أ. د. عادل الأسطة - سهرة مع إلياس خوري وروايته "رجل يشبهني" (21.........28)

٢١- {جدل مع آدم دنون وخالقه : الخمريات في الشعر العربي}

قلت ، من قبل ، وأنا أدرس الجزء الثاني من " أولاد الغيتو : نجمة البحر " إن آدم درس الأدب في جامعة حيفا ، وقلت إنه صار يكتب عمودا أسبوعيا في جريدة إسرائيلية عن الموسيقى الشرقية ، وفي تناول الجزء الأول من الثلاثية وردت كتابة عن طه حسين وكتابه " في الشعر الجاهلي " جعلت دارسيها يتساءلون تساؤل كاتبها إلياس خوري نفسه Khoury Elias إن كان ما يكتبه رواية أم دراسة أم سيرة ، وقد كتبت من قبل ثلاثة مقالات عن إشكالية تجنيس الرواية . هل انتهى جانب البحث والدراسة في الجزء الثالث ؟
حفل الجزء الأول بتناصات مع الأدب العبري أكثر مما حفل الجزء الثاني ، وامتلأ الجزء الثاني بأكثر مما ورد في الجزء الثالث ، وقد أتيت على هذا حين كتبت تحت عنوان " الأدب الإسرائيلي وحضوره في الرواية " متوقفا أمام الكاتب الإسرائيلي سامي ميخائيل .
لم تقتصر خصيصة الدراسة في الجزء الثالث على حضور الأدب الإسرائيلي وحسب ، فقد عاد آدم ومن ورائه إلياس ليتحدث عن شياطين الشعراء وليبدي آراء في بعض الكتب ومنها رسالة ابن شهيد الأندلسي " التوابع والزوابع " وليتحدث عن الوقوف على الأطلال .
ما كتبه إلياس تحت عنوان " وادي الهمس " جعلني أدون الملاحظة الآتية :
" تحول الرواية في صفحات منها إلى دراسة في تاريخ الشعر وشياطين الشعراء " .
وكان آدم نفسه لاحظ ما سبق فقال :
" ما هذه الدوامة ؟ هل أنا أمام تاريخ أدبي أم أمام " حديث خرافة " ؟" .
ما لفت نظري أكثر مما سبق هو ما كتبه إلياس تحت عنوان " بلا موعد " وأتى فيه على لسان آدم على الخمر في الشعر العربي . لنقرأ الفقرة الآتية :
" بحثت عن الخمريات في الشعر ، رافقت الأعشى وأبي ( وأبا ) نواس والأخطل وديك الجن الحمصي . لكنني تعبت من الماضي ، أريد شعرا حديثا ومعاصرا يشبه حياتنا ، فلم أجد أحدا ، بلى وجدت شاعرا واحدا هو الأخطل الصغير ( بشارة الخوري ) الذي كانت قصائده طربا للروح .
وخطر في بالي سؤال يبدو ساذجا للوهلة الأولى ، وهو لماذا توقف العرب عن كتابة الخمريات ؟ "
ويواصل إبداء رأيه في الشعر العربي القديم وموضوع الخمر وحضوره في القصيدة ذاكرا أيضا الشعر الصوفي " فالشعراء المتصوفون جعلوا الخمر كناية عن الروح ، بينما جعل شعراء الخمرة من الروح جسرا إلى اللذة " .
ويكرر آدم سؤاله :
" صحيح ، لماذا تخلى الشعراء العرب في زمننا عن نوع أدبي استنبطوه من أعماق تجربتهم ؟ " .
ولا يكتفي آدم بما سبق فيتوقف أمام رأي قدامة بن جعفر في الموضوع ، ويتساءل هو الذي كتب عن راشد حسين :
" لماذا مثلا لم يكتب راشد حسين الذي مات مخمورا ، عن تجربته مع الفودكا والنبيذ ؟ .
ويتلذذ آدم بذكر نماذج من شعر الخمر كتبها الأخطل الصغير .
السؤال الذي أثاره آدم بخصوص راشد حسين يمكن أن يثار بخصوص الشاعر المفضل لدى إلياس خوري نفسه وهو محمود درويش ؟ وكان يمكن أن يقدم لنا إجابة . حقا لماذا لم يكتب شعراء الأرض المحتلة ومعين بسيسو معهم قصائد في الخمر ، علما بأن أكثرهم احتسوها ؟
الإجابة لا تحتاج إلى كثير تفكير عموما ، والشاعر الوحيد الذي كتب في الخمر ، في حدود ما قرأت ، هو فوزي البكري في ديوان " صعلوك من القدس القديمة " ١٩٨٢ .
من المؤكد أن ما توصل إليه آدم في هذا الجانب مرده إلى عدم قراءته الشعر العربي الحديث كله ، فالشعر هذا عرف قصائد خمريات ترقى إلى رباعيات الخيام وقصائد أبي نواس والوليد بن اليزيد وشعراء الخمر في الجاهلية وقصائد الأخطل الصغير.
عندما أصدرت كتابي " الصوت والصدى : مظفر النواب وحضوره في الأرض المحتلة "( ١٩٩٩) أتيت على اختلاف موضوعاته عن موضوعات محمود درويش وذكرت أن مظفر نوع في الموضوع أكثر من درويش ، فهو كتب في الخمر . ويومها لم أكن قرأت قصائد مظفر كلها في موضوع الخمر .
لو لم يكتب مظفر سوى " رباعيات " و " باللون الرمادي " في موضوع الخمر لكفى ، علما بأنه كتب الكثير .
أورد إلياس خوري في " رجل يشبهني " أبياتا للأخطل الصغير منها :
" يشرب الكأس ذو الحجى ويبقي /
لغد في قرارة الكأس شيا /
لم يكن لي غد فأفرغت كأسي /
ثم حطمتها على شفتيا /
أأنا العاشق الوحيد لتلقى /
تبعات الهوى على كتفيا " .
ويكتب مظفر النواب :
" يا جنة مر فيها الله ذات ضحى
لعل فيها نواسيا على قدحي
فحار زيتونها ما بين خضرته
وخضرة الليل والكلمات والملح
لقد سكرت من الدنيا ويوقظني
ما كان من عنب فيها ومن بلح
"
ويقول في قصيدة " عتاب ":
"
سلام يا ندامى الأمس إني محال أن أفرط بالندامى
إذا ما تمرة علقت بأخرى فلن أملأ لغير العشق جاما
فإن أخذت لسلطان تروسي فلم يملك من الطرب الزماما
فما قدمت كأسي بل تناهت تناهي الشيب يضطرم اضطراما
وذا طبع الخمور ومدمنيها وتسلك في الملامة أن ألاما " .
أليس هذا الشعر خارجا من رحم قصيدة الخمر في الشعر العربي ؟ .
خربشات أدبية
٢١ / ١ / ٢٠٢٣

***

٢٢- { تشابه الحكايات : امرأة الكلب }

تحت عنوان " الحكاية الأخرى " يكتب إلياس عن آدم دنون وعلاقته بجوديت الأمريكية ، وقد أتيت عليها من قبل وأنا أكتب تحت عنوان " من أنت ؟ " .
ما لم أكتبه من قبل هو نعت ناحوم هيشرمان اليهودي الإسرائيلي شريك آدم في مطعم ( بالم تري ) لها ب " امرأة الكلب " وأصر على تسميتها بهذا ، وكان لناحوم صديقة أمريكية أيضا اسمها كيت ولا نعرف أنه اختلف معها .
جوديت أو امرأة الكلب هذه ولدت في البرونكس وتعمل مدرسة للأطفال وكانت تزوجت من بائع مفروشات تركها مع عاهرة التقى بها في أحد البارات .
الفرق بين آدم وناحوم هو أن الأول لم يستطع التخلص من ماضيه ليعيش حاضره وكان هذا سببا من أسباب ابتعاد جوديت عنه ، ويختلف عنه ناحوم الذي نسي ماضيه في إسرائيل وعاش حاضره .
قصة لقاء آدم بجوديت قصة غير غريبة في البيئة الغربية عموما ، فحين تكون المرأة وحيدة تصطحب كلبها وتخرج تتنزه ، وقد يكون الكلب فاتحة حديث مع شخص آخر . يقترب الكلب من الكلب فيتقارب صاحباهما ويتحدثان وهذا بدوره يقود إلى علاقة ما ، وحدث شيء شبيه بهذا مع آدم المأزوم . أراد أن ينسى الماضي ليصبح إنسانا مختلفا فلم ينجح ، وحين ذهب إلى الحديقة التقى " بهذه المرأة التي تجمع النعومة والبراءة بمصادفة الكلب ، كانت تجلس وحيدة مع كلبها في حديقة واشنطن سكوير " وبدأت علاقته بها عندما لاطف كلبها ، مع أنه لم يكن يحب الكلاب " وجدت نفسي ألهو مع كلب جميل يلتمع جلده البني في حديقة ملأى بالثلج . امرأة في الأربعين وجدت في رجلها " هي التي كرهت الرجال لأجل زوجها السابق الذي حطم كبرياءها قبل أن يحطم قلبها ، وكانت سفينة آدم التي أراد أن يعبر بها إلى نيويورك . فهل ينجح هو الفلسطيني الذي يعيش أسير ماضيه وغير قادر على التحرر منه ؟
لم يستمر حبهما لأسباب ذكرت قسما منها ولكونه من وجهة نظرها ، كما أقنعت نفسها ، مزاجيا ككل الكتاب ، عدا أنها لم تصدق حكاياته ، مثلها مثل أستاذه ياكوب حين روى له أنه من الغيتو .
حكاية جوديت وكلبها واحتساء النبيذ ذكرتني بقصة قصيرة كتبتها تحت عنوان " كأس نبيذ حزنا على موت الكلب " ونشرتها في جريدة الأيام الفلسطينية في ١٩٩٦ ، ثم أدرجتها في نص " خربشات ضمير المخاطب " ١٩٩٧ .
في العام ١٩٩٠ / ١٩٩١ أقمت في بون ما عائلة ألمانية تملك كلبا . كانت السيدة جيردة تخرج كل صباح في جولة تتريض وتحضر للأسرة الخبز الطازج ، وحين نجلس على مائدة الإفطار ؛ زوجها وابنها فيلكس وأنا ، تقص علينا عن لقاءاتها بالنسوة ، وكان كلبها وكلب المرأة التي تحدثت معها سبب الحديث والعلاقة . عندما مات الكلب أحضرت زجاجة نبيذ وشربنا بالمناسبة ، ولقد أكثر آدم من شرب النبيذ مع جوديت حتى ليمكن القول إن رواية " رجل يشبهني " تحفل بالكتابة عن الخمر ، الموضوع الذي شكا آدم من نقصانه في الشعر العربي المعاصر . هذا الموضوع يكثر منه الكتاب العرب الذين يقيمون في الغرب أو في المغرب ويكثر آدم من احتسائه ويكتب عن أنواعه .
غير أن تشابه حكاية آدم مع جوديت يتشابه مع حكايات مصطفى سعيد الشخصية المحورية في رواية الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال " ( ١٩٦٦ ) ، فكلتا الشخصيتين ؛ آدم وسعيد ، محكومان بالماضي والعيش فيه ، ولذا لم تستمر علاقتهما بالمرأة الغربية . صحيح أن آدم أراد علاقة ولم ير في جوديت شمالا يجب الثأر منه بسبب ما جرى معه ، وهو ما كان يراه مصطفى سعيد الذي أراد أن يثأر من عشيقاته لاستعمار بلدهن بلده ، ولكن ثمة تقاطعات أبرزها أن كليهما لم يستطع نسيان الماضي .
ضجرت جوديت من آدم حتى إنه نفسه أحس بهذا وتساءل :
" ما علاقة هذه المسكينة بالصراع على لغة آدم ! لكني شعرت بأن كلمة فلسطيني على لساني كان لها نكهة البرتقال ، فجأة أحسست بأن جبلا انزاح عن كتفي ، كان يجب أن يظهر لي هذا العفريت في منامي ، كي يأخذنا إلى أول الأول ، ويطلق لساني ، ويعيدني إلى لغتي " .
عندما كنت في ألمانيا أتحدث مع بعض الألمانيات عن القضية الفلسطينية كن يشعرن بالضجر ويسألنني إن كان العالم كله ينحصر في فلسطين .
تتشابه حكايات كثيرين ممن ذهبوا إلى الغرب ليدرسوا ؛ تتشابه حكاياتهم في علاقاتهم مع المرأة والنبيذ و .... .
ما لم يكتب عنه حتى اللحظة في الثلاثية كلها هو صورة أميركا فيها ، بخاصة مدينة نيويورك التي أقام فيها آدم ودرس إلياس خوري في جامعاتها وأتى على قصة راشد حسين هناك .
خربشات أدبية
٢١ / ١ / ٢٠٢٣

***

- ٢٣- على خطى إميل حبيبي:إلياس خوري والكتابة عن المكان الفلسطيني

أعادتني روايتا إلياس خوري «رجل يشبهني» ٢٠٢٣، ووليد الشرفا «ليتني كنت أعمى» (٢٠١٩)، إلى خمسة عقود ونيف.
في ١٩٦٩، كتب غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» ودارت أحداثها في حيفا ويافا. عاد غسان إلى عام النكبة وصور خروج الحيفاويين من مدينتهم مجبرين.
عندما صدرت الرواية ووصلت إلى حيفا قرأها إميل حبيبي فدفعه الفضول إلى تتبع مسيرة خروج الحيفاويين فيها، وبدلا من أن تقوده خطاه إلى الميناء قادته إلى جبل الكرمل.
لم يقم كنفاني في حيفا، فقد ولد في عكا وتعلم في يافا ولجأ وأهله، في ١٩٤٨، مجبرين إلى العالم العربي. كان يومها في الثانية عشرة، وعندما كتب عن حيفا اعتمد على حكايات سمعها.
كان فعل حبيبي يمس علاقة الكاتب بالمكان الذي يكتب عنه، وعندما كتب «اخطية» التي تجري أحداثها في حيفا، كتب عن مكان يقيم فيه، فإذا ما تشكك من موضع استقل سيارة وذهب إليه للتأكد من موقعه.
في الأعوام الأخيرة، تناولت روايات كتبها مؤلفوها عن أمكنة لم يقيموا فيها ولم يروها، ولو من خلال زيارة عابرة، معتمدين على ما يزوده بهم عنها معارف لهم يقيمون فيها، وتناولت أيضا روايات كتبها مؤلفوها عن أزمنة لم يكونوا شهودا عليها.
ما كتبته، أثار جدلا مع الروائيين وبعض النقاد، فقد كان لهم رأي مغاير لرأيي ولآراء نقاد قبلي طالبوا بأن يلتزم الكاتب في كتابته الرواية ببيئته التي عاش فيها وألا يكتب عن بيئات لا يعرفها.
ظل الموضوع يشغلني، ولأنني لا أريد أن أزيد من خصومي فقد أخذت أبدو ليبراليا وأكتب «وهذا ما أراه وهو لا يلزم أحدا وقد يرى غيري غير ما أرى».
في الأسابيع الأخيرة، قرأت روايتي خوري والشرفا المذكورتين، وجرت بعض أحداثهما في نابلس.
عاش الشرفا في نابلس سنوات دراسته الجامعية، ولم ير إلياس المدينة. قلت لأمتحن كتابتهما عن المكان كما امتحنت كتابة ابن القدس عارف الحسيني في كتابته عنها وكتابة حسن حميد الفلسطيني المقيم في المنفى وواسيني الأعرج الجزائري عنها، وهما يوم كتبا لم يكونا زارا المدينة.
الموضوع في النهاية أدبي القصد من ورائه فحص مقولة نقدية للتثبت منها.
وأنا أقرأ رواية الشرفا لفت نظري أنه يكتب عن حارة النصر في نابلس ويكرر الاسم، ولأنني من المدينة، ولم أسمع بهذه الحارة من قبل، فقد أخذت أسأل أبناءها للتأكد، بل و»غوغلت» - وهذا الاشتقاق من مفردة (Google) ورد في رواية إلياس المذكورة - غوغلت لعلني أعثر بين حارات نابلس عن حارة النصر، فلم أجد حارة بهذا الاسم. هناك شارع النصر لا حارة النصر، والتمس بعض من سألتهم، للروائي، العذر بأنه يقصد شارع النصر، فـ»مشيها» ولا تجعل من الحبة قبة.
إلياس خوري لم يزر نابلس ولم يتجول في حاراتها، ولكنه كتب عنها، كما كتب العراقي علي بدر والجزائري واسيني الأعرج عن القدس قبل أن يزوراها، معتمدين على ما قرآ في الكتب والروايات وما شاهداه في مسلسلات أو عبر رحلتهما فيها وهما «يغوغلون» في خرائطها، ومثلهما أيضا الفلسطيني حسن حميد.
والصحيح أنني لم أرغب في إثارة خصومة مع إلياس المدافع الشرس عن القضية الفلسطينية والحاصل على جنسيتها والصديق لكتابها وشعرائها والراغب، كما ورد في روايته أن يموت فلسطينيا. ولكني من باب متابعة مقولة محمد نجم في كتابه فن القصة؛ الخاصة بالبيئة التي يكتب عنها الروائي، أردت أن أتابع موضوع علاقة الكاتب بالمكان الذي يكتب عنه لأرى مدى دقة الكاتب في وصفه. هل استطاع أن يكتب عنه وأن يصفه كما هو على أرض الواقع؟
لقد لاحظ بعض دارسي صورة القدس في كتابات الأدباء اليهود الذين كتبوا عنها، دون أن يزوروها، أنهم رسموا لها صورة مستوحاة مما قرؤوا لا الصورة الحقيقية التي هي عليه.
خوري كتب عن اللد في ١٩٤٨ وحيفا ويافا بعد هذا التاريخ وكتب عن جنين ومخيمها ونابلس وحلحول، ولم يكتف بذكر المكان، إذ وصف بعض الشوارع والأماكن والأحياء وكتب عن العادات والطعام واستخدم لهجات خاصة أحيانا، ففي كتابته عن نابلس أتى على شارع النصر وحارة الياسمينة وحوش العطعوط وشارع فيصل والمقاطعة، وأتى أيضا على الكنافة والحلاوة والزلابية، وأنطق الشخصية النابلسية باللهجة النابلسية دون أن يدخل كلامها في مياه نهر (ليثي) فيحوله - أي كلامها - من العامي للفصيح. فهل كان موفقا تماما؟
الإجابة عن السؤال تتطلب مساحة واسعة ولكني تمنيت لو أنه عرض مخطوط روايته على شخصيات تقيم في المدينة ولها نظرة في جنس الرواية، فلربما قدموا له بعض مقترحات تجعل الرواية الممتعة أكثر اكتمالا.

عادل الأسطة
2023-01-22

***

24- "ربيع ٢٠٠٢ الفلسطيني في الأدب" {رجل يشبهني }

أعادتني " رجل يشبهني " إلى ربيع ٢٠٠٢ الذي شهدته الضفة الغربية في أثناء انتفاضة الأقصى ٢٨ / ٩ / ٢٠٠٠ وانعكاسه في الأدب ، بخاصة القصة القصيرة والرواية .
كنت قبل أسابيع كتبت عن حصار نابلس والحصار في الأدب الفلسطيني ؛ حصار نابلس في خريف العام ٢٠٢٢ .
تذكرت روايات عديدة أنجزت في الموضوع منها رواية عفاف خلف " لغة الماء " ( ٢٠٠٧ ) ورواية سهاد عبد الهادي " ذاكرة زيتونة " ( ٢٠٠٧ ) ورواية سحر خليفة " ربيع حار " ( ٢٠٠٤ ) ، وهذه روايات كتبت بعد الحصار بعامين أو ثلاثة ، وقرأت روايتي وليد الشرفا " ليتني كنت أعمى " ( ٢٠١٩ ) و " أرجوحة من عظام "( ٢٠٢٢ ) ، وكميل أبو حنيش " جهة سابعة " ( ٢٠٢٢ ) ومؤخرا رواية إلياس خوري " رجل يشبهني " ( ٢٠٢٣ ) .
كتبت الكاتبات الثلاثة عن مدينتهن نابلس ، وكتب الشرفا عن جنين ونابلس وبيت لحم ، وأبو حنيش عن نابلس ، ويكتب خوري في روايته الأخيرة عن جنين ونابلس بعد أن كان كتب عن اللد وحيفا ويافا وقرى الجليل مثل عيلبون وقبية وقرى الجنوب مثل أبو شوشة ، فغطى بروايته فلسطين وكان في " باب الشمس " ١٩٩٨ غطى الشتات الفلسطيني في لبنان ، وفي " الوجوه البيضاء " كتب عن الفدائي الفلسطيني في زمن اللجوء الأول .
في انتفاضة الأقصى أنجزت مجموعة قصصية " فسحة لدعابة ما " في العام ٢٠٠٣ .
خطر ببالي وأنا استحضر هذه الكتابات كلها أن أوازن بينها من حيث طبيعة ساردها وموقع كاتبها في زمن جريان الحدث ، لأرى الفرق بين كتابة من داخل الحدث وكتابة من خارجه .
عموما لم يعش أي منا في ربيع ٢٠٠٢ في البلدة القديمة باستثناء أبو حنيش ، وربما كانت عفاف خلف مثله الأقرب إليها فكتبت عن أجوائها .
كانت سهاد تقيم في أطراف المدينة ومثلها أنا وعشنا الاجتياح لكن ليس من داخل البلدة القديمة ، وزارت سحر خليفة نابلس ، هي المقيمة في عمان ، زيارة عابرة فاجتمعت مع نساء حوش العطعوط وأصغت إليهن ودونت روايتهن .
من المؤكد أن إلياس خوري يتكيء على روايات فلسطينيين أمدوه بها ووصفوا له المدينة وصوروها له بأشرطة فيديو وقد يكون دخل إلى خرائط ( غوغل ) ليتعرف إلى المكان .
تقدم الأعمال المذكورة نماذج فلسطينية مختلفة وترسم جوانب ، من حياة أهل نابلس في حينه ، بالكاد تتقاطع .
ما كتبه أبو حنيش عن الطبوق يختلف عما كتبه إلياس ، وما كتبه الشرفا عن البلدة القديمة يختلف عما كتبه إلياس أيضا .
شخصيا كتبت عن انعكاس الحصار علي وكتبت عما شاهدت . رأيت البلدة القديمة بعد انتهاء الحصار والمسيرة التي نظمت وسرت فيها ، فكتبت قصة " هن .. هن " وكتبت نصوصا نثرية لم أذكر فيها أي شخص ممن ذكرهم أبو حنيش وإلياس خوري .
رواية " جهة سابعة " في جزئها الثالث المكون من ١١٤ صفحة هي سرد الكاتب عن مشاركته وما رآه حيث كان في قلب البلدة القديمة ونجا من الموت مرارا .
سمى الشرفا شارع النصر حارة النصر ، وكتب إلياس عن بستان مواز لجامع النصر واختلط وصف المكان على كميل ، فكان أحيانا ينعت حارة الياسمينة بحي الياسمينة ، وهو في سرده كتب سطرا مهما جدا بخصوص معرفته بالمكان . كميل من بيت دجن وسكن في البلدة القديمة ولكنه لم يحفظ تضاريسها عن ظهر قلب " لا نعرف الكثير عن البلدة وحاراتها وبيوتها " وهكذا قادته خطاه " لأحد الأزقة في حي الياسمينة " .
ولكن ما كتب عنه لم يكتب عنه أي من الآخرين وأنا منهم .
في ذروة الحصار كان بين المقاتلين جواسيس يرشدون الإسرائيليين ويمدونهم بالمعلومات ، وقد اكتشف أحدهم ، وأراد المقاتلون محاكمته . في هذه الأثناء يقنص القناصة الإسرائيليون مقاتلين يرتقيان شهيدين ، وكل من يقترب من جثتهما قد يقنص . هنا يخير المقاتلون الجاسوس بين ميتتين ؛ أن يقتل خائنا وجاسوسا أو أن يحاول سحب الجثتين فيموت برصاص إسرائيلي إن نجح القناصة في قنصه ، ويختار هذا .
من المؤكد أن كميل أبو حنيش يروي من الداخل ، ومثله كان من روى قصة الحصار على إلياس . أنا كنت أقيم في المساكن الشعبية الشرقية لا في البلدة القديمة ، وهكذا كتبت شيئا مختلفا . القصص التي كتبتها وجرت أحداثها في البلدة القديمة هي قصص تصور نابلس في يومها الأول بعد انتهاء الاجتياح حيث كانت البلدة القديمة والدوار شبه خراب .
أعتقد أن النصوص الوارد ذكرها تستحق أن يكتب فيها بتفصيل أكثر . لعل دارسا ما ينجز هذه الكتابة .
خربشات أدبية
٢٣ / ١ / ٢٠٢٣

***

سهرة مع إلياس خوري وروايته " رجل يشبهني " ٢٤
{هل ستكون الدولة الإسرائيلية دولة عابرة؟ "عابرون في كلام عابر"}

ذكرى رحيل الشاعر راشد حسين على الأبواب ، ولقد قررت أن أكتب بهذه المناسبة مقال الأحد القادم لدفاتر الأيام الفلسطينية عنه كشخصية روائية ، فهو إحدى المرايا الثلاث التي شكلت منعطفا في حياة آدم دنون ، وتقاطعت مع حياته ، وقد أفرد لها إلياس خوري عنوانا فرعيا هو " المرايا المتقاطعة " وشكلت المرايا صفحات كثيرة امتدت من صفحة ١٢٣ إلى صفحة ٣٤٥ ، شغلت منها حكاية راشد الصفحات ٢٨١ إلى ٣٤٥ تقريبا وكتبت تحت عنوان " المرآة الثالثة : نائب الفاعل " وللعنوان دلالة .
غير أني صباح اليوم وأنا أتابع الأخبار وأصغي إلى التوحش الإسرائيلي في الضفة الغربية وإلى تهديدات رئيس وزرائهم بالرد بيد قوية وثابتة توقفت أمام الصفحات ٢٥ و ٢٦ و ٢٧ من " رجل يشبهني " وفيها يتوقف آدم دنون / إلياس خوري أمام الصهيونيين العلمانيين الملحدين والعلمانيين العرب والفلسطينيين وكأنه يتساءل إن كان هؤلاء وهؤلاء علمانيين حقا ؟
لم يتورع الصهيونيون العلمانيون عن استخدام تعبير الأرض الموعودة لإضفاء القداسة على مشروع احتلال فلسطين وتحويلها إلى وطن قومي لليهود وطرد شعبها منها .
اما العلمانيون العرب والفلسطينيون فحين رسموا فلسطين رسموها على الصليب " كأنها مسيح جديد يصلب على خشبة التاريخ ، وبذا محوا صورتهم وتحولوا إلى تفصيل صغير في أحد أسفار كتاب مقدس لا بداية له ولا نهاية " .
ماذا يريد آدم / إلياس أن يقول ؟
يريد أن يقول إن ما جرى وما يجري من صراع منذ بداية النكبة ليس سوى جزء من تاريخ الغزوات على هذه المنطقة " حول فلسطين إلى أرض صراع مفتوح على جنون العنصرية التي تختبيء خلف ادعاءات البحث عن الأبدية "
و
" ليس هذا فقط ، بل أريد أن أقول إن هذه ، القصة المغمسة بالدم والألم والأسى ، لا تساوي الحبر الذي كتبت فيه آلاف الصفحات عنها ، وبجميع اللغات ، وهي بالتأكيد لا تعادل الدم الذي سقى أرضها " .
ويضيف آدم :
" غدا - أي بعد الف عام ، ماذا سيبقى من هذا الأسى كله ؟"
يتأمل آدم الحروب الصليبية التي انتهت منذ ٨٠٠ عام ويرى " أنها كانت بلا معنى ، مجرد حفلة من البلاهة الإنسانية ممزوجة بشهوة الدم " .
ويتوقف أمام رأي المهووسين دينيا والملوك والبابوات والأسياد الإقطاعيين الذين ، الذين حشدوا ألوف الفقراء الأوروبيين وساقوهم إلى مذبحة لم ينتج منها سوى اللاشيء ، علما بأن الأسباب الحقيقية تكمن ، كما يرى المؤرخون الحصيفون ، في الظروف الاقتصادية والسياسية التي حولت شواطيء البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة من الدم .
الآن يعيش الفلسطينيون " هذا اللامعنى الذي صار المعنى الوحيد لحياتنا " كما يرى آدم .
هل دولة إسرائيل والمشروع الصهيوني ليسا سوى فخ ومجرد خدعة للمشروع الاستعماري ؟
صار اليهود الضحية جلادا ، فالجلاد ليس جلادا دائما والضحية ليست ضحية دائما . سيصير الجلاد الذي كان ضحية سيصير وهو جلاد ضحية أوهامه ، " وسيقوده جنون الهوس بالقوة إلى نهايته " .
كان غسان كنفاني في روايته " عائد إلى حيفا " أنهى الحوار بين سعيد . س وابنه خلدون / دوف بعبارة :
" تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا ، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب "
وكان كنفاني يقصد أن الحل لن يعقد إلا بعد أن ينتصر الفلسطينيون في حرب ، ليكون الصلح بين ندين كما رأى أيضا أمل دنقل " فما الصلح إلا معاهدة بين ندين في شرف القلب لا تنتقص " .
كأن رؤية كنفاني ورؤية دنقل انتقلت إلى آدم / إلياس :
" قلت لدالية إن إسرائيل لن تصير بلدا طبيعيا إلا إذا هزمت مرة واحدة على الأقل .
الشعور بأنك عصي على الهزيمة يحولك إلى وحش .
الهزيمة هي الشرط الإنساني الأول ." .
لقد صار آدم مقتنعا بأن المسار الذي دخلته أرض فلسطين لن يقود إلا إلى خراب الجميع .
هل كان آدم يتنبأ بما يجري الآن في فلسطين ؟
هل كان يتنبأ بأن كاهانا سيفرخ بنيامين وبن غفير وسموتريتش ؟
الضفة الغربية في هذا الصباح كانت على صفيح ساخن ، والقادم لا يبشر بالخير .
في قصيدة محمود درويش " الرمل " يكتب :
" سيأتي سوف يأتي عاشقان
ويقولان : كم كان قصيرا زمن الرمل
ولا يفترقان " .
هل ستكون الحقبة الإسرائيلية في السيطرة على فلسطين " زمن رمل " وسطرا في كتاب التاريخ ، وسيكون نتنياهو وبن غفير وسموتريتش عابرين بين الكلمات العابرة ؟
خربشات أدبية

***

٢٥- سهرة مع إلياس خوري وروايته "رجل يشبهني"
{ تعريف جديد للوطن : الوطن هو المقبرة }

أكثر ما يغريني في مواصلة الكتابة عن ثلاثية " أولاد الغيتو " أن كاتبها من الكتاب القلائل الذين يكتبون وهم مطلعون على الآداب السابقة اطلاعا واسعا ، وقد خصصت هذه الميزة بكتابة تحت عنوان " الكاتب قارئا : أقرأ لكي أكتب " ، وفي المقابل فإن أكثر ما يجعلني أتردد في الكتابة عن روائيين كثر أنهم قليلا ما قرأوا الروائيين المؤسسين الذين سبقوهم ، وهكذا فإنهم لا يبنون أعمالهم على أعمال من سبقوهم .
وقليلون هم روائيونا الذين ينظرون لرواياتهم ويظهرون مكانتها في مسيرة الرواية الفلسطينية والعربية ، وأقل من هؤلاء هم الذين ينظرون إلى كتابتهم في ضوء الرواية العالمية .
فيما قرأته من مقالات نظرية للكاتب التشيكي ( ميلان كونديرا ) ، وقد جمعها في كتاب عن فن الرواية ، فإنه كان ذا رؤية نقدية للروائيين الذين سبقوه ، وأنه ينظر إلى ما يكتب في ضوء النتاج السابق لنتاجه .
مرة قررت ألا أكتب عن كاتب ناشيء إلا إذا حاورته وعرفت ما قرأه من روايات عربية وفلسطينية ورأيه فيما قرأ وأين يضع كتابته في ضوئها .
في " رجل يشبهني " توقفت من قبل أمام عبارة آدم / إلياس " الأدب هو إعادة كتابة أدب سابق عليه ، وهذه مسألة يجب أن تشغل النقاد ، كي يصلوا في النهاية إلى الكتاب الذي كتب الأدباء مقاطع منه من دون أن يدروا " ، وفي كتابي " أسئلة الرواية العربية : إلياس خوري " أولاد الغيتو : اسمي آدم " نموذجا " أتيت على منهج ( برونتير ) التاريخي الذي كان يدرس عمل الأديب الجديد في ضوء أعماله السابقة ، وفي ضوء أدبه الوطني فالقومي فالإنساني ، وتبدو هذه المهمة في زماننا صعبة على أكثر النقاد ، ف ( برونتير ) عاش في القرن ١٩ ولم يكن الانفجار الكتابي الذي نشهده في العقود الثلاثة الأخيرة قائما .
ما مكن إلياس خوري ربما من الاطلاع على النتاج السابق يتمثل في عدة عوامل منها أنه من مثقفي جيل ستينيات القرن ٢٠ ، ومنها إقامته في لبنان البلد الذي يطبع الكتب ، ومنها أنه أشرف على سلسلة روايات عالمية " من تجارب الشعوب " ، ومنها أنه ناقد وأستاذ جامعي أيضا ، وهذا وفر له إمكانيات لا تتوفر لغيره .
ويمكن ملاحظة النظر إلى نتاجه في ضوء النتاج السابق في اكتناز الثلاثية بأبعاد معرفية ، وقد كتبت عن هذا ، ومنها مساءلته لذلك النتاج وتقييمه وإقراره بجمالياته وبتأثره فيه .
كنا لاحظنا تقييمه الجمالي لجبرا ولكنفاني ، وكنا لاحظنا تأثره اللغوي بإميل حبيبي حيث اللعب والتلاعب بالألفاظ والنزوع نحو الاشتقاقات اللغوية والتغابي ومزج الجد بالهزل .
بقي مدى تأثره بأفكار وموضوعات طرقها الأدباء الفلسطينيون وغيرهم ، مثل الغربة والمنفى والضحية الجلاد ومثلها ، وقد أتيت على قسم منها وأنا أدرس الجزء الثاني " أولاد الغيتو : نجمة البحر " و أتوقف مطولا أمام الضحية الذي أراد أن يفهم ما حدث مع اليهود في معسكرات الإبادة فسافر إلى بولندا متقمصا شخصية يهودية ليتمثل حقيقة ما جرى .
في " رجل يشبهني " يحضر من الأدباء الفلسطينيين جبرا إبراهيم جبرا وراشد حسين وغسان كنفاني ومحمود درويش وإميل حبيبي وفوقهم يحضر أنطون شماس . إنهم لا يغيبون عموما عن الأجزاء الثلاثة ، وهنا تحضر بعض أسئلتهم ومنها سؤال الوطن .
في العام ١٩٩٤ أنجزت بحثا عنوانه " الوطن في شعر إبراهيم طوقان " تتبعت فيه هذا الدال في الشعر العربي القديم ، ولم أتوقف عن المتابعة . كانت رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " ( ١٩٦٩ ) هي العمل الأدبي الأشهر الذي أشهر هذا الدال وساءل معناه ، علما بأن هناك أعمالا أدبية أسبق وظفته . وأنا أعيد قراءة قصة إميل حبيبي " بوابة مندلباوم " ( ١٩٦٢ تقريبا ) لاحظت أنه أسبق من غسان في تعريف هذا الدال ، ما دفعني إلى التساؤل إن كان غسان تأثر بإميل ، وقد كتبت مقالا تحت عنوان " هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي ؟".
في السنوات العشر الأخيرة قرأت ثلاثية الجزائري محمد ديب " البيت الكبير " و " النول " و " الحريق " وتوقفت أمام تعريف دال الوطن فيها ، ما دفعني لكتابة مقال عنوانه " دال الوطن في الرواية العربية " ، وقد نشرت مقالاتي هذه في زاويتي في جريدة الأيام الفلسطينية .
هل غاب هذا الدال عن إلياس خوري في ثلاثيته ؟ وإذا لم يغب فهل كرر المدلولات السابقة له أم أنه أضاف مدلولا جديدا ؟
في أثناء كتابته عن مدينة جنين تحت الاحتلال يكتب عن جوليانو خميس ، وقد أتيت على هذا من قبل " الفلسطيني اليهودي .. اليهودي الفلسطيني " وفي أثناء حوار آدم وجوليانو يأتيان على مجزرة ٢٠٠٢ وشهدائها ومنهم أبو جندل يوسف ريحان وعلاء الصباغ . رأى جوليانو رجلا كهلا على عربة يريد أن يتسلق الركام فحاول أن يساعده ثم أخبره بأن المقبرة بعيدة لعله يثنيه عن الذهاب ، فالوضع صعب . يقتنع الكهل برأي جوليانو ويقول :
" معك حق يا ابني ، ليش نروح على المقبرة ، المخيم كله صار مقبرة " .
في الحوار بين جوليانو والكهل ما يعلمنا عن أصول الأخير ابن قرية عين حوض الذي هجر منها في العام ١٩٤٨ ليصبح مخيم جنين " عين حوضي ، وأنا ناطر ترجعلي عين حوض " .
سيلتفت العجوز إلى جوليانو ليسأله :
- " شو هو الوطن ؟ "
أنه السؤال نفسه الذي سأله سعيد . س في رواية كنفاني ؟
ولأن جوليانو يحتار فإنه يجيب بأنه لا يعرف . هنا يعرف الرجل الوطن :
" الوطن هو المقبرة ، حيث تقبرون يكون وطنكم "
ويضيف :
" مقبرتنا حرثوها اليهود بعين حوض ، وهون انقبرنا تحت ركام بيوتنا ، أهم اشي نلم الشهداء وندفنهم بالمقبرة ، حتى نحس إنه عندنا وطن ، ونحن ناطرين الوطن " .
عندما يسأله جوليانو :
" ولأي متى مننطر؟"
يجيب :
" مننطر ليخلص الانتظار " .
وتجنبا للتكرار أحيل إلى دراستي ومقالاتي السابقة حول دال الوطن ، مع أنني مطمئن إلى أن هذا التعريف الجديد لدال الوطن لم يرد في الأدب الفلسطيني من قبل .
خربشات أدبية
٣١ / ١ / ٢٠٢٣


ينظر مقالي في الأيام ٢٤ / ١ / ٢٠٠٦ " هل تأثر كنفاني بحبيبي ؟" .
وينظر مقالي في الأيام ١٣ / ٣ / ٢٠٢١ " الوطن في ثلاثية الجزائري محمد ديب"


***

.٢٦سهرة مع إلياس خوري وروايته " رجل يشبهني"
{ راشد حسين وزوجته اليهودية }

شكل راشد حسين شخصية أساسية من شخصيات " رجل يشبهني " وقد آثرت أن يكون مقالي الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية تحت عنوان " راشد حسين في ذكراه " ، وقد اعتمدت في كتابته على الرواية .
قبل أن أكتب هذه الكتابة عدت إلى كتاب الروائي إلياس خوري " الذاكرة المفقودة " ( ١٩٨١ ) لأعيد قراءة ما كتبه عن أشعار راشد وأوازن بين ما كتبه ناقدا وما كتبه روائيا ، فثمة آراء نقدية في الرواية يبثها على لسان الدكتور مأمون الأعمى الذي التقى بطه حسين وبراشد حسين أيضا وحكى قصة اللقاء لآدم الذي لم يجتمع بالأول ورأى الثاني في المنام فعرفه .
والحقيقة أنني قرأت دراسات كثيرة عن راشد ولكني لم أستمتع بها استمتاعي بما قرأته في الرواية .
في حزيران العام الماضي حتى بداية أيلول نشرت في جريدة الأيام الفلسطينية خمس مقالات تحت عنوان " المرأة اليهودية عاشقة للفلسطيني " عن ريتا محمود درويش وتناسلها في أعمال روائية فلسطينية وعدت إلى ما كتبه نبيه القاسم عن صورة المرأة اليهودية في نثر سميح القاسم ، وفيما كتبه نبيه قرأت قصة عشق راشد لزوجة ضابط يهودي ، وهو عشق أدى إلى انفصالها عن زوجها ومغادرتها دولة إسرائيل للإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد لحق بها راشد فتزوجا ، ولكنهما سرعان ما انفصلا .
ما قرأته في دراسة نبيه أعادني إلى كتاب الدكتور محمود حسني عن راشد وحياته وشعره ، وفوجئت بمعلومات ، كنت قرأتها ثم نسيتها ، تخص الشاعر وعلاقته بزوجة الضابط وما انتهت إليه .
في أشعار راشد قصائد عديدة عن علاقته بفتاة يهودية لعل أهمها " الحب والغيتو " ، وكان راشد أول من استخدم دال الغيتو لوصف ما ألم بفلسطينيي المدن الفلسطينية إثر النكبة ، وفي القصيدة يستغرب كيف أن من عانوا في أوروبا من الغيتو يحشرون الفلسطينيين الباقين في مدنهم بغيتوات .
عندما كنت أقرأ قصيدة " قبلك " كنت أرى أن الشاعر يعني الأرض وعلاقة الفلسطيني بها ، ولم يخطر ببالي أن زوجة الضابط أيضا معنية ، وهذا ما نبهتني إليه الرواية .
لعل الصفحات التي صور فيها الروائي شخصية راشد من أجمل صفحات الرواية ، وهي كما ذكرت تمتد من ٢٨١ إلى ٣٤٥ ، وحين طلب مني القاص زياد خداش أن يكفي كتابة عن رواية إلياس ، فقد أجبته بأنك إن لم تقرأ قصة راشد في الرواية فستخسر الكثير .
لعل ما يستحق أن يجمع في كتاب هو ما كتب عن محمود درويش وريتا من مقالات وكتابات في وسائل التواصل الاجتماعي والتعليقات التي كتبت في المكتوب ، إذ إن كثيرين استنكروا قيام مثل هذه العلاقات بين فلسطيني محتلة أرضه وفتاة يهودية تنتمي إلى شعب أقام دولته على أنقاض شعب المعشوق .
لأم كلثوم طقطوقة قديمة " قوللي ولا تخبيش يا زين " تأتي فيها على القبلة إن كانت حلالا أم حراما ، فتجيب :
" القبلة إن كانت للملهوف " فلا ذنب فيها " لأن ربنا رب قلوب " ، وماذا إذا ما مال قلب الشاعر لامرأة يهودية ؟
لماذا أثير السؤال الأخير ؟
عندما قص راشد في مطعم خريستو في عكا قصته مع ضابط المحابرات العراقي الذي حقق معه بشأن قصيدة " قبلك " سأله الحضور :
" من هو الزوج ؟ "
" ألا تخشى على حياتك ؟"
" مش ملاقي ولا بنت عرب ، حتى حليوا اليهوديات بعيونك ؟" وطلب منه أن " سيبك منها " .
في كتاب " القضاة " من العهد القديم نقرأ قصة شمشون اليهودي ودليلة الفلسطينية . لقد أحب شمشون دليلة على الرغم من اعتراض قبيلته ، فكيف يأمن لامرأة من الأعداء . وما توقعه قومه حدث ، فقد أفشت دليلة سر زوجها ما أوقعه في أسر الفلسطن . والطريف أن الريبة نفسها التي تملكت قوم شمشون تتملك قلوب فلسطينيين كثر إزاء ارتباط بعض الشباب الفلسطيني بفتيات يهوديات ، فأكثرهن من وجهة نظر المرتابين مرتبطات بالموساد .
انتهت علاقة محمود درويش وريتا بالانفصال لأنها التحقت بالجيش ، وانتهت علاقة راشد حسين ب آن بالانفصال ، لا لأنها التحقت بالجيش ، فقد تخلت عن جنسيتها الإسرائيلية وهاجرت إلى أمريكا وصارت تحاضر في الجامعة ، انتهت العلاقة لأن راشد لم يستطع أن ينسى ماضيه في فلسطين ولم يستطع أن يتأقلم مع حاضره في نيويورك ، فأغرق في شرب الفودكا والدخان حتى توفي مختنقا .
عموما فإن مقالي الأحد مختلف عن هذه الكتابة .
اليوم يمر على وفاة راشد حسين ٤٦ عاما ، وكنت في العام ١٩٧٧ أقرأ ديوانه " أنا الأرض لا تحرميني المطر " ومن قبل قرأت أشعاره التي ضمها " ديوان الوطن المحتل " الذي أعده في المنفى الشاعر يوسف الخطيب .
ثانية أقول ، وهذا رأي شخصي ، إن ما كتب عن راشد في " رجل يشبهني " هو كتابة آسرة ، ولعل أنطون شماس الذي كتب عنه وعن روايته في الثلاثية هو من قص قصة مطعم خريستو في عكا على الكاتب .
خربشات أدبية
١ / ٢ / ٢٠٢٣

***

27- سهرة مع إلياس خوري وروايته " رجل يشبهني " ٢٧ :
" ريتا وراشد حسين وغولدا مائير "

تحت عنوان " ريتا وراشد حسين وغولدا مائير " نشرت في جريدة الأيام الفلسطينية الحلقة الخامسة من سلسلة مقالات " المرأة اليهودية عاشقة للفلسطيني " أتيت فيها على سبب انتشار قصائد محمود درويش في ريتا ، علما بأنه لم يكن أول من أحب فتاة يهودية وكتب شعرا فيها ، وعلما بأنه لم يكن الفلسطيني الوحيد الذي أحب فتاة يهودية .
في " رجل يشبهني " التي نشرت بعد نشر المقال بأربعة أشهر كتابة عن محمود درويش وريتا وراشد حسين وآن ، وفيها يرى مأمون الأعمى ، ومن ورائه إلياس خوري ، أن درويش كتب عن ريتا كموضوع شعري ولكن الحب الحقيقي والقصة الحقيقية كانا بين راشد وآن .
وحين يمعن المرء النظر في العلاقة بين درويش وريتا وبين راشد وآن يكتشف أن ما ذهب إليه مأمون / إلياس ممكن جدا ومقنع أيضا ، فعلاقة درويش بالفتيات اليهوديات لم تستمر طويلا ولم تتخذ مسارا مأساويا ، وأن علاقة راشد ب آن
استمرت أكثر واتخذت طابعا مأساويا ، وأن البندقية بين العاشق والمعشوق تتمثل في الضابط زوج آن .
وأنا أقرأ الصفحات الستين التي غطت في " رجل يشبهني " قصة راشد بالمرأة اليهودية قلت إن إلياس خوري سيفجر قنبلة موسمية في هذا الجانب وسيجعل قراء محمود درويش الذين سئموا من تكرار الكتابة في الموضوع يعودون إليه ليخوضوا فيه من جديد . غابت تفاصيل علاقة راشد بالمرأة اليهودية عن كثيرين منا فلم نخض فيها وبقينا نخوض في علاقة درويش بريتا ، وأعتقد أن رواية إلياس " رجل يشبهني " ستعيدنا إلى الحكاية من جديد وهذه المرة ستتخذ من راشد وحكايته نقطة البدء والانطلاق . ماذا فعلت بنا يا إلياس خوري؟
كنا توقفنا منذ العام ١٩٧٧ أمام قصيدة محمود درويش " كان ما سوف يكون " وشكلنا في أذهاننا صورة راشد حسين أكثر مما شكلناها من قراءتنا أشعاره أو ما قرأناه عن حياته ، والآن تأتي رواية إلياس خوري لتقلب لنا دماغنا وتزلزل ثوابتنا .

ارفق مقالي المنشور في جريدة الأيام الفلسطينية بتاريخ ٤ / ٩ / ٢٠٢٢ وهو واحد من خمسة مقالات نشرتها بين ١٢ / ٦ / ٢٠٢٢ و ٤ / ٩ / ٢٠٢٢ .

***

٢٨- سهرة مع إلياس خوري وروايته "رجل يشبهني"
{ حلم العودة والموت في المنفى }

ظل أهلنا ممن هاجروا في العام ١٩٤٨ مكرهين ومجبرين ومخدوعين ناجين بأنفسهم ، ظلوا يحلمون بالعودة إلى مدنهم وقراهم ، ولكنهم لم يعودوا فماتوا في المنفى ودفنوا في مقابر مخيمات اللجوء أو حيث أقاموا . صارت المقبرة كما قال العجوز الفلسطيني المقيم في جنين هي المقبرة . هجر العجوز ، كما لاحظنا ونحن نحوض في دال الوطن ، من عين حوض وظل يأمل بالعودة ولم يعد ، وفي ربيع ٢٠٠٢ إبان اجتياح مدينة جنين ومخيمها توصل إلى ما توصل إليه ، ويعد هذا العجوز واحدا من ٧٠٠ ألف فلسطيني أصبحوا اليوم ٧ ملايين أنا واحد منهم وحكاية أسرتي لا تختلف عن حكاية العجوز . مات جدي في العام ١٩٦٨ في مخيم عسكر وماتت جدتي بعده بعشر سنوات ثم مات أعمامي وأبي ولم يعودوا إلا زائرين . لي عم مات في الشام ولم يحضر أي من إخوته جنازته ، ولي عم ثان مات في عمان عرفنا عن موته بعد فترة ، فقد عاش مشردا في المقاهي ، وأما عمي الثالث فمات في اجتياح نابلس ٢٠٠٢ ودفن مع شهداء الاجتياح ولم نقم له بيت عزاء ، لأننا كنا نعبش محاصرين في فترات منع التجول . كان أبي أوفر حظا فقد مات في العام ٢٠٠٦ وكذلك عمي الأصغر الذي مات في العام ٢٠١١ . ماتوا ولم يعودوا .
في " رجل يشبهني " يموت راشد حسين في نيويورك . ظل راشد في العام ١٩٤٨ في قريته مصمص وهاجر بإرادته في العام ١٩٦٦ ليعيش مع آن المرأة اليهودية التي أحبها ، ولكنه بعد تجربة مريرة هناك وفي العالم العربي قرر العودة إلى بلاده ، ومات ولم يعد . ( ينظر مقالي الأحد القادم في جريدة الأيام الفلسطينية " راشد حسين في ذكراه : الفلسطيني في الرواية العربية " ٥ / ٢ / ٢٠٢٣ ) .
" أريد العودة " قال راشد ل آن .
" لكنك لم تعد تستطيع العودة إلى فلسطين بعدما لبست كوفية الفدائيين "
" أريد العودة إلى الفلسطينيين كي أعود معهم إلى فلسطين " .
ومات في شقته مختنقا .
ومات آدم في نيويورك ميتة راشد . لقد ترك بلاده لأنه شعر أنه يعيش فيها في منفى ، عله يبدأ في نيويورك حياة جديدة ، إلا أنه أخفق . لقد اكتشف أن جروحه لا تلتئم وهكذا يقرر :
" يجب أن أعود إلى اللد " ورأى روحه هناك " تعانق أمي الأولى التي بنت عشها على أغصان شجرة زيتون تقف وحيدة في الوعر " .
وكما ذكرت من قبل فإن آدم رأى أن حكايته تكمل حكاية راشد ولكنها لم تكتمل فأخذ يبحث عن كاتب يكتبه بدلا من عذابه .
سكر آدم وذهب إلى شقته ليموت ميتة راشد بالضبط ، ولم يعد إلى اللد ليبدأ من جديد ، وإذا كان راشد عاد إلى فلسطين ليدفن فيها فإن آدم لم يعد حتى ميتا . شرحت جثته في المستشفى ولم يلاحظ عليها عناصر جرمية ، وسمح لشريكه اليهودي في المطعم بدفن الجثة ، وبناء على وصية " آدم حسن دنون ، لم تجر أي مراسم جنائزية ، بل تم إحراق الجثة ونثر رمادها في نهر الهدسون ، بحضور شخصين " ، وبعدما نثر الرماد ، قالت ( سارانغ لي ) إنها ليست متأكدة من أي شيء . الرجل مات اختناقا وقهرا . إنها حزينة ، ثم اختفت ولم يرها أحد في مطعم " بالم تري " بعد ذلك .
كم فلسطيني مات في المنفى اختناقا وقهرا ؟!
مع مقال الأحد أكون كتبت الكثير عن الرواية ولكني لم أكتب كل شيء . ثمة كتابة عن البناء الفني للرواية تعرضت إلى جانب ضئيل منه ، وأتمنى أن ينجزه ناقد يقرأ الرواية قراءة بنيوية تفصيلية .
خربشات أدبية
٣ / ٢ / ٢٠٢٣

***


28- {خيبة النهايات وقسوتها}

تنتهي " رجل يشبهني " بتذييل يأتي على نهاية آدم .
في العاشرة من صباح السبت ١١ آذار ٢٠٠٧ شمت سيدتان تقيمان في الطابق الثاني رائحة غريبة تنبعث من الشقة رقم ٩ ، فاتصلتا برجال البوليس الذين حضروا وخلعوا الباب فوجدوا رجلا ملقى بثيابه على سريره وتنبعث منه رائحة الموت ، وبعد معاينته طبيا عرفوا أن آدم قضى بسبب جلطة دماغية عطلت قدرته على التنفس ، فمات مختنقا .
تذكر هذه النهاية لآدم بنهاية الشاعر الفلسطيني راشد حسين الذي حضر في الثلاثية .
كان راشد حسين توفي أيضا في نيويورك في بداية شباط ١٩٧٧ في ظروف غامضة ، فقد عثر عليه في شقته ميتا .
في صفحة ٢٨٨ نقرأ على لسان آدم الآتي :
" كان لا بد من راشد حسين كي تكتمل قصة وضاح ، وكان لا بد مني ، أنا آدم دنون ، كي تكتمل قصة راشد .. أما قصتي فلن تجد من يكملها .
هكذا الأدب . إنه بحث عن النقصان لا عن الاكتمال " .
ولكن إلياس خوري أكمل قصة آدم وكتب نهايتها .
ولعل ناقدا بنيويا يفيد من منهجه ويدرس العلاقة بين الأحداث والشخصيات والأجزاء في " أولاد الغيتو " ويخبرنا عن شكلها:
- أهي علاقة تواز أم علاقة إكمال أم علاقة تعارض ؟
ولكنا لو نظرنا في قصة الثلاثة ومآلهم سنرى بلا جهد نبذله أنها علاقة تواز ، لا علاقة تعارض ولا علاقة إكمال .
الثلاثة أحبوا وأخفق حبهم والثلاثة عانوا في بلادهم وهاجروا منها والثلاثة ماتوا في المنفى غرباء عن ديارهم.
ولو نظرنا أيضا في مآل اللد وعيلبون وأبو شوشة ؛ البلدات الفلسطينية التي كتب عنها إلياس في " رجل يشبهني " للاحظنا تشابه الأحداث وتشابه النهايات ، ولو نظرنا أيضا في مآل ياسر عرفات وأبو جندل وخليل أيوب لما وجدنا شيئا مختلفا . عاد الثلاثة إلى فلسطين إثر اتفاق أوسلو وحوصروا في جنين ونابلس ورام الله وماتوا .
وربما أذهب إلى ما هو أبعد مما سبق فأربط بين نهايات الشخصيات هنا ونهايات الشخصيات في رواية ثانية لإلياس خوري هي رواية " مملكة الغرباء " ١٩٩٣ . عاشت الشخصيات غريبة وماتت غريبة أيضا .
وعموما فإن التشابه بين آدم وراشد يبدو أوضح ما يكون ؛ كلاهما أحب امرأة يهودية وأخفق في حبه ، وقد نضيف إلى تجربتهما تجربة محمود درويش وريتا وتجربة صليبا خميس وزوجته آرنا ، لتصبح المعادلة على النحو الآتي :
- راشد - آن = حب وإخفاق وانفصال
- محمود - ريتا = حب وإخفاق وانفصال
- صليبا - آرنا = حب وإخفاق وانفصال
- آدم - دالية = حب وإخفاق وانفصال .
كما لو أنه لا نجاح لحب في ظل الحرب إذا كان المحبان ينتميان إلى القوميتين المتحاربتين ، وهو ما عبر عنه درويش في أكثر من قصيدة :
" بين ريتا وعيوني بندقية "
" عن حلمين يتقاطعان وينفصلان ، فواحد يستل سكينا وآخر يودع الناي الوصايا " . كما لو أن الحب يستحيل لأنه غير ممكن إلا إذا نما البنفسج في خوذة الجندي ، والتعبير أيضا لدرويش ، وهذا مستحيل .
ومشكلة آدم ومن قبل راشد ودرويش أنهم يعيشون في الماضي وغير قادرين على نسيانه حتى حين هاجروا . لم يعيشوا الحاضر وظلوا أسرى الماضي . هكذا أفهم من الرواية .
" يجب أن أعود إلى اللد .
لكن عن أي لد أتكلم . حتى الغيتو الذي احتل مخيلتي هنا في نيويورك صار أطلالا . هل أستطيع العودة إلى أطلالي؟ ....
انتهت اللعبة ، سأبيع حصتي في " بالم تري " ، ليس من أجل أن أستعيد دالية ، كما أقنعت نفسي ، بل من أجل أن أستعيد روحي .
وروحي هناك ، تعانق أمي الأولى التي بنت عشها على أغصان شجرة زيتون تقف وحيدة في الوعر ...
هل أستطيع ؟ ...
" سأعود إلى اللد ، وأبدأ من جديد " قلت .
ولكنه لم يعد . ظلت اللد له كما حيفا لراشد وكما الكرمل لدرويش . لم تنس نيويورك الأولين حيفا واللد ، ولم تنس باريس والبحار الثالث سرو الكرمل . هكذا قال راشد :
" أتيت الطب في نيويورك أطلب منه مستشفى
فقالوا :
أنت مجنون ولن يشفى
أمامك جنة الدنيا ،
ولست ترى سوى حيفا "
وهكذا صرخ درويش :
أدخلوني إلى الجنة ،
سأصرخ صرخة ناظم حكمت :
" يا وطني ! " .
عاد راشد إلى قريته مصمص جثة ، ليدفن فيها ، وعاد درويش الذي توفي في أمريكا أيضا إلى رام الله جثة ليدفن فيها ، ومثلهما ياسر عرفات ، وأما آدم ، وبناء على وصيته فلم تجر أي مراسم جنائزية ، بل تم إحراق الجثة ونثر رمادها في نهر الهدسون ، بحضور شخصين .
هل انتهت اللعبة حقا ؟ هل انتهت الحكاية حقا ؟
في العام الماضي قتل الإسرائيليون ما لا يقل عن ٢٠٠ فلسطيني في الضفة الغربية ، ومات غرقا في البحار ما لا يقل عن ٥٠ مواطنا من غزة ، وصباح هذا اليوم ١٩ / ١ / ٢٠٢٣ صحونا على حبر قتل الإسرائيليين مواطنين من مخيم جنين .
خربشات أدبية
١٩ / ١ / ٢٠٢٣

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى