"2"
تماسك، أوقف هذا النشيج المذبوح، دموع الرجال لا تسقط إلا لأمر جلل، لسقوط أمة، ضياع وطن، انهيار تاريخ، تمزق اللحظات المصلوبة على عالم كامل، يغزوه الجوع، يفتته الظلم، دموع الرجال عزيزة، حتى أنها تأبى النزول خوفا من ضعف، أنت تبكي بكاء نساء مكلومات، بكاء خلوج يحاصرها الحنين والحنان.
وهل صبحية أقل من أمة؟ أصغر من وطن؟ أنظر للسماء، حدق جيدا، أترى الغمام والسحاب، كيف تحمل أجنتها في جوفها بكل حرقة وألم؟ تعتصر ذاتها بذاتها، حسرة على فراق أختي، لتنهل دموعها بتواصل من رحمة ودفق وحياة، تنفس مع الصبح إن كنت تملك قدرة فك المستغلق، لتشم رائحة الطل والندى وهما يهجسان بما فجعا، هناك، حيث العين ترسو، على شاطئ حيفا، يافا، عكا، بيسان، تنزل الشمس من مكانها وهي محملة بالترح والندامة على ضياع نورها وغيابه، تجاهد اتقاء الاختناق، حتى لا تغتالها الظلمة، ترسل دموعها ساخنة تشوي الآفاق المفتوحة على شجن وهي تتلوى كأفعى سحق رأسها، فتصبغ العين والحياة بغسق يتململ بحثا عن شفق ينادي باللون والصمت رائحة صبحية، يستجدي الصمود من بريق عينيها حين كانت تسهم في الفراغ الغائص بفراغ، وكأنها منزوعة من عالمنا، عالم الجسد، لتسكن في عالم يعرفها، يمشي على جلدها، يقطع مسافات من أزمان غير أزماننا، من دهور غير دهورنا، كنا وكانت الأشياء كلها تقف بتبتل أمام عينيها التي ترسل حياة في مجهول يقاد عنوة نحو معلوم.
أنت لا تعرف صبحية، لم تشم رائحتها، لم تتمرغ بعبقها وعرقها، لم تتعطر بأنفاسها، لم يسكنك قلبها، ولم تعمرك روحها، أما أنا بالسر المكنون بأعماقي منذ بدء خلقي، كانت معي، وكنت فيها، جسد هنا وجسد هناك، يلتقيان على غرة الحرية والجمال، على قمة الضياء والنور، يفتحان أبواب الغيب دفعة واحدة، يقتحمان الخفي بلمسة شهيق، يسبران الأغوار بشفقة زفير، كانت هي كل شيء، وكنت عالة على ما فيها من خير يتصل بكرم وجود يتصل بعطاء، لكنها كانت ترفعني نحو رفعتها، تنفحني بنبلها، تأخذني نحو سموها، وتقف مرة واحدة على صورة ظل لا يمكن لمسه لما فيه خفاء.
وتسألني إن كانت أكبر من أمة كاملة؟ كأنك تريدني أن أنزل من علوها خجلا يقال بأنه تواضع؟ نعم صبحية، بفم ما زال وكان وسيبقى بكل ثقة يعلن بثقة الاعتقاد بأنها عندي أكبر من أمة، من تاريخ متصل بالتاريخ، وهي أغلى من الوطن بكل ما فيه من ذرة التراب وحتى السماء التي تظلله، نعم هي الأمم كلها، التاريخ كله، الوطن كله، هي من تظلل كل ذلك بأريحية أصالتها وسماحتها، وهي من تضخ بكل ذلك الألق واللمعان.
دموعي، نحيبي، ونشيجي، حزني، كربي، يتمي، كلها قليل من قليل، لا أحد سيدرك مثلي كيف انطفأ الكون في لحظة واحدة، تحول لبقايا سخام لم يحتمل البقاء كتلة واحدة تحمل تكوينها بتكوينها، وهل تريد مني الانسحاب من دموعي وحزني فقط لتبقى الرجولة التي تتقمصها أنت وغيرك؟ إذن فاعلم، علم يقين لا يطوله شك، بأنني أتنازل عن رجولة لا تبكي بكل ما فيها من حنين وشوق لقدم صبحية وهي تطأ الأرض وتزرع فيها النماء والبقاء، سأفقأ عيني بيدي إن حاولت أن تشتكي من حرارة الدمع وملوحته، سأخلع قلبي من مكانه، وأرميه في قاع من قيح وصديد، إن تردد في الوجيب المدمى والمعنى، سأمسك روحي وأعلقها على مُهل يتمخض إن تعثرت على طريق الألم الذي يحميني من الضياع والتيه.
نعم سأبكيها بكاء نساء، سأقحم قلبها الكبير برجولتي، دون نظر أو تأمل، قلبها الذي حير العقول وأذهل العلوم، قلب الأم الذي ينقص رجولتي لتكون شفافة، لا تُرى رغم وقوعها في عمق الرؤى، سأبكيها في البيت، بين زوجي وأولادي، في الشوارع بين الأرصفة، في الطرقات بين الأشجار، سأرسل دموعي وصراخي وفجيعتي بين الناس في الأسواق والمجمعات والأندية، نعم سأبكيها كامرأة لا تستطيع كبح دموعها وأنوثتها وأمومتها، حتى تذوب الدموع وتتلاشى العيون، حتى يغيب البصر وتنتحر البصيرة، سأبكي يدها، أناملها، أحذيتها، ملابسها، رائحتها، كي أكون رجلا تعتز به الرجولة، وأخا تعتز به الأخوة.
سأتمسك بالحزن تمسك المؤمن بإيمانه، أسقيه من لوعتي المشحوذة على نصال الوجع، على أسنة التوق والشوق، حتي يصبح مني، من تكويني، لا يستطيع مغادرتي، ولا أود مغادرته، سأجلس وحيدا بين طيات الليل وصفحات النهار، أضخ بحنجرتي قوة الصوت والنداء، ليأتي الصوت بالصدى مرددا صبحية، صفيتي، صبحية، فتتنبه الغابات، فيدوي صوتها بنداء على صبحية، وتخرج المحيطات من سباتها وهي تتوحد فيً، في النداء القادم من الأعماق، حيث البراكين وهو تشهق بصبحية، نعم سأبكيها كل يوم، في كل صلاة بين يدي الخالق، سأغرق بالتذلل للإله طلبا للتجاوز عنها، برحمة تنقلها من البرزخ إلى جواره، حيث لا مطلق سواه، ولا منتهى إلا إليه.
سأقف كل ساعة ألف نفسي بثوبها، لتعمرني رائحتها، تسكنني، تنتشر حتى تتلاشى رائحتي ولا يبقى سوى رائحتها، سأخرج لأوزعها على الحدائق، على الأيائل، على الخمائل، على الشمس والفضاء والقمر، على النهار والليل، على الشروق والغرب، على الفجر والمساء، على النمل والنحل، على عين ماء تتسلل تحت الأرض، تفتح أنفاقا لتصل من القاع لقمة في صحراء، تنادي السراب لتنقذه من ظمأه الذي يخدع الناس، ليصبح حقيقة تجس الحرارة والالتهاب، على قبر أمي، قبر أبي.
سآتي بصوتها من الفضاء، أخلطه برائحتها، أنادي حفيدتي سارة، لانا، دانه، لارا، لين، مريم، ريما، ياسمين، وحفيدي عمر، لأغسلهم بصوتها، برائحتها، بفورات الحنان التي تتفجر عيونا من رحمتها وهي تسكب قلبها عليهم بما فيه من أمومة تنبثق من الفطرة، الفطرة المعمدة بقدرة الفاطر، سأحمل أولادي، معتصم، لينا، أحمد، رؤى، مصطفى، لأزرعهم في روحها التي تفطرت عليهم يوم خرجوا من الظلمات، ليعانقوا نورها المتوهج بلهفة انتظارهم، لصوت الآذان الذي يكون أول السمع من شفتيها، وأول النفس من فمها المعطر بالطيبة، سأقول لهم: هناك في عمقها كنتم تحلمون كل أحلامكم، وتخبئون كل امنياتكم، فأنتم لولا رائحتها، لما كنتم اليوم تزرعون الأمل بأولادكم.
نعم مرة أخرى، سأبكيها وأبكيها، سأحزن وأحزن، وأعلم الصبر كل حروف الأسى والوجع، ليكون معي في البكاء والبكاء، سأبكي بكاء يعذب البكاء، يرهق الدموع، يشوي النحيب، يفتت النوح، كيف يمكنني كإنسان، أن المس الفرح أو اقترب منه بعد أن غابت من كانت الفرح كله؟ الحبور كله؟ السعادة كلها؟ حتى الفرح همس لي: لقد فقدت ذاتي، لكنك حين رششت رائحتها فوقي، وفتحت صوتها لي، قالت: لا تترك أخي بين حزن أو تعب، احمله على رائحتي وصوتي، قربه مني، سأهمس له همسا لا يسمعه سوى هو، أريدك أن تفرح، أخي وعمري، فالروح رغم ذهاب الجسد، ترفرف حولك، تدعو لك، كما غاب الجسد، سيغيب جسدك، سأكون هنا بانتظارك، لأسأل الله بقلب الأخت والأم أن يعفو عنك، لنحيا كما الله يكتب ويريد.
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
إلى أختي صبحية أحمد مصطفى محمد زيدان، وفاء لذكراها، لكل شهقة وزفرة، لكل لحظة ولحظة، عشتها وعاشتها، علها تكون صدقة جارية من الكريم العزيز، ما دام حرف يقرأ وصوت يسمع.