د. رسول محمد رسول - كيف تلعب اللغة بالكلمات؟

ثلاثة عقود مرّت على صدور كتاب (Language Saussure and Wittgenstein; How to play Games with Words?) بلغته الإنجليزية لمؤلّفه البريطاني روي هاريس (1931 - 2015)، أستاذ فلسفة اللغة وعلومها في (جامعة أكسفورد) وجامعات عالمية عدّة، ليصدر بترجمة إلى العربية هي الأولى من نوعها نهض بها المترجم العراقي المبدع "فلاح رحيم" تحت عنوان (سوسير وفتجنشتاين.. فلسفة اللغة ولعبة الكلمات)، الذي تلاعب بترجمة العنوان خدمة لدلالته عربياً ولا بأس في ذلك. وباعتقادي أن هذه الترجمة هي إنجاز للمكتبة العربية لما فيه من قراءة جادّة في فكر عَلمين من أعلام الفكر اللغوي الغربي الحديث والمعاصر على نحو مُقارن في ضوء تقديم المترجم لصنيعه الترجمي هذا عندما يقول: "أختار هاريس منهج المقارنة، في عشرة فصول، ليقدّم إضاءات نقديّة عميقة ودقيقة وشيقة لنتاجهما الإشكالي العسير".
موضعة ومقارنة
ويمعن المترجم أكثر في صنيع المؤلِّف التأليفي هذا عندما يقول إن هاريس: "عمل على موضعة فكر الاثنين في سياقه التاريخي ليبرز ما فيه من خصوصيّة وتجديد تنطلق منه بقية فصول الكتاب لمناقشة أسئلة أساسية في مجال فلسفة اللغة وعلومها" لغرض "إدراك الطبيعة الإشكالية لمثل هذه الأسئلة".
وما هو مؤكّد وشائع أن كلاً من سوير وفتجنشتاين لم يطلع على كتابات الآخر، لكن ذلك لا يمنع من "اعتماد فرضية التشابه بين آرائهما"، والكتاب برمته يقوم على هذه الفرضية، ولكن كيف؟ هنا يعتقد فلاح رحيم بوصفه قارئاً لمتن الكتاب قبل ترجمته إياه إلى العربية بأن الاثنين، سوسير وفتجنشتاين، تبنيا "قياس اللعبة" عندما شبها "اللغة باللعبة"، وجعلاهما "منطلقاً" لهما.
والواقع، وبحسب فلاح رحيم، أن هاريس جعل من كتابه هذا "ميداناً لم يطرقه أحد قبله"! وتلك هي براعته في هذا المنحى بسبب تباعدهما، لكن رحيم يؤكّد أن سوسير وفتجنشتاين ينتميان إلى "تقليدين فكريين مختلفين هما: مدرسة التحليل اللغوي واللسانيات البنيوية". ولذلك شهدت الأوساط اللغوية، وبعد صدور هذا الكتاب، "محاولات المضي في هذه المقارنة بين الاثنين"، ما يعني أن هاريس فتح أفقاً جديداً يعود خيراً على كلا الرجلين وعلى الدراسات اللغوية.
ولذلك يستعرض "تقديم" المترجم نماذج من هذه الدراسات البعديّة من حيث الموضوع وليس من حيث الأسبقية الزمنية كما هو الحال مع "أنتوني ثيسلتون" في أحد فصول كتابه (الأفقان هرمنطيقا العهد الجديد والوصف الفلسفي) لسنة 1980. وورقة الباحث اللغوي النرويجي "أرنولد يوتاكر"، خصوصاً ما يتعلّق بالشكل والسياق في بحثه المعنون (الشكل في اللغة.. فتجنشتاين والبنيوية) لسنة 1992، وبحث بريجيت بيرلتش تحت عنوان (سوسير وفتجنشتاين .. اعتباطيّة النحو واستقلاله) الذي نشر تالياً وتحديداً في سنة 1998، ولعل السؤال يبقى قائماً: هل توقف هاريس عند ذلك فحسب؟
التكامليّة
بالطبع كلا، فقد أسس هاريس في العقدين الأخير من حياته، بحسب فلاح رحيم، "مدخله الخاص إلى فهم اللغة والتواصل أسماه اللسانيات التكاملية"، وأسس أيضاً (الرابطة الدولية للدراسة التكاملية للغة والتواصل) في سنة 1998، ونشر مجموعة من الكتب في هذا السياق منها: (العلامات واللغة والتواصل) في سنة 1996، و(ما بعد الأبستمولوجيا) في سنة 2009.
وحسنا أقبل فلاح رحيم عندما استأنس بآراء بعض المتابعين لتكاملية هاريس، ومنهم كريستوفر هوتن أحد المتحمسين لنظرية "التكاملية" عند هاريس عبر شطرين هما "إن ما يكوّن العلاقة لا يكون معطى على نحو مستقل عن الحالة أو الموقف الذي ترد فيه العلامة أو عن التجليات المادية لها في الحالة المتعينة. كذلك أن قيمة العلامة أو دلالتها هي وظيفة تتصل بالكفاءة التكاملية التي يفترض هاريس وجودها". ولنذهب أكثر إلى هاريس الذي كان اعتقد بأن "العلامة" لها "حضورها الحتمي في الفعاليات الخاصّة التي تمثل منشأها الأول"؛ ذلك أن "التكاملية التي يقول بها هاريس لا تثق بأيّة قواعد تسبق التجربة المتعينة لوجود تنوّع من التجارب دون حدود".
إن هذه الرؤية تضع "التكامليين في تضاد مع سوسير"، لكن هوتن يرى أن "التكاملية رفضت نموذج سوسير في مجالات الاعتباطية والخطيّة والمعنى والقواعد ووجود اللغات كأنظمة"، قال هاريس ذلك في كتابه (ما بعد الأبستمولوجيا. ص (74) والذي قال فيه ليس بعيداً عن التكاملية: "إن البشر صانعين لا مستخدمين للغة" (ص 166). وما هو رائق هنا أن هاريس يتحدّث عن التكاملية قائلاً: "ليست المعرفة عملية الوصول إلى شيء يقع خارج ذاتك؛ فالمعرفة برمتها تتكوّن داخلياً بفعل مقدرة الإنسان على توليد العلامات، والعالم الخارجي يقدّم المادة الداخلة في هذه العملية الإبداعية لكنه لا يحسم مسبقاً ما يخرج عنها. وبهذا تنشأ العلامات، وبالتالي المعرفة، من المحاولات الإبداعية الساعية إلى دمج الفعاليات المتنوّعة التي تتوفر لدى الإنسان القدرة عليها"، (ما بعد الأبستمولوجيا. ص 162).
وهنا لا استغرب السؤال فيما إذا كان فلاح رحيم سيترجم كتاب هاريس (ما بعد الأبستمولوجيا) لكونه شديد الأهمية في بسط فلسفة هاريس في حدود هذا المنحى؟ ليأتي هكذا سؤال على هامش ترجمة كتاب هاريس طي العرض في مقالنا هذا رغم أن فلاح رحيم ينوّه لقارئه العربي بأن كتاب هاريس هذا كان "وجد دراسات تطبيقية مُهمه صدرت في ضوء منطلقاته"، ويعرض لبعض العناوين التي سارت في هذا المجال بالهامش رقم "5" في الصفحتين "17 + 18".
عربة لُعبة اللغة
يستعين المترجم بآراء بعض المهتمين في هذا الشأن من الباحثين العرب. ولا يدخر جهده بالتنويه أنه اعتمد في ترجمة النصوص الواردة في الكتاب تلك التي كتبها فريدناد دي سوسير ولودفيغ فتجنشتاين ووردت في متن الكتاب والتي اعتمدها المؤلف روي هاريس، على الترجمات السابقة لكتب هؤلاء إلى العربية، أي ترجمة الدكتور يوئيل يوسف عزيز لكتاب سوسير (علم اللغة العام)، وكذلك ترجمة عبد القادر قينيني لكتاب سوسير (علم اللسان العام)، وترجمة الدكتور عزمي إسلام لكتاب فتجنشتاين (بحوث فلسفية)، وأيضاً ترجمة الدكتور عبد الرزاق بنور لكتاب فتجنشتاين (تحقيقات فلسفية)، وهذا لعمري تواصل طيب يُشكر عليه المترجم العراقي فلاح رحيم.
أما "مقدمة" روي هاريس للكتاب فقد بينت بأن "تأريخ علم اللغة الحديث هو تأريخ آراء متصارعة بصدد الطريقة التي علينا اعتمادها في تحليل اللغة". وواضح أن هاريس هو نفسه لعب على هذا الصراع والتضاد في الآراء، وتفيّأ بها ليخرج برؤاه العتيدة. وإذا كان البحث في اللغة اعتمد على شُعب ثلاث هي: "المنطق، والبلاغة، والنحو"، فإن هذا التقسيم يعود اليوم إلى واجهة المشهد رغم قدمه ومروره بمدارس عدّة، ويجده هاريس أنه تميز بعودته على يدي فريدناد دي سوسير ولودفيغ فتجنشتاين؛ حيث "قادَ كل منهما حركة فكرية تمكنت من السيطرة على الفكر اللغوي في القرن العشرين، وكلاهما كان فاعلاً في إحداث إعادة تقويم جذريّة للدور الذي تعلبه اللغة في الشؤون البشرية"، وسط اعتقاد روي هاريس بأن اللغة ما عادت هامشاً في الفكر البشري إنما هي "في المركز من هذا الفهم". ونراه يعتقد بأن "الكلمات ليست تسميات صوتية مُجرّدة أو مُلحقات اتصالية مفروضة على نظام مُعطى مسبقاً للأشياء، إنما هي أدوات جوهريّة يشكّل منها البشر عالمهم ويعبرون بها عنه". وكان لكل ذلك تأثيره في مختلف حقول المعرفة الإنسانية، وهو ما أدركه كل من سوسير وفتجنشتاين، فكلاهما مضيا في هذا الشوط إلى "نهايته".
وبكل تواضع يرى هاريس بأن هذا الكتاب "يتعلّق بالمقارنة بين آرائهما في اللغة" رغم أن كل منهما "ينتمي إلى مدرستين أكاديميتين مختلفتين كثيراً"؛ فكلاهما "تسبّب في إحداث انقلاب داخل حقله الخاص شغل المعلّقين بما يخص الحقل ذاته من دون أن يدفعهم إلى عقد مقارنات تناهجية"، لكن روي هاريس يعتقد في كتابه هذا بوجود "تماثل بين سوسير وفتجنشتاين، وبالرغم من التباعدات الأساسية والجلية فإن هاريس يلمح "تشابهات عديدة بينهما"، ولذلك صبّ اهتمام دراسته مجتهداً عبر تكثيف موجز "بما يمكن أن يُرى بوصفه التقاط الأكثر إيحاءً في الصلة بين الفكر اللغوي" عند كل منهما، وهو التقاط/ قراءة يصفها هاريس بالمتواضعة التي لم تأت "من فراغ in vacuo" إنما من إمعان دقيق بجوهر أساسي قوامه "تشبيه اللغة كلعبة محكومة بقواعد" حتى إن هاريس كان يتمنى تسمية كتابه "لعبة اللغة"، لكن هكذا عنوان سيقتصر على فتجنشتاين وحده، ولذلك ينوّه بأن هذا الكتاب "فُرض بأثر رجعي على سوسير"!
ولذلك قال هاريس بأن سوسير وفتجنشتاين يوفران "ذخائر ثمينة من الأفكار عن اللغة" توفر، بدورها، تأويلات وتفسيرات متعدّدة، ويختم مقدمته قائلاً: "إن التأويل والجدال هما المحوران لأيّة عربة تاريخية تستحق أن تدخل السباق"، ليمضي في فصول كتابه العشرة جامعاً بين علمين رائعين من أعلام اللغة والفلسفة اللغوية في القرن العشرين ليس بعيداً عن بيان الاختلاف فيما بين مشروعها.

د. رسول محمد رسول


نشرت في مجلة (تراث)، العدد: 254، تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. ص 66 – 69.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى