محمد بشكار - عِيد الحُب الغَالِي على الجيْب!

اليومُ عيد الحُب، ولكن لا نبْض في القلب، لا أحمر تُسطِّره النِّساء على الشَّفتين بأجْمل نداء، أو ترْتديه مع وِشاحٍ أسْود يُرفْرِف حول العنْق، لا أحد يُفكِّر في اقْتناء قارورة عِطْر هديةً تُطْفئ برذاذها المرْشُوش نار العِشق !

ما الذي حَدَث هذا الصَّباح، ولِمَ هو مُوحشٌ في القطار وعلى أرصفة تُؤثِّثها نخلاتٌ تَلُوح من بعيد كالأشْباح، لا أرى إلا خيالاتٍ بشرية تركض نحو لا شيء كما لو تنْهَال السِّياط على الظهور، لا أرى بائعة الورد تطوفُ كعادتها كل يوم عيد حُب، في جنبات المقاهي لتُحْرِج العُشَّاق المُفْلِسِين، خصوصاً حين تنْتهِز حساسيَّة المُناسبة فَترْفعُ ثمن الوردة وتزيد، لا أرى إلَّا من يكْتفي بالورْد الذي تَقْطِف الأعْيُنُ حُمْرتَه من الخَد !
هل حقّاً اليوم عيد الحب، أمْ أنَّ الرَّابع عشر من هذا الشَّهْر، قدْ سَقَطتْ ورقتهُ ذابلةً جريحةً مِنْ رُزْنامة المُواطن المغربي، وكيف لا تُصْبح كلُّ أيّامنا تحْمل رقم 20 فبراير بترْسانة مَطالبهِ الإصلاحية الموْؤُودة، ألَمْ ترَ أنَّ الرأسمالية قد كبَّرتْ كرْشها بسِعة ووفْرة خيْرات البَلد، ابْتلعت الأخْضَر واليابس، ومَنْ كانوا بالأمس بين الحِمْلان وديعين، يَسْتجدون بالثُّغاء الأصْوات للصُّنْدوق وليس لحفْلٍ غنائي، أصْبَحُوا اليوم يحْمِلون أسْمَاء أشْرس الوُحوش، ألَمْ تر كيف عصفوا بالتِّين والزَّيْتون حين مَسُّوا أبناء هذا البلد الأمين في أمْنِهم الغذائي !
يُصادِف عيدَ الحُب في بلدنا هذه السَّنة، اكتواءٌ من نار أخرى، ليست كالَّتي تُسعِّرها فِي الأفئدة لواعجُ الهوى، أو حتى الجَوَى الذي ملأتْ أنَّاتُهُ قيتارة أم كلثوم، والمَحْبوبُ هذه المرَّة يستحقُّ أن نُخاطبه بنفس اللَّحن الذي يتناغم مع مطْلَع بعض الأغانى، كأنْ نقول: أنتَ يا غَالي.. وهو فِعْلا غالي باهظ الثَّمن، لكن المَحْبوب غيَّر مَوْضِعه من القلب المُخْتلج بالأشْواق، لِيصْطَف على هيئة كل أصناف الخُضار والفواكه واللحوم والأسماك في الأسواق، اسْتَبْدلَ نَبْضَهُ الذي يُصْدِره القلب برنين الدَّراهم المفْقُودة في الجيب، ولا نمْلكُ كيْ لا نُضيِّع فُرْصَة الاحْتفال بعيد الحُب، إلا أنْ نُكْمِل الأغنية بعد أنْ اكتملت بالبطون الجائعة، كُل آلات العزْف الموسيقية، ولِمَ لا نُغنِّي مثلا: أنْتَ يا بصل يا عُمْري وتاج رأسي، كنتَ لا تساوي شيئاً، وأصْبحتَ بقُدْرةٍ غير شرائية أنتَ البطل، لا تُضاهِيكَ إلَّا الطماطم بِوجَنَاتِها المُحْتقِنة كأيِّ مُلاكِمْ، وأنْتَ يا جَزَر.. يا أرْنباً لمْ يَتخلَّفْ عن سِباق الغلاء النَّفَّاث، نظرةٌ في لونكَ المُتورِّد أصبحت تُخرِّب في أعْيُن الفُقراء البصر، ما لِي أراكَ اتَّخذْت شكْلَ أصابع الدِّيناميت لتنفجر مع الأسْعار، لَعَمْرِي إنَّ مَنْ يَتَمنْطقُ بِحزْمة مِنْكَ هذه الأيام، لا يُمْكنُ إلا أن يُتَّهَمَ إرهابيا، فأكْمِلْ الأغنية إلى الرمق الأخير واعزِفْ على نفْسِ الوتر !
يَا لرشاقة القُفَّة بعد أنْ فَقَدت الكثير من الوزْن بحركاتٍ تسْخينيَّةٍ تُؤجِّجها نارُ الأسْعار، تبدو من بعيد وهي تتأرجْحُ في الأكف بخِفَّة كراقصة باليه، أوَ لا تستحق القفة موعداً غراميا في عيد الحب هي التي تتمنَّعُ حين يشتدُ الطلب، أوَ لا تسْتحقُّ أذناها المُعَلَّقتان في أيادي المُتسوِّقين أعْذَب الغَزَل، هي الحُبُّ كُلُّه المُؤدي للجُنون وما تبقَّى قدْ يَخْضعُ لِمَنْطِق، حين تكون فارغةً تملأ القلب بالحسْرة، ولَمَّا تمتلئ يغْتبط مركزُ الثِّقْل في الإنسان، إنُّهُ البطن الذي يحْتاجُ أن يدور دائماً كي لا يخْتلَّ نامُوسُ المجرَّة !
كان يُمْكنُ أن تُصبح كُلُّ أيّامنا أعياداً للحُب، ولكن ثمَّة بيننا مَنْ فَقَد الشُّعور بأوْضاع من سَيُشاطرونه ذاتَ حدادٍ، شبراً على هذه الأرْض فِي مَقْبرة، كان يُمْكِن أنْ تَسَع القُفّة الجَميع ولا يُضَيِّقُها السَّماسِرة بِعقْليَّةِ الاحْتِكَار والإثْرَاء السَّريع، كانَ يُمْكن أنْ يشْتري العاشِقُ زهرة ويُقدِّمها هديّةً لحبيبته، وهو بصنيعه النَّبيل لا يعلمُ أنَّهُ يُساعد البائعة في إعالة أُسْرة، كان يمكن بتوظيف بعض المشاعر ترويج الحَرَكة الاقْتِصادية في البلد، ولكن ماذا نَصْنعُ وثمَّة بيننا من بِشِدَّة الجَشَع، يُغلّبُ الحِسَّ الحيواني على الإنْساني، فلا نعْرِفُ مِن أيِّ فصيلةٍ يَنْحَدرُ فِي الغابة، أكيد أنَّهُ مِنْ سُلالة فرَس النَّهْر ولا يَمُتُّ بِبُحيْرةٍ لِلْبَجَعْ !

..................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 16 فبراير 2023.




1676572905872.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى