د. أحمد الحطاب - إذا أسندت أمور الفن إلى غير أهلها، فانتظر التَّمييع

في الخمسينيات و الستينيات و السبعينيات… و قبل وفاة كبار الفنانين أمثال أحمد البيضاوي، المعطي البيضاوي، عبد القادر الراشدي، عبد النبي الجيراري، عبد السلام عامر، اسماعيل أحمد، المعطي بنقاسم، عباس الخياطي، العربي الدغمي، محمد حسن البصري، عبد الرزاق حكَم، حمادي التونسي، حمادي عمور المتوفى حديثا، أحمد الطيب العلج، الطيب الصديقي، محمد حسن الجندي، عبد الجبار الوزير… كان للفن بغنائه، بمسرحه، بسنيمائه، بكتاباته، بمؤلفِيه، بمُخرجيه، بعيطته، بملحونه، بطربه الأندلسي، هيبةٌ و حُرمة و احترام. و كان له حُماةٌ عِظام يغيرون عليه و يحصِّنونَه من كل دخيل و من كل طفيلي و من الرداءة والتفاهة ومن الريع و باك صاحبي والزبونية والمحسوبية والوصولية…

كانت الساحة الفنية لها شأن و لها مكانة في قلوب الناس الذين كانوا ينتظرون بشغف ما ستجود به من جديد و من إبداع. كانت هذه الساحة محروسة حراسة صارمة بحيث لا يلجها إلا من تتوفَّر فيه مواصفات الفنان الرفيع المستوى المهني و الثقافي. كانت هناك لجان تقلِّب العمل الفني يُمنَةً و يسارا، طولا و عرضا قبل أن يحظى بالموافقة لعرضه على الجمهور من خلال وسائل الإعلام العمومية المرئية و المسموعة.

و بالموازاة مع الحرص على جودة الفن، كان هناك حرص كبير كذلك على جودة تقديم البرامج سواءً على أمواج الإذاعة أو على أثير التلفزيون. كان الناس يسعدون بسماع أصوات لها كاريزما عالية في مجالي الإعلام و التقديم من أمثال محمد بن ددوش، محمد بوعناني، سميرة سيطايل، محمد الصديق معنينو، أحمد الزايدي، عبد العظيم الشناوي، أحمد ريان، بديعة ريان، محمد الجفان، فاطمة لوكيلي...

أما اليوم و مع موت جل حُماة وحُراس الفن، مات الفن بمعناه النبيل و ماتت جودتُه و مستواه الرفيع. و أصبحت الساحة الفنية مفتوحة على مصراعيها لمَن هب و دب. سوق فوضوية اختلط فيها الحابل بالنابل. بل سوق تباعُ و تُشتري فيها الرداءة والتفاهة. سوق عُملَتُها مبادلات صكوك الريع و التَّمييع. سوق لم يعد فيها الفن إلا سِلعة لتبادل المصالح، بل إلا كعكةً تنهشها الأيادي المغتصبة للفن بجميع روافده. فمات الفن الرفيع المستوى وحل محله عَفَنٌ ينتشر كالسرطان.

الكل يريد أن يصبح فنانا، مذيعا، مقدمَ برامج، مُخرجا سينمائيا، مسرحيا، كاتبَ كلمات و سيناريوهات، مؤلفا… ضاربين عرض الحائط مقوِّمات و أبجديات هذه المهن و أسسها العلمية. همُّهم الوحيد هو الكسب الدَّسم و ليذهب المستمع و المشاهد إلى الجحيم.

وليذهب الفن الرفيع نفسُه إلى الجحيم. فشوِّهت الأغنية المغربية و العيطة و التراث الأصيلان و المسرح الهادف و الكتابة النقية و الإخراج المهني… علما أن الفن الرفيع هو واحد من أسُس الحضارة.

و ما يؤسف له و يحز في النفس، هو أن الجهات (وزارة الثقافة و محطات الإذاعة و التلفزيون العمومية) التي من المفروض أن تحرصَ على جودة الفن و تحميه من الرداءة و التفاهة و الوصولية، هي أول مَن يفتح البابَ على مصراعيه للتافهين والوصوليين ليلوِّثوا و يهدِّموا بجهلهم ما بناه الرُّواد على امتداد عقود بأكملها. جهات تبرع في توزيع الريع كالمنشار : "طالع واكل هابط واكل"، ناسية أو متناسية أن ما توزِّعه من ريع هو من ضرائب المواطنين. لك الله يا وطني.
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى