عادل المعيزي - كيف يمكننا التفكير في مؤتمر وطني للثقافة والابداع؟

"كل محاولة لدمج عمل موسيقي فردي في إطاره الاجتماعي زائفة"
أدورنو


-1-
في إحدى حروبي الصغيرة عندما كانت العجائز تجفّف السنوات الكئيبة وتطرقن حديد الأيّام مستعينة بكؤوس الشاي عند الظهيرة، كنت أعتقد أنّ لي عقلا يردّد الأغنيات ويجابه كوارث العقل العملي والعقل الاستبدادي ويخطر ببالي أنّ الرفض ليس سوى حديقة من الأسئلة المزهرة لا ينقصها الماء لتدير إمكانات أخرى غير المسلّمات التي تربّينا عليها... ولكنّني الآن أدرك أنّ أخطر القرارات لا نتّخذها نحن بمحض إرادتنا المتوهّمة وإنّما يتخذها سياق ثقافي واجتماعي وسياسي نحياه دون أن نعتني به ودون أن نخطّط للهروب منه باعتبارنا محكومين به ولا يستطيع العقل أن يحرّرنا منه ولا يستطيع النثر أن يُغيّبنا عنه بسبب تفاصيله المقرفة ومنطقيّته التي يتعمّد الروائيون، تلك الكائنات الساذجة، أن تقنعوننا بأنّ للمجتمع الإنساني نظام محكم بما في ذلك فوضاه ! لذلك يظل الشعر هو صاحب القرار في أيّة لحظة ابداع نثرية كانت أو شعريّة سينمائيّة كانت أو مسرحية تشكيلية كانت أو موسيقية بل دعني أقول إنّ الشعر هو صاحب القرار في كلّ عمل فنّي بما في ذلك العمل السياسي عندما يتمّ تعريفه على أنّه فنّ الممكن عندما يهفو إلى الحلول غير الاعتيادية بما في ذلك الثورات والانقلابات!
لذلك وبعد فشل كل محاولات التثوير ثمّ التغيير ثمّ الإنقاذ من خلال ما يقوم به "السياسيون" خلال ما يربو عن عقد من الزمن عبر ممارسة السلطة أو معارضتها وعبر آليات الديمقراطية الظاهرة (أو الشكلية أو السطحية !!) عدت لتجديد دعوة قديمة جدّا وهي انجاز مؤتمر وطني للثقافة والابداع ستتحدّد مهامّه لاحقا وربّما لن تتحدّد قبل انعقاده.
ولكن الرسالة المهمة في ذلك أنّ فئة مهمّة مشتغلة بالفنّ والفكر ومنشغلة بالشأن العام تمّ تهميشها واستغلالها وحتّى اغتصابها خلال عقود من الزمن وظلّت بعد سقوط النظام القديم تعاني التهميش والاقصاء لأسباب متنوعة ومتعدّدة.
ولا شكّ أنّ اغتصاب هذه الفئة تمّ من خلال الاستحواذ على رؤاها حول الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستلاء عليها وتحويل وجهتها لتحقيق فائض القيمة السياسي دون أن يكون لها أثر في المجتمع وهي أشنع الجرائم التي حدثت بعد الحراك الثوري منذ 2010.. إذ أنّ ذلك أدّى إلى اليأس النهائي لجزء من الشعب التونسي لإمكانية التغيير والتطوير وأدّعى إلى اتخاذ موقف مضاد لفكرة الحرية والديمقراطية لجزء آخر وهو ما جعل عموم الناس يستهجنون وجود الأحزاب وينفرون من فكرة المشاركة في الشأن العام..
-2-
يروي إدوارد سعيد في إحدى مقالاته التي لم أعد أذكر أين نشرها أنّه في مثل أيامنا تقريبا في بداية ثمانينات القرن العشرين عقدت مجلة "الأمة" مؤتمرا للكتّاب في نيويورك مُعلنة عنه بلا تحديد من هو الكاتب أو طبيعة المؤهلات التي تخوّل الحضور إليه وكان ذلك مقصودا بالطبع. فكانت النتيجة حضور مئات الأشخاص واكتظاظ قاعة الرقص في فندق بوسط منهاتن بالحاضرين.
ويذكر سعيد أنّ المقصود من المناسبة أن تكون ردّا من جانب المثقّفين والفنانين على بداية عهد ريغان وخلال المداولات نشب سجال حاد لفترة طويلة من الوقت حول تعريف الكاتب على أمل التخفيف من عدد الحاضرين وبالأحرى تحديد من له حق التصويت ومن ليس له هذا الحق إلا أنّ كل المحاولات باءت بالفشل وفي لحظة تعقّل اقترح عليهم أحد الحاضرين تبنّي الموقف السوفياتي في تعريف الكاتب أي الكاتب هو كل شخص يقول بأنّه كاتب... وأدّى ذلك إلى تأسيس اتحاد قومي للكتّاب يُعنى بالقضايا المهنية والتقنيّة. كما تأسّس مؤتمر للكتّاب الأمريكيين لمعالجة القضايا السياسية...
منذ ذلك التاريخ حصلت تغيّرات كثيرة وعميقة في العالم الجيوسياسي والاقتصادي والثقافي واحتلّت مركز تلك التغيّرات العميقة مسألة حسّاسة متوتّرة تزداد اتساعا ولم تُحسم بعدُ حول مدى الاتصال والانفصال بين السياسي والثقافي/الإبداعي أي هل يندرج الكتّاب والمثقّفون في تسميات غير سياسية أم لا؟ وإذا كان الأمر كذلك كيف وما هو المقياس؟ ... وقد نجمت صعوبة هذه المسألة بفعل التناقض بين الكاتب أو المثقّف باعتباره فردا وبين ما يتّسم به عالم السياسة من اجتماع فئات أو طبقات أو مجموعات توحّدها المصالح وهو ما يدعونا إلى التساؤل هل فكرة المثقف أو الكاتب غير السياسي تحمل الكثير من المعنى؟
إن الصراع القديم كان صراعا بين المثقّف والسلطة تنازعه حرّيته وينازعها سلطتها في حين أنه خلال السنوات الأخيرة خبا هذا الصراع لفائدة فئة أخرى هي فئة السياسيين المتهافتين والمتصارعين على السلطة والذين فشلوا إلى حد الآن في جعل المجتمع والدولة يتجاوزان مآزقهما وأزماتهما! ولعلّ هذا التجاذب السياسي الذي ألغى من الفضاء العام مفهوم الكاتب والمثقّف قد أعيدت صياغته من جديد بعد 25 جويلية بطرق مختلفة تُقدّم على ما يبدو تنويعات لانهائيّة أوّلها أنه تمّت الاستعاضة عن الحزب باعتباره مجموعة من المناضلين الذين يتقاسمون نفس المصالح ويعبّرون عنها ويمارسون من خلالها السلطة أو يسعون للحصول على السلطة، بمجموعة من الأفراد يصعدون إلى السلطة ويمارسونها انطلاقا من رؤيتهم الفردية وهو ما يتماهى مع المثقف أو الكاتب الفرد وهو ما يفتح أمام كليهما (السياسي الفرد والكاتب أو المثقف) إمكانيّة لعب أدوار متشعّبة وثانيهما حول الموقع والموقف المادّي والمجازي للكاتب وللسياسي الفرد الذي يتحرّك دون الاستناد إلى المرجعيّة الحزبية.. ألا يوحي هذا الأمر بشكل عام كما جرى للمثقفين والمبدعين حين طُردوا من المشهد السياسي يجري نفس الشيء للأحزاب السياسية وربما للسياسيين بالمعنى التقليدي؟؟ ألا يشير ذلك إلى ثارات التاريخ ومكره؟!
😚

لقد ظل المشهد الثقافي التونسي مشهدا بائسا خلال زمن بسبب تهافت الفاعلين السياسيين وتغييب الفاعلين الثقافيين ولعلّ المرحلة أصبحت ملحة للدعوة إلى مؤتمر وطني للثقافة والابداع تتنادى إليه كل مكوّنات المجتمع المدني الثقافي التي لها الشرعية التاريخية وكل الشخصيات الإبداعية والثقافية وكل المثقفين الثوريين وكل الذين لهم علاقة بالثقافة والتعليم والابداع انتاجا واستهلاكا وإعادة انتاج... لكن لا يجب أن نعيد أخطاء فكرة الديمقراطية المباشرة التي أرادت تنفيذها مجلة "الأمة" النيويوركية وإنّما يجب الاستفادة ممّا تمنحه التجربة التونسية من إمكانيات التنظّم القاعدي وذلك عبر آليات المؤتمرات الثقافية المحليّة التي يمكن أن تنعقد وتقدّم مداولاتها الحلول الثقافية والابداعية من جهة ومعالجة القضايا السياسية والاقتصادية من جهة أخرى ويمكن أن تؤدّي تلك المؤتمرات المحلية إلى مؤتمرات جهوية تترسّخ فيها الخيارات الثقافية والاقتصادية والسياسية لتكون انعكاسا أمينا لخيارات المؤتمر الوطني
نحن نعتقد أنّ كلّ ما يحدث في تونس، من فساد وظلم وتخلّف وتمييز وفقر وبطالة ومعاناة واحتكار ومحسوبية وفشل وانحطاط وانحرافات ورداءة في مختلف المجالات، ما ظهر وما خفي... كلّ ذلك أجزاء مترابطة لمنظومة متكاملة، جذورها الوصاية، أي التبعيّة وارتهان القرار الوطني وفروعها الخيارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.. وهذه المنظومة المتغلغلة في الدولة وفي المجتمع والمدجّجة بقوّة السلطة والمال والإعلام، ستستمرّ في عملها الممنهج من أجل إبقاء الشعب ضعيفا وتحت السيطرة ومستسلما، وإبقاء البلاد في حالة استقرار هشّ في ظلّ الوصاية.
وقد كان التشخيص قاصرا أو سطحيا أو جزئيا أو غائبا، فكانت الثورة غير مكتملة. إذ أنّ الأزمة أكبر وأعمق وأخطر من أن يعالجها إسقاط بن علي ونظامه والطرابلسية، الذين لم يكونوا سوى واجهة وأدوات لمنظومة الوصاية والفساد المتغلغلة في الدولة والمجتمع، والتي تحكم تونس منذ زمن بعيد، ما بين استعمار واستبداد، وتسبّبت في دمار شامل في كلّ المجالات، وتشوّهات في العقول والنّفوس وفي القيم، واستدامة للجمود والتخلّف، بينما كانت دول وشعوب في مثل وضعنا أو أسوأ في مختلف القارات ومن مختلف الأحجام، تقلع تباعا على مدى ستّة عقود، رغم أنّهم لا يفوقوننا بشيء، وواجهوا عراقيل وصعوبات سلمت منها تونس وشعبها... وتكرّر في 2011 ما وقع في 1956، بنفس الطريقة مع تنوّع الوسائل ولنفس الأسباب، من التفاف على مطالب الشعب وتطلّعاته وأحلامه. فقد شهدت تونس بعد 14 جانفي انفجارا ل"جماعات التفكير" التي قامت بتوجيه الرأي العام عبر احداث عشرات القنوات ومئات الإذاعات وآلاف الصفحات الورقية ومئات آلاف الصفحات الالكترونية وعبر برامج المقابلات التلفزية المختلفة من أجل إشباع الخطاب العام بالمصالح والسلطات والقوى التي يصعب تصوّر حدودها وتنوّعها والمحصّلة هي قبول العامة باستمرار المنوال الليبيرالي لدولة ما بعد بن علي والتي تتحول شيئا فشيئا إلى دولة غير مسؤولة أمام المواطنين وغير مسؤولة عن البيئة الطبيعية والمسؤولة فقط أمام "بنية ضخمة من شركات عالمية لا تردعها حدود تقليدية أو سيادات"... ولعلّ من أكثر المظاهر تراجيديّة أنّ الشعب التونسي أو الجزء الأعمّ منه على الأقل قد نسي أو أنسوه السبب الحقيقي الذي خرج من أجله يوم 17 ديسمبر 2010 وما بعده ودفع من أجله مئات الشهداء وآلاف الجرحى !!...
إنّ المثقفين (ات) والمبدعين(ات) هم الحل الأجدر بتونس الآن، لذلك أجدّد الدعوة التي أطلقتها سنة 2011 إلى مؤتمر وطني للثقافة والإبداع يحمل على عاتقه اقتراح البدائل الثقافية والابداعية لتونس أخرى ممكنة بعيدا عن السياسة السياسوية التي تتحدّث دائما عن المصالح الدائمة منكرة المبادئ الأكثر ديمومة وهي التي تؤصّل للقيم البديلة التي يحتاجها الشعب التونسي اليوم خصوصا في ظل انهيار منظومة القيم القديمة وغياب بدائل القيم الجديدة، وعلى المثقفين والمبدعين أن يتحمّلوا مسؤوليتهم وينقذوا وطنهم ممّا تردّى فيه من هوان وتخلّف... مؤتمر يسعى لتفعيل الطاقات والكفاءات المعطّلة، وتوحيد الجهود المبعثرة والتائهة... حتّى يصبح المظلّة الكبرى لكلّ من/ما هو وطني، من مبدعات ومبدعين ومثقفات ومثقفين وهيئات المجتمع المدني المؤمنة بالثقافة الوطنية الديمقراطية التقدمية المتحرّرة من ربقة الاستعمار والتبعيّة، يلتفّون حول المشروع، ويضخّون فيه خبراتهم وتجاربهم وأفكارهم ومبادراتهم... من أجل أن يتحوّل إلى تيّار قادر على الفعل المؤثّر، وعلى إسناد أي مسار سياسي يسعى إلى مقاومة منظومة الوصاية والفساد...
-4-
يجب الدفاع عن صفات المثقف التي نحتاجها منتج القيم البديلة عن قيم "مجتمع الحرية السائبة" والمضاد في مجالات مختلفة مثل قول الحقيقة أمام السلطة والعمل كشاهد على الاضطهاد والمعاناة وتقديم صوت مختلف في الصراع مع السلطة بل وتقديم تصوّر ورؤية مختلفة للسلطة ذاتها (...)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى