فتحي عثمان - الهجرة كتذويت أخير: مقاربة فلسفية للمخارج من الطغيان في ارتريا

تؤسس فكرة البناء اللاحق على المعطي الفلسفي السابق نهجا نقديا مراجعا ومدعما للسابق الذي يصبح تراثا ويأتي اللاحق كمعطى جديد أو منفصل لكنه قبلي التأسيس.

في الحالة الثانية يحظى الفكر السابق بتراكم متساوق او مخالف؛ حتى الآن، يبدو هذا النمط الإنتاجي للفكر رائجا، وما يبرره أنه لا يمكن البناء في الهواء، سواء كان الهواء حرا طليقا أو محجورا نتنا.

داع هذه المقدمة البديهية هو البناء اللاحق لميشيل سارتو حول فكرة "التذويت" لدى فوكو في كتابه (ابتكار اليومي) الصادر في عام 1980 والذي عربه ببراعة قياسية محمد شوقي الزين تحت عنوان "ابتكار الحياة اليومية: فنون الأداء العملي.

في الفصل الرابع من كتابه هذا يتخلص سارتو وببراعة فكرية بفتح مخرج من سجن فوكو أو مؤسسته العقابية المراقبة ب ال "بانوبتيكون" المهيمن بفتح صمام التذويت لخلق حالة انفكاك عبر استبطان طبيعة السلطة وعلاقاتها. ويشير الزين أن فوكو سبق سارتو بفتحه لهذا المسار "الكوة" في القسم الثالث من كتابه ذائع الصيت (تاريخ الجنسانية).
قبل التوقف عند محطة سارتو في طريق فوكو السريع؛ هناك استراحة لابد من التوقف عندها وهي اعتبار دولوز في كتابه عن فوكو أن التذويت هو مساحة للفرار "وفتحة للمداخل والمعارج وكشكل جمالي وخلقي فيما وراء المعرفة والسلطة."

يحاول الاثنان دولوز أولا، وسارتو ثانيا خلق مسارب جانبية في الطريق السريع الذي سار عليه فوكو بتأسيس العلاقة بين المعرفة والسلطة، وبالسلطة كمعرفة في توالد وتكاثر.

تأسيسا على هذا الفهم يشير الزين معلقا أن سارتو: "استثمر هذه الفسحة الحرة وسط الإجراءات السلطوية كعالم شبيه "بأليس في بلاد العجائب" حيث تعجز الغزوات الخارجية (إكراه سلطوي، انضباط تربوي، قسر أيديولوجي)
عن كسر الأسوار المنيعة للعوالم الداخلية "تدبر خلقي، مهارة عملية، كياسة أدائية، حيلة شاعرية، براعة جمالية".

ربما يسير هذا المقال في الخط السريع لفوكو، واعيا بعلامات الطريق وإرشاداته التي حددها السائرالسابق، إلا انه يتوقف عند محطتي دولوز وسارتو بشكل أخص لمعاينة الفسحة التي تتيح خروجا عن الخط السريع لنصب خيمة جديدة بنفس أدوات الحفر المستخدمة بغرض شق تفريع جديد من الطريق السريع، والطريق المراد شقه هنا ليس مجازا عريضا، بل هو أحد تمثلات علاقات الطغيان في ارتريا. ربما لا يمكن الفكاك كلية من قبضة المجاز؛ عليه ننشئ هنا مجازا فرعيا بتخيل الطغيان كطائر اسطوري يغطي الشمس بجناحي السلطة والإكراه، ناشرا الظلام بشكل يفوق الرقابة الدائرية الكاملة ل "بانوبتيكون" فوكو الذي استعاره من الإنجليزي جيرمي بنثام. تلك السلطوية العالية تضع ال "بانوبتيكون" ذاته تحت جنح الظلام وتحد من قدراته على الرقابة الكاملة. فهذا البناء الرقابي يتقاصر عن إعطاء صورة بانورامية يمكن إخضاعها للرقابة الشاملة، فعند المقارنة، نجد أن الطغيان في ارتريا "يزرع" الرقابة داخل نفوس المواطنين؛ أي عن طريق نجاح السلطة وعبر الخوف السياسي ومشتقاته في دفع المواطن إلى "بناء رقابة ذاتية" نجاة من بطش السلطة وخدمة لها في ذات الوقت. هذه الدرجة من خلق الرقابة الذاتية أجاد خلقها الصحفي في وجه السلطة إذ تخلص من الرقيب ليس بقتله، بل "بابتلاعه" بالكلية عبر آلية الرقابة الذاتية.

يتم بناء الخوف السياسي؛ أي الذي يحد من التفكير والنشاط السياسي عبر آليات الخوف الطبيعي الإنساني. ففي ارتريا تعمل العقوبة في طريق مغاير لابتكار فوكو ليس كقيد أو إكراه سلطوي فحسب؛ بل عبر تحويل الضحية إلى "امثولة" أو عبرة فيمتزج الخوفان معا لتدعيم الخوف السياسي الحاد من التفكير والفعل السياسي تحديدا تجنبا للعواقب المشاهدة عبر المثال الاعتباري.
وإذا افترضنا تسليما "بتذويت" فوكو والذي دعمه سارتو كمخرج من سيطرة المؤسسة العقابية، نجد أنه في حالة ارتريا يكون هو عبارة عن حالة استدراك ظني ويقيني لعلاقات الفرد بالسلطة وقسرها.

فما هي الفسحة البديلة، المشابهة لفسحة سارتو، في واقع كهذا؟

بما أننا تحت فضاء الطغيان فإن حرية الاختيار يرافقها توهم بأن المتسلط يمكن أن يعرض خيارات أخرى غير الخيارات القسرية المفروضة، ولكن عبر تذويت علاقات السلطة يدرك المقهور أن خياراته يخالطها الوهم بينما يظل (تذويت فوكو) ذاته بعد النظر والتقصي محل اشتباه حقيقي.

تلكم الفسحة والتي يشير إليها سارتو بفسحة "اليس في بلاد العجائب" تظل في حالة الطغيان الارتري هي "استراتيجية" تعكس الاستجابة للخوف بشقيه الطبيعي والسياسي، فبينما يكون الأول متجذرا يكون الثاني طارئا بالانهمام والاحجام في الانخراط في الفعل السياسي ومحاذيره.

في هذا السياق يتم التأسيس للهجرة عبر التذويت إلى "موضعة" فردية أو جماعية. وهنا لا يكن النظر إلى الهجرة كهروب فقط؛ بل كاستراتيجية متعددة الأبعاد، وخلاقة في ذات الوقت لخلق مسار تذويت، لأن ال "بانوبتيكون" يعمل في حيز مكاني، وهنا لا تكون الهجرة هربا من هذا الجهاز الرقابي المكاني، بل تظل محاولة للتخلص من الرقيب الداخلي عبر التطهير بالهجرة.

عند تحليل بعض أحلام الارتريين الذين خرجوا من سيطرة ال "بانوبتيكون" ولم يستطيعوا التخلص من الرقيب الداخلي نجد كابوسا أو (خانوقا) يتكرر في احلامهم بتهويمات متعددة، ولكن بثيمة وحيدة وهي رؤية الحالم لنفسه تحت قبضة السلطة وفشل كل محاولات هروبه منها، حينها يستيقظ الحالم مذعورا ليدرك بعد تلفت وتحقق وجيز من مكانه أنه في مدينة سياتل الامريكية التي تبعد الآف الأميال من المكان الذي هرب منه.

ختاما، يظل التحليل الفلسفي لواقع الطغيان والتذويت المقابل له، تحديا يتجاوز أطروحات فوكو القبلية، وحتى لفسحة سارتو في بلاد العجائب، وأن كان المساران اللذين اجترحهما الرجلان يفسران التذويت كمسرب من السلطة وإكراهاتها. واقع الطغيان الارتري أفرز بأدوات البطش والخوف السياسي الهجرة كتذويت يمثل في بعده الأول نجاح في الفرار من رقابة ال "بانوبتيكون"؛ وفشلا في بعده الثاني عبر عدم التحرر من عنصر الرقابة الذاتية مما جعل التذويت في مجمله عاجزا عن توليد رؤية جديدة لمرحلة ما بعد الهروب من الطغيان تنعكس جليا في الأحلام الكابوسية للهاربين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى