أ. د. عادل الأسطة - في ذكرى عبد الرحمن منيف

في مثل هذه الأيام، قبل ثلاثة أعوام، غادرنا الروائي النجدي-كما يحب هو ان يعرّف هويته وموطنه- عبد الرحمن منيف. وكانت آخر الأعمال التي أصدرها ثلاثيته كبيرة الحجم "أرض السواد" )1999( التي أتى فيها على العراق في الربع الأول من القرن التاسع عشر، وقد اختلفت عن أعمال منيف السابقة في جانبين، على الأقل، مهمين هما أنه حدد فيها المكان، ووظف أيضاً اللهجة العامية العراقية، هذه اللهجة التي ظهرت في كتابه "سيرة مدينة" (1994). ويعرف قراء الكاتب أنه غالبا ما كان لا يحدد المكان في كتاباته، وأنه غالباً ما كان يجري الحوار فيها باللغة العربية الفصيحة، ما دفع بعض الروائيين لأن يهاجموه ويروا في ذلك هروبا من مواجهة الأنظمة السياسية العربية، حين لا يسمي الاشياء بأسمائها. وربما كان الروائي الأردني المرحوم غالب هلسة أبرز هؤلاء الروائيين.
والسؤال الذي راودني يوم توفي منيف هو: هل كتب، بعد أرض السواد، خلال الأعوام 1999-2003، أعمالاً جديدة، وكنت عرفت، من خلال المقابلة الأخيرة التي أجراها معه أديب لبناني، بثتها العربية إثر وفاته، أنه كان يفكر في كتابة رواية ذات أسلوب ساخر. والسخرية لم يكن لها حضور في أعماله السابقة التي دارت حول السجن والقمع والتسلط.
ستكون المفاجأة، في العام المنصرم (2005)، صدور رواية جديدة لعبد الرحمن منيف، هي رواية "أم النذور"، وسأقتنيها، كما هي عادتي حين كنت أرى كتابا لهذا المؤلف، ولن أتمكن من قراءتها إلا بداية هذا العام (2006)، وستكون الرواية الأولى التي أفتتح بها قراءاتي في العام المذكور. وستكون المفاجأة الثانية أن الرواية الأخيرة الصدورة للكاتب هي الرواية الأولى التي ألفها، ولكنه لم يرغب في نشرها في حياته، لأنه لم يكن راضيا عنها فنيا. وبعد أن ينتهي المرء من قراءتها سيدرك ان منيفاً كان محقا في عدم نشرها، لأن ثمة فارقا فنيا كبيراً بينها وبين أعماله الأولى التي نشرها ووجدت طريقها إلى القراء، مثل رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" و"شرق المتوسط"، والأخيرة تشكل خطوة متقدمة في الرواية العربية، لا على صعيد الموضوع وحسب، بل على صعيد الشكل ايضاً، وربما تكون أنضج ما كتب عن أدب السجون في العالم العربي. وقد لاحظ بعض الكتاب هذا وأشاروا الى أن "أم النذور" تعاني من الضعف الذي تعاني منه غالبا الروايات الاولى للروائيين: ضعف البنية السردية، كما أنها غالبا ما تجمع بين الرواية والسيرة الذاتية، إذ تميل الى أن تكون سيرة ذاتية لصاحبها.
و"أم النذور" تُعدُّ سيرة ذاتية لمنيف لفترة معينة من حياته فالروائي الذي كتبها في العام 1970 ولم ينشرها هو، وإنما نشرت بعد موته، كما أشرت، لا يكتب تجربة حياته ما بين "تاريخ الولادة وزمن التأليف، وإنما يقصرها على فترة محددة من طفولته، هي فترة ذهابه الى الكتّاب، قبل دخوله الى المدرسة، وما ألمَّ به في الكتّاب.
ولئن كان زكي النداوي في "حين تركنا الجسر" شخصية مازوخية تتلذذ في شتم ذاتها، فإن إحدى الشخصيات في "أم النذور" تتلذذ في شتم الآخرين واحتقارهم. ولئن كانت الرواية هذه لا تختلف عن روايات منيف الأولى ، من حيث عدم تحديد المكان، فإنها حين تقرأ مع "سيرة مدينة" تزيل اللبس والإبهام.
وأظن ان قراءة الرواية، مع قراءة السيرة ستجعلان الناقد يتوصل الى نتائج أفضل، وربما هنا وجب قراءة العملين معا، والإفادة من منهج (ادموند ولسن) في النقد الأدبي النفسي: دراسة سيرة الأديب وملاحظة مدى انعكاسها في أعماله. وربما كان السؤال الذي يثيره المرء بعد هذا هو: هل كانت الصدمات الاولى لمنيف من شيخ الكتاب ذات تأثير كبير على أعماله التي صور فيها الرعب في شرق المتوسط؟ وهل كان الرعب في هذا العالم في الواقع كما هو في الروايات أم أن طفولة منيف وما عانته أثرت على تلك الصورة؟
بعضنا، وهو يقرأ الرواية، قد يجد نفسه مرّ بالتجربة نفسها. وربما كان الخوف وآثاره ذوا حضور في هذه الرواية، مات عبد الرحمن منيف، وأعماله لم تمت، وفي الذكرى الثالثة لوفاته نتذكر كاتبا روائياً عربيا كبيراً، ولا بد من كلمة.


2006-01-31

عادل الأسطة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى