القاهرة، وانتهى إلى قصره مع المساء، وكانت عودة غير متوقعة، فاستقبله البواب بدهشة لم تخف عن عينيه على ندرة اندهاش النوبيين، والتقى الباشا بالسفرجي في الردهة التحتانية، فتولى الرجل الانزعاج ولم يستطع أن يخفي تأثره، فغضب الباشا وسأله: (أين الهانم؟) ولم يجب الرجل كأنه لم يسمع، فقال له بحدة: (أين الهانم يا أحمق؟)، فارتعب الخادم وقال بتلعثم: (فوق يا سعادة الباشا. . . فوق)، فصعد السلم الخشبي المفروش بالبساط الأحمر المخملي وهو يتساءل: ماذا هنالك!؟ وبلغ الصالة في ثوان، فرأى وصيفة زوجه تنسق باقة زهر ناضرة. . . فلما رأته حملقت في وجهه بذهول وجمدت عن الحركة لحظة كأنها فارة جذبت عيناها إلى عينيي هرْ. . . ثم هرعت إلى حجرة النوم ونقرت على بابها المغلق وهي تقول: سيدتي. . . الباشا هنا. . . فساوره القلق والاضطراب ودنا من الباب ووضع يده على الأكرة وهو يعجب كيف لم تسارع الهانم إلى فتح الباب واستقباله، ثم أدارها فلم ينفتح الباب، فالتفت ناحية الوصيفة فلم ير لها أثراً، فنقر الباب وهو يقول بصوت متهدج:
- يا هانم. . . لماذا تغلقين الباب؟
فلم ترد جواباً، فأدنى رأسه من الباب فسمع حركة وصوت اصطدام شيء صلب بالأرض. . . فاهتاجه الغضب. . . فضرب الباب بعصاه وصاح بحدة قائلاً:
- يا هانم. . . ألا تسمعينني. . . أمينة هانم. . .
ثم مضى يدفع الباب بعنف، فسمع صوت الهانم تقول:
- انتظر من فضلك في المكتبة حتى ألحق بك!
فقال بحدة: افتحي الباب
فردت عليه بهدوء وإصرار: انتظرني في المكتبة من فضلك
- هذا سلوك غريب. . . ما هذه الحركة بداخل الحجرة؟
- اذهب إلى المكتبة من فضلك
- لن أتنحى عن الباب حتى يفتح لي
فسكتت المرأة هنيهة ثم قالت بحدة وغضب:
- معي شخص ينبغي أن يخرج بسلام
وخذلته أعضاؤه المنهوكة فأحس خوراً، وذهولاً، وجموداً ثقيلاً ران على قلبه وتنفسه، ولبث دقائق لا يبدي حراكاً، ثم مضى بخطى ثقيلة إلى المكتبة وارتمى على مقعد ترتعش يداه من الانفعال والحنق، وقال بصوت كالمختنق: (يا عجبا. . . إنها لا تكلف نفسها مؤونة التستر على فضيحتها فالخدم يعلمون بغير ريب. . .)، واهتاجه الغضب ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئاً، وما كانت إرادته تقدر على أن تصطدم بإرادتها بحال، فتصاعد غضبه دخاناً كتم على أنفاسه وسد مسالك صدره. . . وقال بلهجة هسترية: (هل يكون هذا المنتهك حرمة فراشي إلا تلميذاً شريراً أو متعطلاً متسكعاً؟!) وانتظر أن تلحق به فلم تفعل؛ فقام مرة أخرى وقصد إلى حجرة النوم يسير بخطى مضطربة فوجدها جالسة على الشيزلنج منكسة الرأس، فلما أحست به بادرته قائلة:
- إني أغادر البيت في الحال إذا كان هذا يروقك
فلوح بعصاه غاضباً وقال بحنق: - ما هذه الفضائح. . . ما هذه القذارة؟
وأصابت العصا ساقها دون قصد منه. فرفعت إليه بصرها وحدجته بنظرة باردة قاسية كان لها في نفسه وقع شديد وقالت له:
- أتضرب الساق التي رفعتك إلى أعلى المناصب؟!
لقد كانت تلك الكلمة أليمة موجعة، ولكن ذكراها التي تعاوده الآن أنكى وأمرّ
وشعر عند ذلك بغمز موجع في صدره، فاتكأ على يديه الضعيفتين وهمَّ جالساً في الفراش وكسر مخدة واستند عليها متنهداً من الأعماق، وبدأ كالمستغيث من أفكاره، ولكن ذاكرته لم ترحمه ولم ترق لحاله فاستحضرت أمام ناظريه حادثة أخرى ليست دون سابقتها بشاعة وقبحاً. . . وكان ذلك وهو في أوج مجده الحكومي وكان يترأس حفلة بمدرسة الجيزة الثانوية فألقى كلمة استقبلت بالتصفيق والتقدير ووزع الجوائز على المتفوقين وغادر المنصة مودعاً من كبار الموظفين إلى سيارته وانطلقت به السيارة، وقد أخذ الظلام يغشى الطرق والحقول؛ وعند منعطف الطريق انبرى له شاب - ولعله كان تلميذاً - وصاح بأعلى صوته: (كيف تضرب الساق التي رفعتك إلى أعلى المناصب) وعرته رجفة شديدة، وتشنج جسمه فلم يلتفت نحو القاذف الخبيث وشعر بانهيار وتفكك، فتفصد جبينه عرقاً بارداً ثم إلى دمه، وعجب كيف ذاعت هذه الجملة الآثمة حتى بلغت هذا الشاب. لقد غدا قصره مورداً لفضائح غير مستورة ينهل منها المتطوعون لإذاعة المخازي. على أنه كان في تلك الأيام قوياً مستهتراً يهضم ضميره القتيل الفضائح بغير مبالاة فهدأ روعه وقال باستهانة وحنق: (قولوا ما يحلو لكم قوله - فسأظل - وأنوفكم في الرغام، السيد المطاع والرئيس المرتجى. أما الآن في ظل النقه والطهارة فقد امتعض وحزن وشعر بالذكريات تصليه لهباً جهنمياً. . .
ودخلت عند ذاك أمينة فسألته برقة: (كيف حالك يا باشا)؛ ثم جلست على مقعد وثير، فنظر إليها بعينيه الذابلتين نظرة غريبة لم تفهم معناها الحقيقي؛ وعجب الرجل كيف تحافظ على حسنها وشبابها حتى ليخال الناظر إليها أنها في منتصف عمرها، مع أنه لا يكبرها بأكثر من ثمانية أعوام. . . ثم قال لنفسه دهشاً: (رباه. . . كأني كلما زدت عاماً نقصت عاماً. . . فمتى تذبل وتذوي وتجفل من النظر إلى المرآة؟؟)
نجيب محفوظ
المصدر:
مجلة الرسالة - العدد 418
بتاريخ: 07 - 07 - 1941