حاتم السيد مصيلحي - فن المقامة (في القرن السادس) تأليف: د.حسن عباس.. عرض وتقديم:

فن المقامة - كما يرى الدكتور شوقي ضيف - من أهم فنون الأدب العربي، وخاصة من حيث الغاية التي ارتبطت به، وهي غاية التعليم وتلقين الناشئة صيغ التعبير، وهي صيغ حليت بألوان البديع،وزينت بزخارف السجع، وعني أشد العناية بنسبها، ومعادلاتها اللفظية، وأبعادها ومقابلاتها الصوتية، وبديع الزمان هو الذي مهد الطريق وعبده لظهور هذا الفن، وخلفه الحريري فتبين المعالم والصّوَى بأوضح مما تبينها سلفه إذ كان أوسع ثقافة، وأحكم صياغة، وأقوى تعبيرا، فإذا هو يصل بالفن إلى القمة التي كانت تنتظره، وإذا مقامته تصبح المعجزة الخارقة التي لا تسبق ولا تلحق على مر العصور.
وكان لازدهار فن المقامة في القرن السادس الهجري أسباب، منها ماهو سياسي واجتماعي، وإلى جانب ذلك أسباب ثقافية لا تقل عنها تأثيرا إن لم تفقها، تركت آثارها في جمهور المتلقين للعمل الأدبي، وجمهور الأدباء أنفسهم.
ويرى د.حسن عباس أن أول هذه الأسباب: هو هبوط منزلة الشعر، فقد اشتعلت نار الحرب في كل مكان من الأرض العربية، وتشاغل الناس بالحرب وويلاتها عن التغني بالشعر والتحليق معه في آفاق الخيال،فقد كان واقعهم المرير كفيلا بردهم عن ذلك،على عكس القرون الأولى التي كانت الحروب فيها سببا في مساجلات شعرية لا تقل خطورة في نفوس العامة والخاصة عن المعارك الحقيقية التي تدور بين الفريقين، أما في حروب هذا القرن فلا، فلم تكن الحرب بين المسلمين والصليبيين في الشام والأندلس حربا مذهبية تقوم على أسس فلسفية يمكن للشعر أن يتناولها بالنقاش والتفنيد، ولم يكن لينهض من جانب الفريق الآخر شعراء يمكن أن يرد على دعواهم، فالقوم لا يعرفون العربية، وإنما يتحدثون لغة أو لغات أخرى.
كما أن المسلمين لم يستطيعوا أن يحققوا انتصارا باهرا مؤكدا في هذه الحروب يمكن أن يطلق الشعر الحبيس من عقاله، فانتصار اليوم كانت تهدمه هزيمة الغد، وكان الانتصار في مكان ينسخه الاندحار في غيره.
والثاني: أن أكثر حكام وأمراء تلك الفترة كانوا من غير العرب:
فقد كانت الغلبة في فارس والعراق والشام للسلاجقة الذين مدوا سلطانهم فيما بعد إلى مصر واليمن والحجاز، كما كانت الغلبة في المغرب والأندلس للبربر، وكان أكثرهم لا يحسن اللسان العربي فضلا عن تذوق الشعر العربي، ولا أدل على ذلك مما يروى عن ابن تاشفين، فإنه عندما عبر إلى الأندلس معينا لملوك الطوائف أنشده جماعة من الشعراء بتوسط المعتمد بن عباد، فسأله المعتمد: "أيعلم أمير المسلمين ما قالوه؟ قال: لا أعلم، ولكنهم يطلبون الخبز" فلما انصرف إلى إشبيلية كُتِب إليه:
بنتم وبنا، فما ابتلت جوانحنا
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سودًا وكانت بكم بيضًا ليالينــا
فلما قرئ عليه البيتان قال للقارئ: " يطلب منا جواري سودا وبيضا؟ قال: لا يامولانا، ما أراد إلا أن ليله بقرب أمير المؤمنين نهارا؛ لأن ليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده ليلا؛ لأن أيام الحزن ليال سود، فقال: والله جيد،اكتب له في جوابه: إن دموعنا تجري عليه، ورؤسنا توجعنا من بعده.
ولا شك أن هذا الجهل الفاضح بالعربية حال بين هؤلاء الحكام وبين تقدير الشعر وأهله، ففقد الشعراء بذلك الرعاية التي طالما أحيطوا بها من الحكام العرب وغير العرب في العصور السالفة،فتفرغوا لفنهم وأبدعوا فيه ما شاء لهم الإبداع.
ولاشك بعد هذا أن تكون المقامة هي القالب الجديد المفضل عند الأدباء استجابة لجمهور المتلقين الذي لم يكن على استعداد كبير للتهويم مع الشعر في عوالمه غير المنظورة، ولانصراف أرباب الدولة وأصحاب السلطان عن رعاية الشعر والشعراء.
ولقد استطاعت المقامة بإهابها الفضفاض أن تجذب عددا كبيرًا من المفكرين والأدباء؛ لاتخاذها وسيلة لتوصيل أفكارهم،لقد استطاعت أن تؤدي دور القصيدة الشعرية في كثير من الأحيان غزلا ومدحًـا وهجاء،وكان في ذلك كله أبلغ في التعبير وتحقيق الهدف المنشود؛ لأنها تقدم ذلك في قالب له جدته وطرافته، وجذبت أيضا الأدباء من أصحاب الصناعتين النثر والنظم؛ لأنها تعتمد على المزاوجة بين الفنين في بنائها، ومثلت بذلك إغراء أمام الكتاب والشعراء لخوض غمارها لإظهار براعتهم،وتمكنهم من الفنين جميعا.
وتعد مقامات الحريري قمة كبرى للمقامة حيث صادفت في نفوس الناس استحسانا وقبولا، وانتشرت بين الخاصة والعامة،وتعهدها الناسخ بالرواية والنسخ والدرس.
أما عن كيفية اتصال المقامات الحريرية بالأدب الإسباني؟ فيرى الباحثون أنها وجدت طريقها إليه عبر كتاب الأندلس اليهود الذين احتفوا بالمقامة ترجمة وتقليدا، بالإضافة إلى النقل المباشر عن طريق الأوروبيين أنفسهم الذين وجدوا طريقهم إلى الشرق العربي عبر الحملات الصليبية،وأتيح لهم الوقوف على المقامات فنقلوها إلى لسانهم واحتفوا بها.
الاتجاه الوصفي والنقدي في أدب المقامة.
لقد أدرج بعض الباحثين المقامات
في النثر الوصفي، فالوصف يشكل اتجاها من أبرز الاتجاهات المقامية، فلابد لكاتب المقامة من أن يعرض لوصف مسرح مقامته على أن هذا الوصف قد يتراوح بين الطول والقصر حسبما تقتضيه علاقة أحداث المقامة بهذا الميدان، فإذا انتهى كاتب المقامة من مسرح الحدث أو الأحداث حيث يلتقي البطل بالرواية نجده يطنب شيئا ما في وصف المكان ومن فيه.. ولم تقف ظاهرة الوصف في مقامات القرن السادس عند وصف الظواهر الخارجية للأشياء بل تعدتها إلى نوع من الوصف الذاتي الوجداني.
الاتجاه النقدي:
حاولت المقامة أن تبتلع مضامين القصيدة الشعرية، فرأيناها تعنى بموضوعات كان النثر الفني قد تركها للشعر، كالوصف والغزل، والمدح، والهجاء...، ويرى بعض الباحثين أنها استطاعت أيضاً أن تزاحم النثر التأليفي في بعض موضوعاته، فاقتحمت مجال النقد الأدبي.
وقد حاول تشنري T.chenery أن يربط بين البناء الأدبي للمقامة من حيث هي لون جديد من الأدب وبين الألوان الأدبية السابقة عليها في أدبنا العربي كالقصيدة الشعرية والخطبة، والرسالة، وأخبار القصاص.. وأصبح للمقامة جانبان بذلك: فكونها كانت مروية أعطاها الصيغة الخطابية، وكونها كانت مكتوبة مقروءة أشربها طبيعة الأناة التي في الرسالة، وامتزاج هذين العنصرين أعطاها إطارا يعمد إلى التجديد، وينتقل صاحبه انتقالا طبيعيا من الشعر إلى النثر، ومن النثر إلى الشعر، مع تضمين ماشاء من الأخبار والأمثال والنوادر والحكم.
ويرى المؤلف أن المقامة الأدبية لم تتأثر بهذه الأجناس التى سبقها إلى الوجود بقدر ماحاولت أن تبتلعها وأن تضمها تحت ثوبها الفضفاض.


* فن المقامة ( في القرن السادس)
تأليف: د.حسن عباس
ط: دار المعارف، 1986
عرض وتقديم: حاتم السيد مصيلحي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى