ينظر الناسُ إلى الأشياء الهشّة كأنّها بلا قيمةٍ، فهي- من وجهة نظر البعض– تعكس معنى الضّعة والفوات والتحلُّل. وليست القضية إلاَّ مسألةَ وقتٍ وتصبح الهشاشة نسياً منسيّاً. لكن الفن له توجهات أخرى تماماً، ولاسيما الفنون التشكيلية التي تجعل من الهشَّ ذات أهمية قصوى إزاء أي شيء قوي. وهنا ليست النظرة العادية هي المعيار دائماً، لأنَّ الاعتيادي يحمل ما هو فائق الإبداع والقدرة على الاختلاف. الفن يكتشف الأشياء من جديدٍ، ويعرفنا على العالم كما لو لم نعرفه من قبل، كما هي جوانب لوحة الحذاء لفان جوخ.
ليست الهشاشةُ ضرباً من اليأس نتيجة حالةٍ موضوعيةٍ، ولا هي مُعطى مباشر مقذوفاً به أمام النظر من أولِّ وهلةٍ. ولكنها قد تمثل عملاً فنياً مكتفياً بذاته إزاء قبح العالم. فالفن يُعطي ما هو هش دلالة نافذة الوجود إلى إقصى مدى، ويجعل من الضعف قوة فنيةً غير عاديةٍ. ذلك أنَّ الفن به( فائض وفرة ) على القول عبر كل متلقيه في وقت واحدٍ، كما أنه يردد أصداء ما يشكله طوال الوقت دونما إبطاءٍ. وحدّهُ الفن التشكيلي يعطي الإنسان فرصة " نفخ الروح " فيما يُبدع مشتركاً في أبرز السمات الجوهرية للفنون عموماً.
من تلك الزاوية، تعدُّ الهشاشة طاقة فنية متمردةً، متفلتةً، لدرجة العصيان أحياناً. إنَّها لا تخضع لمقولات العقل ولا مقولات الأخلاق، وتتمنّع أمام النظر المباشر حتى يأخذه الوضع إلى التنحي جانباً. والأمر أكثر من ذلك، فقد تكون الهشاشة حالةً واقعةً خارج السيطرة، بسبب كونها موقعاً منسيّاً رغم بروزها وانكشافها، وقد تكون نقطة وهن إنساني ألقاها الزمن في مجرى الحياة. ولكنها في كل ذلك تعد ذروة الواقع وقوته القصوى التي لا يملك الإنسان سواها.
الهشاشة في الفن ليست حادثةً ولا واقعةً تسير بإمكانية الدفع الذاتي، لأنها محض هشاشة ببساطة وكفى. ومن غير المنطقي أنْ تصدر عنها قوة غير متوقعةٍ، لكنها أثر يستعيض عن القوة بالمعنى الخاص بها. فقد تتجلى في شكل من الأشكال أو في فعل من الأفعال أو في لقطة حية أو مرسومة بشكل فذ، غير أنها في كل هذه الصور تشب عن الطوق. وتأتي معاني الهشاشة من قدرتنا على الملاحظة والتخيل لا من مصدر آخر، فالطبيعة لا تبالي بما هو هش ولا مكان له في الحياة، لأن الأكثر عنفاً وتعبيرا عن وجوده هو الذي يأخذ كلَّ المساحة الممكنة.
هكذا يسري ذلك المعنى الصامد عبر لوحة الحذاء للمبدع" فان جوخ " التي تكشف حالة خاصة من الهشاشة المعبرة،... وهي لوحة الشهيرة ترسم البؤس والشقاء بأقرب التفاصيل اليومية. الحذاء ممزق ويُفرّغ مضمونه الحسي باقياً عند الدرجة الأبعد لدلالته أمام الرائي. أي ليس يهم أية أرجُل كانت سترتديه ولا أية أرجل قد ارتدته بالفعل، إنما الأهم هو حالته الممزقة التي تجسد وضعاً مزرياً لمن كان يرتديه. وهو بذلك حذاء يُوجد في إطار لوحة لا ينفصل عنها بحال من الأحوال، وبالتالي لا ينبغي النظر إليه إلاَّ عبر هذا الإطار الحي.
تستدعي لوحة الحذاء لفان جوخ كلَّ حالات البؤس مرةً واحدة، فللناظر أنْ يملأ الفراغ بما شاء من أرجل، من أصابع، من تاريخ مرتبط بتشقق الأقدام والجلد والكد والفقر والبؤس، بل من أجساد وأشكال ووجوه وخطوات ومسارات في الحياة. فالبؤس يكمل بعضه بعضاً حتى النهاية التي تستمر عبر أذواقنا إلى الآن. وهذا ما يجعل اللوحة منشوراً ثورياً بالأساس، يجدد نفسه أمام أية عملية تلقٍ. لأول وهلة، فإن الحذاء يضمر تاريخاً من الحياة الدالة على إفرازها الإنساني وعلى ذاكرتها النوعية. ولهذا فالحذاء كعمل فني لفان جوخ مختلف تماماً عن أي حذاء آخر.
وقد جاءت الهشاشة واضحةً في تجريد الحذاء من أية سلطة، حتى من نفسه. أنه مجرد تماماً مما نتصوره عنه من معطيات وعلاقات بالوسط الموجود فيه. أي تمَّ انتزاعه من كونه حذاءً يعتد به في ( سوق الأحذية ) عاكساً القيمة والقوة إلى أن غدا كياناً دون قيمة. فلو ارتداه إنسان، فكأنه لا يرتدى شيئاً بسبب التمزق الذي أصابه. ولو اقترب منه أنسان آخر سرعان ما سيغادره دون رجعة، وفي الوقت نفسه لا يصح وضعه خلف فاترينة العرض، فهو حذاء منهك حدَ الإفلاس وبائس حدَ التمزق ومنكفئ على نفسه لدرجة التفرد في حالةٍ من الإزدراء.
الفن التشكيلي حين يصور موضوعاته الهشة، الضعيفة فإنما يلتقط لحظة نادرة الوجود. وكأنه يقلب الطاولة أمام الطرف الأقوى في أرجوحة: الهش – العنيف، القبيح – الجميل، الأعلى - الأدنى، علماً بأن الطرف العنيف لا يدع فرصةً للآخر. والمغزى أن الفن يعطى موضوعاته" قوة اللاشيء" power of nothing. لأنَّ جوهر العمل الفني هو التعبير عن أصالة الوجود البشري بكافة صوره الممكنة. يتساوى الوجود في ذلك مع ما يُسمى على الأقل قوةً في سياقها العام. والمعايير التي تبدو مفروضةً بحكم الواقع ليس لها مبرر مقنن أمام ما يقدمه العمل الفني.
ذات مرة اعترف فان جوخ بأنه لم يلجأ إلى نظام بعينة أثناء انجاز أعماله الفنية، ولم يستعن بخبرة فنانين آخرين لتطبيق فكرة الطلاء على القماش.. في رسالة إلى أحد أصدقائه المقريبن قال فان جوخ معبراً عن تقنية الإبداع التلقائي: " في ضربات الفرشاة الخاصة بي لا أحاول العثور على نظامٍ معين، فقط أحاول أن أرسل الضربات مباشرة إلى القماش، وهي عادة ضربات غير منتظمة من الفرشاة، وأتركها كما هي تعبر عما أقوله بشكلٍّ حر". ولكن على القماش أن يواصل ما تخطه الألوان ويتحول إلى طاقة فنية هادرة، وعليه أن يؤسس وجوده الآخر والمستقل. فالألوان على القماش ليست مادةً خاماً، لكنها قيم يعبر بها الفنان عن درجات الحياة ومعانيها.
قد يرى البعض ذلك نوعاً من العبثية على نحو عام، إلاَّ أنه لا يمكن وصف أحذية فان جوخ بأنها صور سيريالية للواقع، فهي أحذية مرسومة بطريقة دلالية في المقام الأول، وهي حالات مدروسة فنياً بكل عناية وإهتمام. فكل منعطف وكل ثقب وكل ترقيع وكل إهتراء وكل مزق وكل ترهل .. أشياء متقنة ومعدة إلى درجة الإبهار. يمكننا فقط ملاحظة المفاجآت الإبداعية الكامنة فيما وراء تلك الأحذية، إنها معطيات لعالم من قطع القماش الذي يحكي ويسرد أزمنةً بمجملها.
إن ما قاله جاك دريدا عن لوحات الأحذية يظل أمراً فلسفياً مُعبراً عن إبداع فان جوخ: "هناك في لوحات الأحذية لفان جوخ نسق آخر من الخصائص المستقلة المميزة لا يكشف عنه جوخ بسهولةٍ. فهي لوحات نموذجية تعكس قدرات الفنان الخاصة وتمتعه بإعادة اكتشاف المألوف وتقديمه للمشاهد. هذا النسق ينفصل في نقطة ما ليجتمع بأطرافه وعناصره مرة ثانيةً في نقطةٍ أخرى. وبإستخدام خيط غير مرئي خفي يثقب قماش ( كأنفاس حية ) اللوحة ويخترقها كما تثقب المقرنة الورق، ومن ثمَّ تخرج منه لتصير أجزاء القماش كُلاً متكاملاً مجسداً لروعة امتزاج العالمين الداخلي والخارجي للوحة، يجمع جوخ ما بين عوالمه الداخلية والخارجية في لوحة فنية مازال معناها محل نقاش وجدل".
في تلك النقطة يمكن للقارئ أنْ يطرح سؤالاً مهماً: ما الذي كان يقصده جوخ من وراء رسم هذه اللوحات؟ أحياناً الأحذية ما هي إلاَّ أحذية كما تبدو، غير أن المتلقي الذي يتأمل اللوحات قد يدرك أن لهذا الحذاء المهتريء خصوصية متفردة دون سواه. يقول الحذاء: " أنا لست شيئاً ذال بال، فلتنظروا إلى وضعي المزري الذي فاق الحدود، ولا أجد لي مساحة معتبرة سوى الإلقاء على قارعة الحياة. فعلى أفضل الأحوال لا أريد أنْ أظهر إلاّ كما أنا مرمياً ومطروداً من الاستعمال. ولن يكون هناك إنسان مثلما كان إنساني الذي ضممت رجليه يوما ما، وربما تعد ملامحي الجلدية وثيقة على حقبة بأكملها ".
بالفعل كأنَّ الحذاء عند جوخ هو الحذاء – الوثيقة Shoe- document، لأنه علامة فنية تكتب على الجلد المهترئ المصنوع منه تاريخاً آخر ليس أقل من وصفه بحياة عاشها أناس بعينهم. الحذاء نوع من البوح الفني الإجتماعي بأن الأجل لا تقل شقاء عن حال الحذاء. وجميع درجات التمزق والإنزواء التي تميز الحذاء هي ذاتها درجات البوح التي تقول بملء الكلمة ما لم تقله كتب وصفحات بمجمالها. والحذاء دعوة للقراءة الفنية الاجتماعية لما يشكل وجود الإنسان. الحذاء هو وجود الإنسان من الأساس. انتظر الإنسان طويلاً حتى يكون الحذاء علامة على وجوده، على الرغم من كون لوحة الحذاء تعبر عن هذا بكل سهولة وبساطة منقطعة النظير.
من هذه الزاوية فصاعداً، لئن انتفت الحاجة الى هذا الحذاء وقُضي بأهماله، فلأنه يحمل عدة أشياء:
أولاً: قد جُرد الحذاء من الأقدام العارية التي كانت تنتعله ومن عملية الانتفاع من قبل مالكه ومستخدمه وبالتبعية من نشاط الشخص الذي كان يرتديه. والحالة التي عليها الحذاء تشف بطرف آخر ما معنى الأقدام التي ارتدته يوماً ما. لأنَّ الحذاء مُنهك الخطوات وفاقد الوجاهة ووصل إلى بقية حياته التي تثقل كاهله. وبالتأكيد هي قد أثقلت كاهل الشخص– صاحبه. وفان جوخ في هذا الإنتزاع للحذاء قد أخذ الأخير كرهينةٍ وكدليل مدى الحياة: على ماذا فعل به الزمن؟!
ثمَّ تحول الحذاء إلى أيقونة لا تقل قيمةً عن الإيقونات التي تزين الجدران والبيوت المقدسة والمعابد وغيرها. ولا يفتقد رائي الحذاء لتداعيات المشهد إلى صور بديله أخرى عبر خياله التاريخي. فلكل منا حذاؤه الخاص بالطبع، ومن ثم سيكون الحذاء كتاب معرفة بحكم أننا نعرف ماذا حدث مع الحذاء طالما كان بهذه الكينونة. ولو كانت ثمة عبارة جامعة معبرة في هذا الشأن، لكانت أنَّ " الحذاء هو الإنسان". إنه يرتبط بكل مساره في الحياة، عثراته ونجاحاته والأحداث التي مر بها والمفاجآت التي توالت عليه وإقتحمت وجوده الهش.
ثانياً: كون الحذاء حذاءً مرسوماً في لوحة فنيةٍ يعني أنه مفيد ضمن حدودها التي ينبغي التفكير بها بصيغ الألوان وخامة القماش والرباط الذي يدخل في ثقوب الحذاء. يمر الرباط مباشرةً عبر الفتحات( ثقوب صغيرة في طرف حذاء يُدخل فيه الشريط ) التي تتخذ شكل أزواج متقابلة يخترقها الرباط بصورة متعاقبة، ليظهر للمشاهد في جانبه الخارجي ويختفي في مقابله الداخلي. لكن هل يعني الظهور والاختفاء المتعاقب للرباط عبر ثقوب الحذاء في اللوحة دمجه جلد الحذاء كنقوش الرسم؟ يخترق الرباط الثقب عبر الفتحات المعدنية (الحواف)، وهو بذلك يخترق الجلد الذي صُنع منه الحذاء وقطعة قماش الرسم في آن واحد. وأكثر من هذا إنه يخترق وعي المُشاهد الغفل ليربطه بالجوانب الأخرى للعالم الذي يتأمله ويتلقاه. وكأن رباط الحذاء هو رباط اللوحة والحياة بصورة متداخلة ومتسللة إلى درجة بعيدة.
ثالثاً: يفتح الحذاء طريقاً للوراء لا إلى الآتي، ذلك بقدر ما يبدو مستعملاً وبه كم من فقدان الصلابة المطلوبة. لأنه بحرفية العبارة قد تفتت، أي تمت دغدغته، ومعه تمت دغدغة كل آمال بإمكانها أن ترى عودته للإستخدام كرة أخرى. فكأنه قد وصل إلى محطته الأخيرة مقذوفاً بعد أن قطع المسيرة مع الأقدام البشرية. والافتتاح المقصود أنه يجعل وجوده فضاء للتذكر والعودة إلى الخلف بشكل قوي. وهذا ما يعبر عنه وجه اللوحة وتنويعاتها الفنية مع درجات الألوان المختلفة.
رابعًاً: إذا كان" الحذاء هو الإنسان " معبراً عن حياته، فالمعنى الطريف في لوحات فان جوخ أن الإنسان ذاته– من جانب عام- هو حذاء العصر في أي زمان ومكان. بمعنى أن هناك إسقاطاً من لوحات فان جوخ على تحول الإنسان نفسه إلى حذاء للقهر والفقر والبؤس والمعاناة. وذلك نتيجة القمع الواقع عليه والمستعمل له حتى أمسى حذاء ملبوساً حد التمزق. ومثلما يرتدي الإنسان البائس حذاء مهترئاً، فإن الأنظمة المستبدة وظروف العصر قد لبست( إرتدت) كيان الإنسان كأنه حذاء ليس أكثر. وغالباً ما تتركه الظروف مرمياً وهشاً بلاقيمة على قارعة التاريخ. إحدى اللوح يظهر فيها ثقبان بأعلى رقبة الحذاء، كأنهما عينان لإنسان منهك وفاقد إنسانيته ولا تظهر ثقوب أخرى في هذا المشهد. والعينان يعطيان حرية التخييل لدى المتلقي في اعتبار الإنسان هو ( حذاء البؤس) الذي قد تعيشه بعض المجتمعات.
خامساً: يبدو أنَّ الحذاء في لوحات فان جوخ بمثابة" استعارة سيميائية " تستحضر استعارات القهر ومسيرة الإنسان المنهكة في الحياة. فلئن كانت ثمة أحذية تحمل تبعات حياتنا من مرحلة إلى سواها بهذه الشاكلة، فاستعارة الحذاء تستحضر الإستعارات الأخرى التي تضعها وسط الصراع والتفاعل داخل المجتمعات. مثل استعارات المشي والشقاء والكد والعمل المتواصل والفقر التي تتداخل في أجواء اللوحات. وربما تلك الفكرة جعلت فان جوخ تاركاً الحذاء لمن يرى فيه نفسه كما هو بلا رتوش أخرى.
ليست الهشاشةُ ضرباً من اليأس نتيجة حالةٍ موضوعيةٍ، ولا هي مُعطى مباشر مقذوفاً به أمام النظر من أولِّ وهلةٍ. ولكنها قد تمثل عملاً فنياً مكتفياً بذاته إزاء قبح العالم. فالفن يُعطي ما هو هش دلالة نافذة الوجود إلى إقصى مدى، ويجعل من الضعف قوة فنيةً غير عاديةٍ. ذلك أنَّ الفن به( فائض وفرة ) على القول عبر كل متلقيه في وقت واحدٍ، كما أنه يردد أصداء ما يشكله طوال الوقت دونما إبطاءٍ. وحدّهُ الفن التشكيلي يعطي الإنسان فرصة " نفخ الروح " فيما يُبدع مشتركاً في أبرز السمات الجوهرية للفنون عموماً.
من تلك الزاوية، تعدُّ الهشاشة طاقة فنية متمردةً، متفلتةً، لدرجة العصيان أحياناً. إنَّها لا تخضع لمقولات العقل ولا مقولات الأخلاق، وتتمنّع أمام النظر المباشر حتى يأخذه الوضع إلى التنحي جانباً. والأمر أكثر من ذلك، فقد تكون الهشاشة حالةً واقعةً خارج السيطرة، بسبب كونها موقعاً منسيّاً رغم بروزها وانكشافها، وقد تكون نقطة وهن إنساني ألقاها الزمن في مجرى الحياة. ولكنها في كل ذلك تعد ذروة الواقع وقوته القصوى التي لا يملك الإنسان سواها.
الهشاشة في الفن ليست حادثةً ولا واقعةً تسير بإمكانية الدفع الذاتي، لأنها محض هشاشة ببساطة وكفى. ومن غير المنطقي أنْ تصدر عنها قوة غير متوقعةٍ، لكنها أثر يستعيض عن القوة بالمعنى الخاص بها. فقد تتجلى في شكل من الأشكال أو في فعل من الأفعال أو في لقطة حية أو مرسومة بشكل فذ، غير أنها في كل هذه الصور تشب عن الطوق. وتأتي معاني الهشاشة من قدرتنا على الملاحظة والتخيل لا من مصدر آخر، فالطبيعة لا تبالي بما هو هش ولا مكان له في الحياة، لأن الأكثر عنفاً وتعبيرا عن وجوده هو الذي يأخذ كلَّ المساحة الممكنة.
هكذا يسري ذلك المعنى الصامد عبر لوحة الحذاء للمبدع" فان جوخ " التي تكشف حالة خاصة من الهشاشة المعبرة،... وهي لوحة الشهيرة ترسم البؤس والشقاء بأقرب التفاصيل اليومية. الحذاء ممزق ويُفرّغ مضمونه الحسي باقياً عند الدرجة الأبعد لدلالته أمام الرائي. أي ليس يهم أية أرجُل كانت سترتديه ولا أية أرجل قد ارتدته بالفعل، إنما الأهم هو حالته الممزقة التي تجسد وضعاً مزرياً لمن كان يرتديه. وهو بذلك حذاء يُوجد في إطار لوحة لا ينفصل عنها بحال من الأحوال، وبالتالي لا ينبغي النظر إليه إلاَّ عبر هذا الإطار الحي.
تستدعي لوحة الحذاء لفان جوخ كلَّ حالات البؤس مرةً واحدة، فللناظر أنْ يملأ الفراغ بما شاء من أرجل، من أصابع، من تاريخ مرتبط بتشقق الأقدام والجلد والكد والفقر والبؤس، بل من أجساد وأشكال ووجوه وخطوات ومسارات في الحياة. فالبؤس يكمل بعضه بعضاً حتى النهاية التي تستمر عبر أذواقنا إلى الآن. وهذا ما يجعل اللوحة منشوراً ثورياً بالأساس، يجدد نفسه أمام أية عملية تلقٍ. لأول وهلة، فإن الحذاء يضمر تاريخاً من الحياة الدالة على إفرازها الإنساني وعلى ذاكرتها النوعية. ولهذا فالحذاء كعمل فني لفان جوخ مختلف تماماً عن أي حذاء آخر.
وقد جاءت الهشاشة واضحةً في تجريد الحذاء من أية سلطة، حتى من نفسه. أنه مجرد تماماً مما نتصوره عنه من معطيات وعلاقات بالوسط الموجود فيه. أي تمَّ انتزاعه من كونه حذاءً يعتد به في ( سوق الأحذية ) عاكساً القيمة والقوة إلى أن غدا كياناً دون قيمة. فلو ارتداه إنسان، فكأنه لا يرتدى شيئاً بسبب التمزق الذي أصابه. ولو اقترب منه أنسان آخر سرعان ما سيغادره دون رجعة، وفي الوقت نفسه لا يصح وضعه خلف فاترينة العرض، فهو حذاء منهك حدَ الإفلاس وبائس حدَ التمزق ومنكفئ على نفسه لدرجة التفرد في حالةٍ من الإزدراء.
الفن التشكيلي حين يصور موضوعاته الهشة، الضعيفة فإنما يلتقط لحظة نادرة الوجود. وكأنه يقلب الطاولة أمام الطرف الأقوى في أرجوحة: الهش – العنيف، القبيح – الجميل، الأعلى - الأدنى، علماً بأن الطرف العنيف لا يدع فرصةً للآخر. والمغزى أن الفن يعطى موضوعاته" قوة اللاشيء" power of nothing. لأنَّ جوهر العمل الفني هو التعبير عن أصالة الوجود البشري بكافة صوره الممكنة. يتساوى الوجود في ذلك مع ما يُسمى على الأقل قوةً في سياقها العام. والمعايير التي تبدو مفروضةً بحكم الواقع ليس لها مبرر مقنن أمام ما يقدمه العمل الفني.
ذات مرة اعترف فان جوخ بأنه لم يلجأ إلى نظام بعينة أثناء انجاز أعماله الفنية، ولم يستعن بخبرة فنانين آخرين لتطبيق فكرة الطلاء على القماش.. في رسالة إلى أحد أصدقائه المقريبن قال فان جوخ معبراً عن تقنية الإبداع التلقائي: " في ضربات الفرشاة الخاصة بي لا أحاول العثور على نظامٍ معين، فقط أحاول أن أرسل الضربات مباشرة إلى القماش، وهي عادة ضربات غير منتظمة من الفرشاة، وأتركها كما هي تعبر عما أقوله بشكلٍّ حر". ولكن على القماش أن يواصل ما تخطه الألوان ويتحول إلى طاقة فنية هادرة، وعليه أن يؤسس وجوده الآخر والمستقل. فالألوان على القماش ليست مادةً خاماً، لكنها قيم يعبر بها الفنان عن درجات الحياة ومعانيها.
قد يرى البعض ذلك نوعاً من العبثية على نحو عام، إلاَّ أنه لا يمكن وصف أحذية فان جوخ بأنها صور سيريالية للواقع، فهي أحذية مرسومة بطريقة دلالية في المقام الأول، وهي حالات مدروسة فنياً بكل عناية وإهتمام. فكل منعطف وكل ثقب وكل ترقيع وكل إهتراء وكل مزق وكل ترهل .. أشياء متقنة ومعدة إلى درجة الإبهار. يمكننا فقط ملاحظة المفاجآت الإبداعية الكامنة فيما وراء تلك الأحذية، إنها معطيات لعالم من قطع القماش الذي يحكي ويسرد أزمنةً بمجملها.
إن ما قاله جاك دريدا عن لوحات الأحذية يظل أمراً فلسفياً مُعبراً عن إبداع فان جوخ: "هناك في لوحات الأحذية لفان جوخ نسق آخر من الخصائص المستقلة المميزة لا يكشف عنه جوخ بسهولةٍ. فهي لوحات نموذجية تعكس قدرات الفنان الخاصة وتمتعه بإعادة اكتشاف المألوف وتقديمه للمشاهد. هذا النسق ينفصل في نقطة ما ليجتمع بأطرافه وعناصره مرة ثانيةً في نقطةٍ أخرى. وبإستخدام خيط غير مرئي خفي يثقب قماش ( كأنفاس حية ) اللوحة ويخترقها كما تثقب المقرنة الورق، ومن ثمَّ تخرج منه لتصير أجزاء القماش كُلاً متكاملاً مجسداً لروعة امتزاج العالمين الداخلي والخارجي للوحة، يجمع جوخ ما بين عوالمه الداخلية والخارجية في لوحة فنية مازال معناها محل نقاش وجدل".
في تلك النقطة يمكن للقارئ أنْ يطرح سؤالاً مهماً: ما الذي كان يقصده جوخ من وراء رسم هذه اللوحات؟ أحياناً الأحذية ما هي إلاَّ أحذية كما تبدو، غير أن المتلقي الذي يتأمل اللوحات قد يدرك أن لهذا الحذاء المهتريء خصوصية متفردة دون سواه. يقول الحذاء: " أنا لست شيئاً ذال بال، فلتنظروا إلى وضعي المزري الذي فاق الحدود، ولا أجد لي مساحة معتبرة سوى الإلقاء على قارعة الحياة. فعلى أفضل الأحوال لا أريد أنْ أظهر إلاّ كما أنا مرمياً ومطروداً من الاستعمال. ولن يكون هناك إنسان مثلما كان إنساني الذي ضممت رجليه يوما ما، وربما تعد ملامحي الجلدية وثيقة على حقبة بأكملها ".
بالفعل كأنَّ الحذاء عند جوخ هو الحذاء – الوثيقة Shoe- document، لأنه علامة فنية تكتب على الجلد المهترئ المصنوع منه تاريخاً آخر ليس أقل من وصفه بحياة عاشها أناس بعينهم. الحذاء نوع من البوح الفني الإجتماعي بأن الأجل لا تقل شقاء عن حال الحذاء. وجميع درجات التمزق والإنزواء التي تميز الحذاء هي ذاتها درجات البوح التي تقول بملء الكلمة ما لم تقله كتب وصفحات بمجمالها. والحذاء دعوة للقراءة الفنية الاجتماعية لما يشكل وجود الإنسان. الحذاء هو وجود الإنسان من الأساس. انتظر الإنسان طويلاً حتى يكون الحذاء علامة على وجوده، على الرغم من كون لوحة الحذاء تعبر عن هذا بكل سهولة وبساطة منقطعة النظير.
من هذه الزاوية فصاعداً، لئن انتفت الحاجة الى هذا الحذاء وقُضي بأهماله، فلأنه يحمل عدة أشياء:
أولاً: قد جُرد الحذاء من الأقدام العارية التي كانت تنتعله ومن عملية الانتفاع من قبل مالكه ومستخدمه وبالتبعية من نشاط الشخص الذي كان يرتديه. والحالة التي عليها الحذاء تشف بطرف آخر ما معنى الأقدام التي ارتدته يوماً ما. لأنَّ الحذاء مُنهك الخطوات وفاقد الوجاهة ووصل إلى بقية حياته التي تثقل كاهله. وبالتأكيد هي قد أثقلت كاهل الشخص– صاحبه. وفان جوخ في هذا الإنتزاع للحذاء قد أخذ الأخير كرهينةٍ وكدليل مدى الحياة: على ماذا فعل به الزمن؟!
ثمَّ تحول الحذاء إلى أيقونة لا تقل قيمةً عن الإيقونات التي تزين الجدران والبيوت المقدسة والمعابد وغيرها. ولا يفتقد رائي الحذاء لتداعيات المشهد إلى صور بديله أخرى عبر خياله التاريخي. فلكل منا حذاؤه الخاص بالطبع، ومن ثم سيكون الحذاء كتاب معرفة بحكم أننا نعرف ماذا حدث مع الحذاء طالما كان بهذه الكينونة. ولو كانت ثمة عبارة جامعة معبرة في هذا الشأن، لكانت أنَّ " الحذاء هو الإنسان". إنه يرتبط بكل مساره في الحياة، عثراته ونجاحاته والأحداث التي مر بها والمفاجآت التي توالت عليه وإقتحمت وجوده الهش.
ثانياً: كون الحذاء حذاءً مرسوماً في لوحة فنيةٍ يعني أنه مفيد ضمن حدودها التي ينبغي التفكير بها بصيغ الألوان وخامة القماش والرباط الذي يدخل في ثقوب الحذاء. يمر الرباط مباشرةً عبر الفتحات( ثقوب صغيرة في طرف حذاء يُدخل فيه الشريط ) التي تتخذ شكل أزواج متقابلة يخترقها الرباط بصورة متعاقبة، ليظهر للمشاهد في جانبه الخارجي ويختفي في مقابله الداخلي. لكن هل يعني الظهور والاختفاء المتعاقب للرباط عبر ثقوب الحذاء في اللوحة دمجه جلد الحذاء كنقوش الرسم؟ يخترق الرباط الثقب عبر الفتحات المعدنية (الحواف)، وهو بذلك يخترق الجلد الذي صُنع منه الحذاء وقطعة قماش الرسم في آن واحد. وأكثر من هذا إنه يخترق وعي المُشاهد الغفل ليربطه بالجوانب الأخرى للعالم الذي يتأمله ويتلقاه. وكأن رباط الحذاء هو رباط اللوحة والحياة بصورة متداخلة ومتسللة إلى درجة بعيدة.
ثالثاً: يفتح الحذاء طريقاً للوراء لا إلى الآتي، ذلك بقدر ما يبدو مستعملاً وبه كم من فقدان الصلابة المطلوبة. لأنه بحرفية العبارة قد تفتت، أي تمت دغدغته، ومعه تمت دغدغة كل آمال بإمكانها أن ترى عودته للإستخدام كرة أخرى. فكأنه قد وصل إلى محطته الأخيرة مقذوفاً بعد أن قطع المسيرة مع الأقدام البشرية. والافتتاح المقصود أنه يجعل وجوده فضاء للتذكر والعودة إلى الخلف بشكل قوي. وهذا ما يعبر عنه وجه اللوحة وتنويعاتها الفنية مع درجات الألوان المختلفة.
رابعًاً: إذا كان" الحذاء هو الإنسان " معبراً عن حياته، فالمعنى الطريف في لوحات فان جوخ أن الإنسان ذاته– من جانب عام- هو حذاء العصر في أي زمان ومكان. بمعنى أن هناك إسقاطاً من لوحات فان جوخ على تحول الإنسان نفسه إلى حذاء للقهر والفقر والبؤس والمعاناة. وذلك نتيجة القمع الواقع عليه والمستعمل له حتى أمسى حذاء ملبوساً حد التمزق. ومثلما يرتدي الإنسان البائس حذاء مهترئاً، فإن الأنظمة المستبدة وظروف العصر قد لبست( إرتدت) كيان الإنسان كأنه حذاء ليس أكثر. وغالباً ما تتركه الظروف مرمياً وهشاً بلاقيمة على قارعة التاريخ. إحدى اللوح يظهر فيها ثقبان بأعلى رقبة الحذاء، كأنهما عينان لإنسان منهك وفاقد إنسانيته ولا تظهر ثقوب أخرى في هذا المشهد. والعينان يعطيان حرية التخييل لدى المتلقي في اعتبار الإنسان هو ( حذاء البؤس) الذي قد تعيشه بعض المجتمعات.
خامساً: يبدو أنَّ الحذاء في لوحات فان جوخ بمثابة" استعارة سيميائية " تستحضر استعارات القهر ومسيرة الإنسان المنهكة في الحياة. فلئن كانت ثمة أحذية تحمل تبعات حياتنا من مرحلة إلى سواها بهذه الشاكلة، فاستعارة الحذاء تستحضر الإستعارات الأخرى التي تضعها وسط الصراع والتفاعل داخل المجتمعات. مثل استعارات المشي والشقاء والكد والعمل المتواصل والفقر التي تتداخل في أجواء اللوحات. وربما تلك الفكرة جعلت فان جوخ تاركاً الحذاء لمن يرى فيه نفسه كما هو بلا رتوش أخرى.