فاتن فاروق عبد المنعم - قراءة في رواية حسام الدين لاجين للكاتب أيمن عبد العاطي

التاريخ وسادة ومهاد وبراح للعقل الذي فقد البوصلة خاصة في هذا المنعطف الدال من انعدام الرؤية وهذا ما لجأ إليه الكاتب بحاسته السردية الأنيقة يمد يده في مرج التاريخ المؤطر يستخلص رواية حسام لاجين، والرواية التاريخية بحق هي صعبة التناول ولا يقدم عليها إلا كاتب متحقق، وهو إما أن يجتذب حدث ما ينسج حوله دراما الحكي بخيوط من التاريخواللغة المميزة لتلك الفترة، ويصبح الحدث نفسه هو البطل في النص وكل الشخصيات تخدم عليه أو يجتذبه شخصية تاريخية محورية فيقوم بسرد الأحداث من خلاله ليجعل منه الأنموذج الواجب الاحتذاء به، فاختار الكاتب النوع الثاني.
والكتابة بعامة إما أن تكون وجدانية يغلب عليها وصف المشاعر واستنطاق المخبوء داخل الشخصيات والإفراط فيها يجعل النص عبارة عن تهويمات حسية قد تفقد النص تماسكه لعدم الاهتمام بالسرد الدرامي الذي يفضي إلى الحبكة الفنية، أو ذهنية يغلب عليها سرد الحقائق ووصف المنظور والمباشرة في السرد والإفراط فيها يفضي إلى نص أدبي معيب نوعا، لذا كتابة رواية تاريخية تضع كاتبها على المحك لأنه وإن عني بالحدث فهو أيضا لابد أن يعنى بكشف المخبوء في الشخصيات التي تمثلت الظرف التاريخي الذي هو بصدده، وأزعم أن الكاتب نجح على نحو ما بخلق توازن بين النقيضين داخل الرواية.
أما الحقبة المملوكية التي ينطلق منها كتاب كثر ففي تصوري أن هذا يحدث رغما عنهم نظرا لأننا إداريا مازلنا نعيش فيها رغما عنا أيضا، فحالة الترهل والتداعي التي منيت بها الدولة المملوكية كنموذج لشكل الدولة الإسلامية وما شابها من الاستبداد وتبعاته من الفساد بأنواعه والذي أرخى سدوله على الجهاز الإداري ليقود الجموع من سيء إلى أسوأ، فالأهوال التي صاغها الكاتب لم تكن مستهجنة ولا مستغربة لأنها نتيجة طبيعية للسوس الذي طال عظام هذه الإدارة فأفضى إلى السقوط المدوي فيما بعد كنتيجة طبيعية وحتمية للمسار الخاطيء.
فالموكب المملوكي المكون من إحدى عشر فارسا بمن فيهم السجين يمر بين العوام الذين أفسحوا الطريق ووقفوا في خشوع في غالب الحال مفتعل خوفا من بطشهم رغم ما يعانونه من شظف العيش وسوء الحال، بلغ الركب قلعة الجبل ففكت مقامع السجين حسام الذي كان نائبا على الشام طيلة إحدى عشر سنة في خدمة السلطان المنصور قلاوون، وبدأ الجنود يدفعونه في ممرات مظلمة ضيقة حتى بلغ زنزانة ضيقة، وفي أعقاب النصر على الفرنجة يبدأ المشاركون في المعركة بتصفية حسباتهم معا فتكثر الاغتيالات خوفا على عرش دائم الاهتزاز لمن يجلس عليه.
تناول الكاتب فسيفساء دقيقة التكوين في حكم المماليك بعد وفاة الظاهر بيبرس، وهو من تمثل هذه الفترة موشاة "بمفرداتها المميزة" مثل (المنسر ونور وسويقة وفروجة.....ألخ)والذي كان في أوجه وقمة مجده، ولكنهم يغلب عليهم التوجس خيفة دائما من مجهول يتعقبهم، أما هذا الشعور الملازم لهم نابع من كونهم في الأصل عبيدا أخذوا من ثغور شتى تدربوا على فنون القتال والإجهاز، لذا كانوا لا يأمنون جانب بعضهم البعض، كثر من حولهم المنافقون والانتهازيون والوصوليون والذين يتملقون منصب أو الارتباط بصورة ما بأمير أو حتى السلطان ليستقوي به على الآخرين من الخواص أو العوام، كل أمير من المماليك كان محاطا بشيعته الذين يغيرون على بعضهم البعض تبعا لهوى الأمراء حتى يكون لهم الحظ والحظوة بينما في الحقيقة أنهم كانوا وقود المتصارعين على الكرسي، فكانوا كمن يحلم بقصر منيف فينتهي به الحال على الأرض إلى كوخ بائس.
وحسام الدين لاجين الذي ظن قاتلوه أنه مات فاجأهم بدفقات الحياة التي تئن داخله فأحالته إلى إنسان متشظي فشلت زوجاته وجواريه في استعادة مكونه الذي كان من قبل ولم تكن تدركن أنه بحاجة إلى وقت يطول أو يقصر كي يتم ترميم الصدوع بداخله بعد رؤيته للأهوال، أهوال القتل المجاني من أعوان السلطان خشية انتزاع الكرسي الذي لا تثبت قوائمه لغادر، وبعد عام استعاد نفسه المسلوبة وعاد للقتال مرة أخرى في شوارع القاهرة، بدأ خطواته الأولى على مهل كأن يقاتل متخفيا في حشايا الناس من حوله وكما وصفه الكاتب أنه لم يكن يشعر بأقدامه وهي تلامس الأرض ولا المسافات التي يقطعها حتى وجد نفسه في وسط الميدان الفسيح المكتظ بالناس ولا يميز الجنود من العامة حتى تثبتت دعائمه واستعاد نفسه مرة أخرى.
لم تكن حياة حسام العائد من الموت سهلة، بل كان مطارد وسط مروج من المؤامرات والفتن والدسائس، فقادته الأحداث إلى مروة صغيرة القد والتي كانت تحبه ورغبت في الزواج به أو حتى تكون جاريته ولكنه بأخلاق الفرسان تمنى لها حياة هنيئة مع غيره لأنه في عمر والدها وكلفها بمهمة واحدة فقط، أن تكون عينيه التي تنقل له ما خفي عنه خاصة ما حل "ببيدار" قاتل السلطان، وعلمها كيف تتفقد الخبر دون أن يشعر بها أحد، حسام لاجين هو من قتل السلطان والذي هو صهره لجبروته وجوره الذي مارسه على المصريين، فر حسام ورفيقه سنقر من شيعة السلطان والذين يجوبون مصر بحثا عنهما وهما من يخافا من البصاصين، ومروة هي من أخفتهما عندها واجتهدت في جمع الأخبار المنثورة على ألسن من مرت بهم فعادت إليهما خائفة تترقب وتنقل لهما ما تلوكه الأفواه وسألت حسام بكلمات مفعمة ببراءة ونقاء داخلها غض التكوين، لماذا قتل السلطان فشرح لها أسبابه الموجبة لذلك.
مروة ذات الخمسة عشر ربيعا كانت من دبرت لهما المكان الآمن اللذان منه يتمكنا من مراقبة شيعة السلطان من المماليك الأشرفية، وهي من أحبت حسام وفي كل مرة تتسلل إليه ورفيقه بالطعام والأخبار تخاف من اليوم الذي يأتي فتفقده ولا تراه، فيبثها الاطمئنان بأنه لا يمكنه الاستغناء عن عقلها الذي دبر لهما المكان الآمن ولكن سرعان ما اكتشف أمرها وقتلت بفصل رأسها عن جسمها وبكاها حسام وأقسم أن يثأر لها ولا أقل من رأس السلطان الجديد سنجر الشجاعي ونفذ ما أراد.
الشجاعي هذا أذاق المصريين صنوفا من العذاب فحمل المشعلية رأسه يطوفون شوارع مصر وحواريها فكانت النساء تدعو المشعلية إلى داخل البيوت لتضربن رأس الشجاعي بالنعال والقباقيب والناس تفيض بالفضة على المشعلية تهللا لمقتل الشجاعي ومنهم من أخذ هذه الرأس وبالوا عليها، ظلوا على ذلك ثلاثة أيام وكأن هذا هو واجب العزاء المستحق له.
صاحب الحق ذو القوة، حسام لاجين الذي لم ينحن وفي كل مرة يخرج فيها لنزال أو مواجهة يبطن في نفسه الاحتمالين، إما أن يمشي مرفوع الرأس وأما أن يقتل وهو يقاوم، خيار الفرسان في كل زمان ومكان، وإن احتبس المحيطين به الأنفاس، قضى على مناوئيه الأوغاد وتم له ما أراد حتى دخل قصره مرفوع الرأس، إنه الدفع الإلهي للناس بعضهم ببعض، ولم تطل أيام الراحة والدعة لحسام مع زوجته خوند سلوان حتى جاءه سنقر رفيقه في المواجهة يخبره أن المماليك الأشرفية الموالين للسلطان السابق تضاموا وفتحوا مخزن الأسلحة وأحدثوا جلبةاعتراضا على عفو السلطان الجديد عن القتلة، ولم يعير حسام الخبر اهتمام أكثر من قوله يتم القبض عليهم قبل أن ينضم إليهم آخرين فيصعب السيطرة عليهم.
وفي سرد وحوار بارع صاغه الكاتب الحاذق ساق الأحداث بمقتضيات زمن المماليك الذين كانوا في صراع دائم لا يهدأون، يغلب عليهم الطمع بكل أشكاله، كان حسام هو الفارس النبيل المأمول الذي يبغي الخير للعوام والخواص ولكنه محاط بجملة من الخونة والمتآمرين الذي لا يبغون الخير إلا لأنفسهم، وفي سبيل ذلك يريقون الكثير من الدماء ويسرقون وينهبون ويقترفون الآثام تلو الآثام، فقد فوجيء حسام بكتبغا الذي اجتمع مع الخليفة والأمراء لتنحية السلطان الناصر قلاوون لصغر سنه وتعيين كتبغا، ولأن الأخير يعلم بقوة ومنعة حسام قال له سوف تكون نائب السلطنة ولكن حسام يعلم يقينا أن مشكلة العوام دائما هي توسيد الأمر لغير أهله، فشعر أنه عاد إلى نقطة الصفر مرة أخرى، فهو لا يرى غير الناصر يصلح للسلطنة، ثم تساءل الكاتب على لسان سنقر ما سر ضعف كتبغا أمام حسام؟
عم الغلاء البلاد فاجتمع السلطان كتبغا مع نائبه حسام لاجين وبقية الأمراء لبحث هذا الأمر، ولما انفرد حسام بسنقر حدثه عن عدم ارتياحه لهذا المنصب فهو يرى أن كتبغا خلع عليه منصب النائب له حتى يحتويه، وأصبح سب كتبغا من الحرافيش (العوام) أمرا عاديا، فالغلاء دائما يرافقه الهجرة من مصر إلى غيرها والإمراض الذي يحصد الأرواح والذي أعجز المصريين عن دفن موتاهم فرادى فعملوا مقابر جماعية، وبعضهم لم يقبر فأكلتهم الكلاب كما أكل المصريون الكلاب وانتشر بينهم الطاعون الذي حصد الكثير لدرجةخلو بعض الحارات والقرى من ساكنيها، وعمت الفوضى رفيقة الجوع البلاد، وهجمت أسراب الجراد البلاد فأكله العوام بل كان يباع بالأسواق.
النوري الذي كان يمشي في الأسواق يسب السلطان إنشادا فيعجب به الناس من كل الأعمار والذين يتبعونه في القول للتنفيس والتعبير عن مكبوتهم، نجح عسكر السلطان في القبض عليه ليمثل في النهاية أمام حسام الذي تشفع له عند كتبغا كي لا يقتل وإذا به يكتشف أنه والد مروة وهو الباحث عنها فقص حسام له ما حدث لها فانهار باكيا وكان حسام يحاول إقناعه ببراءته من دم العوام والمقهورين بل هو لا يفعل ما يفعل إلا ليسود العدل، فرماه الرجل بكونه منهم وقاتل مثلهم، ويمضي هائما على وجهه بعد أن دله حسام على قبر ابنته.
الصراع على الكرسي لا يهدأ بين المماليك، بأسهم بينهم شديد، عيونهم رانية للكرسي الذي آل إلى حسام بعد تقلبه في مرج المتآمرين عليه بما فيهم سنقر نفسه، أشاع العدل وأفرج عن الأمراء المسجونين وأحدث انتعاش اقتصادي لدى عوام الناس ولكنه لم يسلم من بطش الأشرفية الذين قتلوه وأعقبه الناصر الذي كان صغيرا في السلطنة.
الرواية بحجمها المتوسط شحذت بالكثير من المعاني وأبطن الحوار بين الشخصيات أهمية اختيار أعضاء الديوان من الوزراء والموظيفين والتي تعمل على إقامة العدل بين العوام والقضاء على الباغين بصورة نهائية، فالاغتيالات والمؤمرات والسجن والسحل هذه أفعال ما أيسرها ولكنها توغر الصدور وتفتح الباب للخيانات والدسائس وثغور فسيحة لاختراق الأعداء وعدم استتاب الأمن.
وللكاتب صور بلاغية وفنية غاية في الجمال كأن يقول على سبيل المثال:
" انحنى عليها بحنو ومسح ذؤابتها براحته ثم حدثها بصوت خفيض حان متعقل متئد"
فقام بأنسنة الصوت ووصفه بحان متعقل متئد، وغيرها الكثير من التراكيب الفنية المميزة له.
لغة الكاتب على متانتها فقد شابها بعض الأخطاء التي أراها سقطت سهوا منه لأنه بحق يمتلك أدواته ولكنها في النهاية مسئوليته، وفي بعض الفقرات خاصة في الخمسين صفحة الأخيرة بالغ في تسريع الأحداث التي كان من الممكن أن يتوقف عند الكثير منها أكثر من ذلك فتزيد من ثقل الرواية ومد القاريء بالمزيد من إبداعه وهو القادر على ذلك، ولا يسعني في النهاية إلا أن أشكره على هذا العمل البديع وفي انتظار المزيد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى