أدب السجون طرائف المعتقلين السياسيين: أحمد حبشي… وحكاية “شكون هرس البرادة”؟.. 2/1 اعداد: هدى سحلي

2/1

هم أصحاب مواقف معارضة، قادتهم إلى غياهب المعتقلات السرية، المعروفة منها والمجهولة العنوان.. سياسيون أمضوا سنوات طوال خلف الأسوار والأبواب الموصدة في زمن الجمر والرصاص.. قاوموا العزلة وبرودة السجن، وحاولوا النجاة بإرادتهم من أجواء المعتقل بعدما خلقوا أجواء من الفرح من عمق الألموالتوتر والقلق والكآبة والخوف.. منهم من قضى في السجن، ومنهم من غادر أسواره بأعطاب نفسية عميقة، أضحت لحظات الألم فيها الآن، أو عند كل استدراج للذاكرة عنوانا للتفكر من المرحلة وثقل المرحلة.

في هذه الفسحة، ثمة طرائف للمعتقلين السياسيين، جديرة بأن تُروى، تمكنوا من خلال عفويتها ومواقفها وصناعتها أحيانا، التحرر من قسوة المكان وسطوة السجان.. تعيد “دابا بريس” نشر مروياتهم، التي حكوها ذات ليال رمضانية، للزميلة “هدى سحلي”

ومن بين هؤلاء المعتقل السابق أحمد حبشي ، فيحكي مثل كثيرين هنا، كيف انتصر بمعية زملائه على ظلمة الزنزانة وتعذيب السجان بسلاح السخرية وصناعة الطرائف المنقوعة من كوميديا المواقف….

>>>>>>>>>>>>>>>

1676026271995.png

كنت كلما ذكر أمامي درب مولاي الشريف، أتخيل تلك الغرفة المظلمة، أو الزنزانة المعتمة، وذاك السجان ضخم البنية، غليظ القلب، فظ اللسان، وهو يحمل سوطه المفتول، وصوت السوط يبلغ مسامعي، وهو ينزل على جسد المسجونين وآهاتهم تخترق الزنازين… ولا من مجيب.

في مخيلة الجميع، السجن رديف للنهاية، لكن يحدث أن يكون للسجن أيضا جانبه المضيء، أو هكذا جعلني أحمد حبشي أحس وهو يسرد تفاصيل يمكن وصفها بالممتعة، عاشها خلال العشر سنوات التي قضاها بالزنزانة، من درب مولاي الشريف، مرورا بسجن الدار البيضاء “غبيلة”، وصولا إلى السجن المركزي بالقنيطرة.

1676026230834.png


الرجل الطيب، كما يدعوه كل من سألتهم عنه، اختزل الحياة في قيمة الإنسان لذاته، قدرته على تحويل المساحات السوداء، إلى بياض كي لا تغتال الظلمة قلبه، حتى صارت أجمل الذكريات، تلك التي قضاها بالسجن وهو ابن الخمسة وعشرين سنة.

العشر سنوات التي أمضاها حبشي خلف السجن، كانت حياة شبيهة بحياة العالم الخارجي إلى حد كبير، فيها من الطرائف ما يضحك القلب، ومن الإبداع ما يغذي الروح، ومن السمر ما يؤنس الليل الطويل.

تعود به الذاكرة إلى الوراء، ويضحك ملء قلبه حتى انفرجت أساريره، وأدمعت عيناه، وأضحك معه غير مصدقة لشغب السياسيين الجميل.

1676026316853.png

أحمد حبشي في الوسط

يتذكر كيف أسس هو ورفاقه لمجموعة غنائية اختاروا لها من الأسماء “ناس لسوار”، مجموعة حملت على عاتقها كسر جدار الصمت وأزيز الزنازين، إلى موسيقى ترقص عليها أجساد السجناء…يرددون أغاني “ناس الغيوان” و”جيلالة” و”المشاهب”، وكل المجموعات الغنائية التي ظهرت في تلك الفترة الزمنية، فكانت متعة ومقاومة وثورة على القيود داخل القيود.

سهرات ما لبثت أن خفت الإقبال عليها بعد دخول الراديو إلى السجن، فكانت “ناس لسوار” تجتمع كما اعتادت، تدندن وتعزف على آلات موسيقية صنعوها من قنينات وصينيات وكؤوس، وكل ما يمكن أن يصدر صوتا تنساق له الآذان، وعوض أن يتحلق حولهم السجناء، كان صوت صراخهم يعلو “سكتونا…خليونا نسمعوا الراديو”، وخفت صوت حبشي الغنائي، خلف ترددات الموجات الإذاعية.

وكما أن السجن انطواء وشجاعة وحزم وخوف وغضب، فالسجين شخصية ابداعية قادرة على إحالة كل أسباب الصراع إلى طاقة خلاقة، يستعين بها للتغلب على طبيعة السجن وقيده وقوانينه، وهكذا كان لحبشي بدائل كثيرةـ يتغلب بها على نفسه قبل أن يكسر جبروت الجلاد، وانتقل من الغناء في مجموعة “ناس لسوار” إلى مواهبه في السرد، بعد أن أسس الرفاق إذاعة بالسجن، تبث أسبوعيا، كلٌ خلف مدخل زنزانته يقدم عرضه، نشرة إخبارية، فاصل غنائي، وسلسلة يقدمها حبشي تحت عنوان “شكون هرس البرادة؟” يقول حبشي، انها كانت سلسلة يحكي فيها عن مفتش شرطة أضناه البحث والتحقيق لفك قضايا إجرامية، فكان حبشي يطلق العنان لمخيلته، في نسج القصص والمتاعب التي تعترض مفتش الشرطة، وكان السجناء ينتظرون موعدهم بتلهف لسماع “شكون هرس البرادة؟” التي لايزال الآن وبعد مرور 40 سنة عن خروجه من السجن، يسألونه الرفاق عنها كلما سمحت الفرصة للقاء.

******

2/2

يكاد السجن أن يكون وحشا ضاريا أو هوة للموت تبتلع من يدخلها، هوة تحيل الفرد إلى قزم، لكن بالنسبة لحبشي الأمر كان مختلفا، فالسجن بالنسبة له كان تجربة حياة، وعلاقات إنسانية وطيدة، أوجعه فراقها، لحظة نادى عليه السجان، يبشره حينها بالإفراج عنه بعد عشر سنوات قضاها داخل أسوار السجن المركزي في عاصمة الغرب القنيطرة.

المفروض بالنسبة لنا نحن الذين لم نختبر مرارة السجن، أن لحظة الإفراج هي ولادة جديدة، وانعتاق من الأسر نحو الحرية، لكن بالنسبة لحبشي، الأمر كان مغايرا، يقول أحمد حبشي أنه في اللحظة التي ترك السجن، وخرج إلى العالم الخارجي، كان تائها، شاردا، وبكى طويلا، لا يعلم من أين يبدأ وإلى أين ينتهي، وهو الرجل الذي ألف الحياة التي أسسها له داخل جدران السجن الباردة، وكان كما قال أحمد المرزوقي في روايته “تازمامارت” : “لا أتخيل نفسي بعد تسع سنوات من السجن والعذاب والأمراض الجسدية والنفسية، تأتي لحظة الحرية، فأشعر بالضياع لا أدري أين أذهب”.

وهذا كان حال حبشي، ضائعا، غريبا عن الحرية، كان يعرف السجن، أسواره وممراته، استأنس بجلاديه واعتاد رتابة السجن، ولم يُخرِجهُ من حالة التيه التي عاشها في تلك اللحظة سوى زغاريد الأهل، وفرحة الأم بعودة الابن، يحكي حبشي مبتسما “حين وصلت إلى منزلي، وجدت في استقبالي كل الجيران، وأبناء الحي، حاملين الأعلام…استقبلوني استقبال الأبطال” ويضحك متابعا “المضحك أنهم كانوا يعتقدون أني سأتولى منصبا مهما في الدولة، بما أنني معتقل سياسي، وانتقدت الملك الراحل الحسن الثاني”.

فرح العودة لم ينس حبشي سنواته الجميلة في السجن، كان يمضي في الحياة، وذاكرته معلقة في العشر السنوات الماضية، حيث الألفة والتضامن والطرفة، وشغب الرفاق.

يتذكر احتفالات رأس السنة، وطرائف الرفاق، خاصة رفيقه “مربي الدجاج”.

سألته باستغراب كيف مربي الدجاج؟ يضحك ويقول، هو رفيق من أعجب الرفاق وأغربهم، شخصية روائية بامتياز… كان كما نقول بالدارجة تجسيدا لـ”ولد الدرب وسط الحبس”.

يتذكر هنا حبشي أنه في أحد الأيام، قام مربي الدجاج، بالحصول على “بيضة بلدية” وضعها لحمامات لتحضنها كأنها إحدى بيضاتها، قبل أن يفاجئ الجميع بخروج كتكوت فقس من تلك البيضة، وليكبر الكتكوت ويصير دجاجة تبيض لهذا الرفيق، وأصبح مع مرور الأيام يمتلك الكثير من الدجاج الذي كان يصول ويجول في ممرات السجن، وأصبح الرفيق المعتقل “مربي الدجاج” يتاجر في الدجاج والبيض داخل أسوار السجن، الأمر الذي كان حدثا استثنائيا داخل هذا العالم المحصور.

ذاك كان حبشي، وتلك ذاكرته النفسية للسجن، رجل تمسك بالحلم وحول ألامه إلى مدعاة للسخرية، وبالنكتة والطرفة اقتنص لحظات للضحك، لتنسيه محنته، وينسل بها من قيد السجن وينتزعهنيهات من الحرية عنوة من السجان، ليخرج منتصرا لا منهزما.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى