د. محمد عبيد الله - عبد الفتاح كيليطو: القارئ المتمكّن

لم ألتقِ بعبد الفتاح كيليطو إلا من خلال كتاباته ومؤلّفاته، ومع ذلك فلا يخامرني الشك في أنني واحد من تلاميذه وقرّائه المتحمّسين، ذلك أنني أحببت كتبه التي تميل إلى الإيجاز والكثافة، كأنه يخشى أن يُفزع القارئ بكتب ضخمة الحجم كثيرة الصفحات. كما أحببت طريقته في التفكير والتعبير، فلقد وقع في نفسي مبكّرا أنها طريقة تنتمي للحرّية المسؤولة التي تأسست على خلفية منهجية ونظرية حداثية وما بعد حداثية، ولكنّها استبطنتها واستوعبتها وأعادت إبداعها، ومعنى ذلك أن النظرية لا تبرز في الطبقة الأولى من نصوصه، وإنما تكاد تختفي أو تذوب في كتابات كيليطو وشخصيته، وتبقى خلفية بعيدة عميقة، يهتدي إليها القارئ إذا أطال الصحبة مع تلك الكتابات الفريدة.
كنا نفتقد هذه الطريقة الإبداعية في قراءة النثر القديم، وتحليل المنجز السردي عند العرب، وفي اكتشاف جوانب جديدة تتعلق بشخصيات نعرفها من زوايا أُخر، مثل: ابن المقفع، والجاحظ، والتوحيدي، وابن رشد، والمعري، ومبدعي المقامات كالهمذاني والحريري... كانت الدروس الجامعية المضجرة تدفعنا إلى أن نمضي في مسالك محددة ندعوها بالمناهج والنظريات والمذاهب، ونتدرّب على أن نبدأ بها في صورة إطار نظري يحكم نظرتنا وكتابتنا، أما هو فقد كان حرّا؛ يحلّق ويكتب بالطريقة التي يراها ملائمة لتفكيره وللمادة التي يطالعها ويهتدي إليها أيضا بحرية نغبطه عليها، ويشتق طريقته من ثقافته وتكوينه وملكته التعبيرية، ولا يلزم مذهبا مسمّى بعينه. ومؤخرا أعدت قراءة إنتاجه، بما في ذلك كتبه الأدبية أو الإبداعية التي تقرب أن تكون سيرا وروايات مشتقة من طرائق السرد القديم وتقنياته، فتراءى لي أننا لو طلبنا مثالا على القارئ النموذجي أو المثالي لأمكننا أن ندعوه بيسر ووضوح "عبد الفتاح كيليطو"، فهو قارئ متمكّن من طراز فريد، في مكره المحبّب، وفي ارتيابه وحذره وترقّبه، حتى يعثر على ما يلائم قراءته في تفصيل منسي أو هامش منسي لم تنتبه له القراءات الأخرى.
نتعلم من كتابات كيليطو أن القراءة عملية ممتعة مستمرة، وأن الحقيقة التي نطلبها هي حقيقة نسبية، وحسب الباحث والناقد أن ينير نصّا أو يكشف حجابا أو عتمة، أما المعرفة المطلقة الواثقة فليست من منهجه في شيء، لا يتعالم ولا يخرج عن تواضعه المهيب، مكللا بالمودة ومحبة العربية وأدبها، بطريقة مخصوصة في التعبير عن تلك المحبة.
تشف قراءته الممتعة العميقة عن خلفيته النظرية وعن استيعابه الواسع لنظريات القراءة والسيمياء والتفكيك والنقد الثقافي، كخلفية بعيدة لما يقدمه من قراءات فيها قدر واسع من الاجتهاد والمتعة والتحليق، إنه قارئ متمرس يميل إلى بلاغة التأويل وإلى اكتشاف روابط خفية بطريقة خاصة.
عندما كتب كيليطو عن إدوارد سعيد، على سبيل المثال، استوقفه تفصيل سردي في سيرة سعيد (خارج المكان) يتمثل في عادته أن يحمل جميع حقائبه الثقيلة وأغراضه الشخصية، حتى لو كان في سفر قصير، فجعل كيليطو قراءته تحت عنوان (صورة المثقّف كحمّال)، تلك الصورة البليغة التي يلتقي فيها سعيد مع السندباد المترحل أبدا، ومع سيزيف المعذّب بأثقاله؛ إنها صورة سيميائية دالة يكتمل معناها عندما يتبين أن سعيد يرزح تحت أثقال المنفى والترحال، وما حمله للحقائب الثقيلة إلا استجابة لذلك المؤثر الخفيّ.
يستحقّ عبد الفتاح كيليطو جائزة الملك فيصل التي نالها مؤخرا، تقديرا لمكانته ولجهوده في قراءة السرد العربي القديم، ونقرأ في هذه الجائزة العريقة تقديرا لإبداع الرجل، وللقراءات الفارقة المختلفة التي دأب على كتابتها، بل يمكن أن نعد معنى الجائزة متجاوزا لكيليطو، ليشمل معه عموم قرائه ومن أحبّوا طريقته، ذلك أنها ليست الطريقة التي أشاعتها ورعتها جامعاتنا العربية الغارقة في اعتياد المدرسية، والمقررات المكررة.

د. محمد عبيد الله
• ناقد وأديب، أستاذ الأدب والنقد بجامعة فيلادلفيا، الأردن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى