شهادات خاصة د. عبدالله إبراهيم - التاج

أسمع بين وقت ووقت أصواتا خافتة، تخشى الجهر بالحقّ، تدّعي بأن عبد الفتاح كيليطو ليس لديه منهج في دراسة السرد العربي القديم. بالقطع تلك أقوال متعجّلة، وعارضة، ولم تصدر عن دراية بما انكبّ عليه الرجل طوال أربعين سنة من البحث والكتابة. أقوال يتفوّه بها مَنْ لم يقرأ مؤلفاته المكثّفة والثريّة قراءة تآلف، وتفاعل، وحوار، ولم يأخذ القائلون بذلك في حسبانهم أن كيليطو ذاته هو المشروع النقدي الأكثر جذرية في استكشاف السرد العربي القديم، وبخاصة ما كتبه عن "ألف ليلة وليلة" وعن "المقامات العربية"، وعن كثير من الأشكال السردية المتناثرة في تضاعيف المدوّنات القديمة. أشكال لم ينتبه لها أحد قبله، وبقيت في منأى عن الاهتمام والنظر قرونا عديدة. أمّا أنا فليَ الحقّ في الجهر بأن ما كان عليه وعي القرّاء بالموروث السردي كألف ليلة وليلة والمقامات العربية، هو غير ما أمسى عليه بعد أن كشف كيليطو عن حيثياته، وغاص في تضاعيفه، وصقل جواهره، فقد دوّن كتبا شفّافة قلّبت صفحات ذلك الإرث العظيم على شتّى وجوهه، ورفعت من قدره بعد طول انكار وإهمال، وجاءت تضاهيه في المبنى، وتحيط به في المعنى.
لم يكتف كيليطو بالكتابة عن السرد القديم، وقد أتقن ذلك غاية الاتقان، إنما كتب مؤلفات خلّابة ماثلت النصوص التي اختارها في الروعة والدهشة. حتى لكأنّ المكتوبَ والمكتوبَ عنه قد استويا في جمال الأسلوب، وثراء الدلالة. كتبٌ تغري بالإرث السردي، وترغّب فيه، وتغوي القرّاء به، فالقراءة الطريّة ضرب من ضروب الافتتان، وشكل من أشكال الانجذاب.ومعلوم بأنّ علاقة النقاد العرب بالمناهج النقدية الحديثة علاقة ملتبسة، فمنهم، وهم الأغلبية الساحقة المهيمنة، مَنْ استسلم لها، وجعلها تقوده برسنِ ذليلا حيثما شاءتْ، فأرغمته على ما أرادته هي لا ما أراده هو، أو حتى لما اقتضته نصوص الأدب التي اختارها للبحث والدرس، وقلّة قليلة منهم استوعبتها، وهضمتها، فتوارت خلف ما كانت تفكّر به وتكتب، ولم تسمح لها بالبروز، والطغيان، إنما سيطرت عليها، وانتفعت بها، وذهبت بها إلى حيث أرادت في فتح مغاليق النصوص القديمة والحديثة. كثير من أولئك النقاد لاذوا بالدائرة المغلقة للمناهج، وحبسوا أنفسهم فيها، وفهموها على غير ما ينبغي أن تفهم به علاقة الناقد بالمنهج، فكان التكرار والاجترار، وفئة قليلة نجت من طوق تلك التبعيّة المقيتة، وأحسب أن عبد الفتاح كيليطو، هو المثال الأوضح للحالة الثانية، المثال النادر الذي قاوم تيارا من الزَّبد العكر؛ ذلك الركام المتعفّن الذي لا خير فيه للأدب، ولا فائدة فيه للمعرفة النقدية. هضم كيليطو جملة من المناهج الحديثة بوعي، ودراية، ودأب، ثم نفثها، ولم يبق إلا على بذورها، وبذلك صاغ له رؤية في النظر إلى الأدب، وابتكر منهجا في تحليله للسرد القديم. وبهما سبك هويته ناقدا بارعا. عبد الفتاح كيليطو هو تاج النقاد العرب في عصره.


د. عبدالله إبراهيم

* الملحق الثقافي لجريدة الأخبار المغربية يومه 19-1-2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى