فاتن فاروق عبد المنعم - بقعة ضوء (٩)

ألفريد باتلر.. ينفث نارا من صدره:
كتاب باتلر الشهير فتح مصر، يلوي عنق الحقيقة كي يدلل على وجهة نظره النابعة من أيديولوجية دينية بحتة فيطلق لخياله العنان مفترضا أن المسلمين الذين «سخر» منهم كينيدي لأنهم لم ينبهروا بثراء وفخامة الفرس، ولم يشغلهم فخامة والتقدم الحضاري للروم هم أنفسهم الذين بهروا بمدن دمشق والرها والقدس والأسكندرية، وإنطاكية وبالميرا.

الأسكندرية التي دخلها العرب كانت قد تقلص حجمها بعد أن ولى عهد البطالمة ونالها ما نالها من كثرة الصراعات والضغائن والفتن التي كانت بين الفرس والروم وانعكست على المدينة شكلا وموضوعا، وعلى ذات اللحن الذي صاغه باتلر سبقه بالعزف عليه يوحنا النيقيوسى.

سام الرومان المصريين سوء العذاب فكانت العشر سنوات السابقة على الفتح الإسلامي لمصر هي قمة الغلواء والاضطهاد بأنواعه من قبل هرقل والمقوقس، وهذا التداعي ينبئ بعدم وجود ظهير شعبي للرومان في مصر وهذا من أجل الأسباب الكفيلة بأن ينهار على أثرها أعتى الدول مهما بلغت من القوة.

طبيعة رجال المرحلة:
بعدت بيننا وبينهم الشقة، وإذا عتمت الرؤية وجب علينا اقتفاء أثر السابقين ربما عثرنا على بقعة ضوء تهدينا سبل الرشاد، هذا وقد آليت على نفسي الصدق (الذي شقيت به) اتباعا لقول نبينا ﷺ «في الصدق النجاة ولو أن فيه الهلكة»

أرسل المقوقس لعمرو بن العاص رسالة بها من العنجهية والاستعراض الأجوف (رقصة الموت الأخيرة) ما يدل على البون الشاسع بين النخبة الحاكمة وبين عموم المصريين، ولن ادعي أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا على علم بهذه المنطقة الرخوة التي منها يخترقون مصر، فقط هم يضعون نصب أعينهم تبليغ الدعوة ودحر الطغاة الفاسدين، فلا البريق الحضاري ولا الثراء المعرفي والثقافي لدي الرومان أصابهم بالصدمة الحضارية التي سبح باتلر بخياله الباذخ ليسوق لنا من إبداعه الشخصي شعور المسلمين لدى اضطلاعهم على ممالك الآخرين متناسيا عن عمد فاضح أن لو كانت نفوسهم بهذا الضعف لما سادوا هذه الممالك (وهو العليم بذلك)، أما رسالة المقوقس لعمرو فكانت كالتالي:

«إنكم قوم قد ولجتم بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلكم الرومان وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا.

فابعثوا إلينا رجالًا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال، قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفًا لطلباتكم ورجائكم»

احتجز عمرو رسل المقوقس يومين كي يتيح لهم الاضطلاع على حال العرب فيعودوا ويخبروا عنهم،

ثم بعث عمرو برده على الرسالة:
«ليس بيني وبينكم إلا إحدى خصال ثلاث: أما إن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا، وكان لكم مالنا وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال، حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين».

فرح المقوقس بعودة رسله سالمين ولما سألهم عن حال المسلمين قالوا:
رأينا قومًا الموتُ أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم.”

(هذا هو حال المسلمين الذين فتحوا مصر، هذا هو توصيف رجال المرحلة، لا يعرف فيهم العبد من السيد، لا يوجد بينهم من يقول «ألا تعرف مع من تتحدث»، لا يوجد بينهم من يرى نفسه يمتاز عن غيره بميزة ما، قلوبهم مجلوة، يقبضون على درة الحياة الدنيا (الإسلام)، لا يرون سوى الهدف الذين خرجوا من بلادهم لأجله فخلصت نواياهم لله، لذا سادوا وبرزوا وتصدروا المشهد)

تفكر المقوقس بعد أن أيقن أنهم ليسوا طلاب دنيا كما ادعى «باتلر» فأرسل لعمرو يطلب التفاوض، فأرسل له عمرو عشرة رجال على رأسهم عبادة بن الصامت وأمرهم أن لا تنازل عن خصالهم الثلاث وأكد على أن يتحدث باسمهم عبادة بن الصامت، كان طويل القامة شديد السواد، فلما دخل عبادة على المقوقس هابه لسواده وفرط طوله، وقال:

«نحُّوا عني هذا الأسود وقدِّموا غيره يكلمني».

فقال رفاقه أنه أعلمهم وأخيرهم ويصيخون السمع لرأيه ومشورته، وأن عمروا هو من قدمه عليهم ولن يخالفوا أمره، فقال عبادة الذي يعلم عنصرية الرومان:

«إن فيمن خلفت من أصحاب ألفَ رجل أسود كلهم أشدُّ سوادًا مني، وإني بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعًا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في سبيل الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا طلبٍ للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلةٌ يأكلها يسدُّ بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، وإنما النعيم والرخاء في الآخرة».

فقال المقوقس:
«أيها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولَعَمْرِي ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على مَن ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة، ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوةَ لكم به».

(يمارس عليهم حربا نفسية وهو الفقير الأجوف داخليا لا يمكن لمثله أن يعلم خبيئة من استحوذ الإيمان على قلبه)

فقال عبادة:
«يا هذا لا تغرنَّ نفسك ولا أصحابك؛ أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنَّا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقًّا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالكم وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا أقدمنا عليه إن قُتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقرَّ لأعيننا ولا أحبَّ لنا من ذلك، وإنا منكم حينئذٍ لعلى إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه (انظر كيف يثق في موعود الله):

{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِين}

وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحًا ومساءً أن يرزقه الشهادة، وألا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحدنا هَمٌّ فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا؛ فانظر الذي تريده فبيِّنه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال، فاختر أيتها شئت ولا تطمع نفسك بالباطل. بذلك أمرني الأمير وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله ﷺ من قبل إلينا».

ولما أراد المقوقس أن يراوغ طلبا للظفر بما يحفظ ماء وجهه قال عبادة:
«لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم»

استمر تقدم العرب في ثغور مصر، وفي كل مرة يحرزون تقدم ما يطلب الرومان التفاوض بينما هم لا يتنازلون عن الخصال الثلاث فلما قبل المقوقس بالجزية نفاه هرقل الذي كان يرى أن يستمروا في القتال، ولما مات هرقل أثناء النزال استمر المقوقس بمكانه ولما تمكن العرب من الأسكندرية طالب بهدنة 11 شهرا حتى يتم الجلاء بعد أن يعطوا الأمان فكان لهم ما أرادوا.

سيرة هؤلاء الرجال هي ما تعنيني هنا، الأحداث معروفة ولكن استبطان الداخل لرجال هذه المرحلة هو ما يجب تأمله والوقوف على الأسباب التي بها تغلبوا على أعتى إمبراطورتين في زمانهم، وكأن شفرة الريادة التي تركوها لنا هي صدق الإيمان والإخلاص لله.

ورغم اجتهاد ألفريد باتلر وهيو كينيدي للي عنق الحقيقة إلا أن الحق الأبلج غشى عيونهما.

وللحديث بقية إن شاء الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى