محمود سلطان - أصبح عندي الآن بندقية

يقال إن عبد الناصر، كلف الأستاذ هيكل، بعقد تسوية مصالحة مع نزار قباني، بعد أن كتب الأخير قصيدته الخالدة بعد هزيمة يونيو 67.. بعنوان "هوامش على دفتر النكسة" جاء في مطلعها:
أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمه
والكتب القديمه
أنعي لكم
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمه..
ومفردات العهر والهجاء والشتيمه
أنعي لكم.. أنعي لكم
نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمه

ومنها: (المقطع الخامس)

إذا خسرنا الحرب لا غرابه
لأننا ندخلها
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه
لأننا ندخلها..
بمنطق الطبلة والربابه

وانتهت التسوية بترضية "نزار" بأن تشتري مصر إحدى دواوينه.. وأن تغني أم كلثوم قصيدة له.. فكانت رائعته "أصبح عندي الآن بندقية" التي لحنها عبد الوهاب على مقام "نهاوند" ولم يُدخل ما اعتاد عليه من تضفير "غربي" :

أصبح عندي الآن بندقيه..
إلى فلسطين خذوني معكم
إلى ربىً حزينةٍ كوجه مجدليه
إلى القباب الخضر.. والحجارة النبيه
عشرون عاماً.. وأنا
أبحث عن أرضٍ وعن هويه
أبحث عن بيتي الذي هناك
عن وطني المحاط بالأسلاك
أبحث عن طفولتي..
وعن رفاق حارتي..
عن كتبي.. عن صوري..
عن كل ركنٍ دافئٍ.. وكل مزهريه..
أصبح عندي الآن بندقيه

واختتمت بهذا المقطع:

يا أيها الثوار..
في القدس في الخليل
في بيسان في الأغوار
في بيت لحمٍ، حيث كنتم أيها الأحرار
تقدموا..
تقدموا..
فقصة السلام مسرحيه
والعدل مسرحيه..
إلى فلسطين طريقٌ واحدٌ
يمر من فوهة بندقيه..
المدهش أن القصيدتين ـ شعر تفعيلة الذي أعشقه ـ كتبهما "نزار" على بحر "الرجز" .. والأخير رغم أنه نال شرعية الاعتراف به من "الخليل بن أحمد"، إلا أن العرب لا يعتبرونه "شعرا".. بل يطلقون عليه "حمار الشعراء" لسهولته .. وقد يرددون عليه أبياتا بالسليقة.. كتلك المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وتفعيلات هذا "البيت" على بحر "الرجز" وعلى هذا النحو:
(مُتَفْعِلُنْ) (مُسْتَفْعِلُنْ) (مُتَفْعِلُنْ) (مُسْتَفْعِلُنْ)
وفي السياق يتعين الإشارة إلى أن ابن حجر قال في فتح الباري:" إنه خرج موزونا ولم يقصد به الشعر. قال: وهذا أعدل الأجوبة. وذكر احتمال أن يكون نظم غيره، وأنه "رجز" وأن "الرجز" ليس من أقسام الشعر":
" وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ" يسين/69
وأذكر أني قرأت للجاحظ ـ وهو من أكبر النقاد في تاريخ العربية مع الجرجاني رحمهما الله ـ اشتراطه في صفة الشعر ـ كممارسة ـ أن لا يقل عن بيتين وأن يكتب بنية الشعر.
ونقلت بعض كتب السُّنة أن الأنْصَار يَومَ الخَنْدَقِ كانت تنشد هذا البيت على بحر "الرجز" بالسليقة:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا... علَى الجِهَادِ ما بقينا أبَدَا
وتفعيلاته:
مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ مُسْتَعِلُنْ

القصيدتان المشار إليهما آنفا ـ إذن ـ على بحر "الرجز" .. البحر الأقرب إلى النثر.. من النوع "المقالي" أو الخطابي أو التقريري.. وخالية من "الصور" أو من "التصوير" ولكنها تضج بـ"الصدق الفني" وليس بـ"التكلف".. وباتت من عيون الشعر العربي والقصائد الأكثر شهرة بين العرب الآن.
إذن.. زحمة الصور التي يلجأ إليها الشعراء الحاليون لإرضاء "نقاد" مدرسيين ينحدرون إلى "الكهنوت الجامعي" ومثل الكتل الأسمنيتة التي تستعصي على النقل من "الظلامية" إلى مناطق "النور".. لن تحقق لهم أية جماهيرية.
القصيدة ـ قد تكون ـ مقالية/خطابية/ تقريرية.. ولكن رسالتها ومضمونها وحمولتها من "الهّمِ العام" و"القضايا الكبرى" .. هي الفيصل في استشراف مستقبلها وحظها من الخلود.
نزار كان يكتب كما قال ذات مرة بـ"حد السكين".. رحمه الله
Écrire à Mahmoud Sultan

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى