د. أحمد الحطاب - فن العيطة، كان هو صوت المجتمع في الماضي

المقصود ب"صوت المجتمع" هو أن العيطة، كفن غنائي، كانت هي الوسيلة التي كان هذا المجتمع، بواسطتها، يعبر عن همومه وأفراحه وخصوصا في العالم القروي الذي كان يتسيّدُه القياد الذين كانوا، في غالبيتهم، طُغاةً و مستبدين. فن العيطة فن أصيل تضرب جدورُه في أعماق المجتمع المغربي. لكنه، في أيامنا هذه، يعاني من نظرة نمطية ومن اعتداءات وتطفُّل آثميين.
نظرة نمطية جعلتْ العديد من الناس يصنفونه، وبدون حق، في خانة الفن الردئ والمنحط، المنحرف وغير اللائق أخلاقيا. كما أصبحتْ صورة الشيخة في مخيلة فئة عريضة من المجتمع مقترنةً بالعهارة والفسق وسوء الأخلاق، الخ. وهذا الادٍِعاء ادٍِعاء خاطيء على الإطلاق لأنه، في غالب الأحيان، صادر عن ناس يحكمون على الأشياء بكيفية سطحية ولا يكلفون أنفسَهم عناءَ البحث عن حقائق الأمور. بل إنهم يُصدرون أحكاما لا شيءَ يبرِّرها سوى ما يتناقله القيل والقال وما تتناقله الأفواه من أحكام مسبقة وما خلَّفه ويخلِّفه تحريف وتَسلِيعُ هذا الفن الأصيل والاتِّجار به.
وفضلا عن هذه الادعاءات، فإن فن العيطة تعرَّض ويتعرَّض لاعتداءات من طرف ناس لا دراية لهم بهذا الفن، وبكل وقاحة، نصبوا أنفسَهم شيوخا له متجاهلين ما يحمله هذا الفن من رسائل اجتماعية وما يحمله في طياته من وقائع وأحداث تاريخية وعادات وأعراف قَبَلِية. إن هؤلاء الناس ليسوا إلا مجرد متاجرين بفن العيطة من خلال تحريفه عن أهدافه التاريخية والاجتماعية. فهم الذين جردوه من معانيه السامية التي كانت سائدة ومحبوبة لدى أجيال العشرينيات و الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات…
و من جراء هذا التَّغيير، أصبحنا، في نظري، أمام نوعين من العيطة.
نوع أول أصيل، له ألوانه وأشكاله، ومتجدر في الوِجدان المغربي وذلك بشهادة باحثين مغاربة مرموقين كرسوا جزأ مهما من حياتهم لدراسة هذا الفن. فن أصيل لانه، في الحقيقة، عبارة عن صوت عالي لجماعات بشرية ينقل ويحكي ويصف أفراحها ومسراتها ومعاناتها من ظلم و قهر و تعسُّف و طغيان… فن أصيل له روَّاده وشعراءه وألحانه وقواعده ومكانة لا جدالَ فيها في المجتمع المغربي.
ونوع ثاني سموه المََحرِّفون "عيطة" بينما هو، في الحقيقة، لا علاقة له بالعيطة كفنٍّ أصيل. إنه فقط نوع من الغناء فارغة كلماتُه من المعنى و المحتوى. إنه فقط عبارة عن سِلعة تباع و تشترى. غناء، المُلصقةُ به تسميةُ "عيطة"، بإمكاننا أن نستمع له مرارا و تكرارا دون أن نلمس فيه خيطا ناظما يجعل منه ترجمةً لقضايا اجتماعية. بل كل ما في الأمر أن هناك تواجدا لكلمات ولجُمل لا يُسْتَخْلَصُ منها أي شيء ما عدا ما يجذب الأذن من إيقاع موسيقي سريع و راقص و قافية من أجل القافية. أما المحتوى، فيبقى كلام ترفيه لا أقل ولا أكثر لا وجود لقضية فيه ولا لموضوع اجتماعي. كلام تتخلَّله، أحيانا مفردات نابية و خادشة للحياء.
و الطامة الكبرى هو أن بعض الأشخاص يتطاولون على فن العيطة الأصيل ويجعلون أنفسَهم أسيادَه والعارفين بخباياه. بل ويستعلَون على رواده الحقيقيين ويتجاهلونهم. لكن ما ينساه أو يتعمد نسيانَه هؤلاء المتطاولون هو أنه، لولا وجود هؤلاء الرواد، لضاعت العيطة بمعناها الأصيل. فبفضلهم، ظلت العيطة الأصيلة صامدةً إلى يومنا هذا، رغم ما تعرَّضت له من تحريف وماجرة و تطاول. ومن نتائج صمودها، تجدر الإشارة إلى الإقبال عليها بشغف من طرف الشباب.
العيطة، بمعناها الأصيل والنقي، في حاجة لمَن يعطيها اهتماما يليق بها. اهتمام يكون فيه الباحث (على غرار حسن نجمي و أحمد فردوس و ادريس بلعطار و آخرون)، المتعمق في أغوارها هو سيد الموقف. و هذا شيء مهمٌّ جدا لإبراز القيمة الاجتماعية لهذا التراث الذي يحمل في طياته وصفا دقيقا للمجتمع عبر التاريخ من عادات وتقاليد وأسطورات وعشق وهجاء ونقد وافتخار وإنجازات وتطلعات ومقاومة للاستعمار... فضلا عن الإبداع الذي كان يتميز به المؤلفون والملحِّنون الذين هم، في غالب الأحيان، عصاميون. العيطة في حاجة لمَن يُخرجَها على الخصوص من الميوعة التي أدخلها عليها بعض المتطفلين على الفن والمتاجرين به. الخوف كل الخوف هو أنه، عندما يختفي الرواد، كيف سيكون مصير العيطة؟
كتُراث ضاربة جذوره في أعماق التاريخ، العيطة يجب المحافظة عليها أولا وقبل كل شيء من طرف وزارة الثقافة. وهذا شيء ليس بعسير ولا يتطلب جهدا ماليا كبيرا. ومن جهة أخرى، أنا متأكِّد أن المحافظة على هذا التراث ستلقى إقبالا كبيرا من طرف العديد من المتبرعين الذين لهم غيرة عليه ويرون فيه وصفا أنثرويولوجيا لما كانت عليه حياة القبائل المغربية عبر التاريخ. بل لِما لا تُحدَثُ في كليات العلوم الإنسانية مختبراتٌ بحثٍ خاصة بالعيطة تمهيدا للاعتراف بها كتراث إنساني يُدرَّسُ في الجامعات وتفتخر به الأجيال كما هو الشأن ل"التبوريدة". وهنا، لا بد من الإشارة أن فن التبوريدة مترسِّح في الوجدان المغربي ويكون دائما مقترناً بفن العيطة إذ لا يمكن أن تُقامَ المواسم دون أن تُقامَ سهراتٌ طوالٌ يكون "لِلْعْيُوطْ" فيها النصيبُ الأكبر. "عْيُوطْ" تتغنَّى، من ضمن ما تتغنى به، بالفروسية و الخيول و "لْمِقَدْمِينْ" و البارود…
فن العيطة يستحق كل الاهتمام والتثمين لكونه جزءٌ من الهوية المغربية. فكما يعشق الناسُ الملحون أوالموسيقى الأندلسية أو الطقطوقة الجبلية أو موسيقى الرݣادة الشرقية أو أحواش أو أغاني "عْبيدات ارْما"...، فإن العيطة، بجميع أشكالها وأنماطها، هي الأخرى نوع من الموسيقى المغربية الشعبية التي هي جزء لا يتجزَّأ من التراث الثقافي المغربي.
و بمناسبة الحديث عن الاهتمام بالتراث الثقافي المغربي، أريد أن أن أشيرَ أنه لما كنتُ مسئولاً بوزارة التعليم العالي و البحث العلمي، قمتُ بزيارات لعدد من الدول الأوروبية. و كم كان إحساسي عظيما و حزينا في نفس الوقت حينما تكون هذه الزيارات لمدن و مراكز حضرية صغيرة. إحساس عظيم لأن من يسير هذه المدن و المراكز الصغيرة يولون اهتماما جنونيا لتراث هذه البلدات و لتاريخها و ثقافتها. وكم من مرة ذُهِلتُ بالطريقة التي يتم بها تقديم هذا التراث، يتخللها الاعتزاز و الفخر وحب واضح للبلدة. وما هو هذا التراث؟ غالبا ما يكون طبيعيا و ثقافيا و أحيانا علميا (كتب قديمة، مخطوطات، سِحِّلات). كما يدخل في نطاق هذا التراث أشياء قد لا تخطر بالبال : طريق صغير مُبلّط بالحجارة، ممر مُسقَّف، نافورات، مَغسلات، ناهيك عن الأبراج و البنايات ذات الطابع الديني والعسكري والتجاري، أحياء بأكملها، طواحن، أجراس، الخ. كل جزء من التراث له تاريخه و قصته.
إحساس حزين لأني كنت أتمنى أن تعطى نفس الأهمية لتراث بلادي. فما بالك بفن العيطة الذي هو تراثٌ لشعب بأكمله!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى