تقديم
قد يظنُّ ظانٌّ أو يتوهم متوهِّمٌ أن الكتابةَ عن الآخرين ضربٌ من التسلية، أو استعراضٌ لقدراتِ ومعارفِ كاتبِها، وقد يصل الظنُّ أقصاهُ فيحسَبُ الإنسانُ أن هؤلاءِ لا يجِدون موضوعاتٍ يكتبونها، غير أنَّ الأمرَ على نقيض ذلك تمامًا؛ فليست الكتابةُ عن الآخرين ترفًا وتسليةً واستعراضًا، لكنها – كما نراها – سَيرُ الإنسانِ حافيًا على أشواكِ الضمير، وجَمرِ الموضوعيةِ والحيادية، وعدالةِ موازينِ الكتابةِ والتأريخ. وأصعبُ من ذلك كلِّه أن تكتبَ عن أبيك، وتجتهدَ أن ترسُمَ صورته – كما كان – دونما مبالغةٍ ولا اختراع لمَا لم يكن موجودًا؛ فتقبضُ على قلمك مخافةَ أن يحيدَ عن تلكُم الموازين وأنتَ تتحدث عن قدوتكَ ومعلمكَ الأول.
إن تاريخ الإنسانية من أوائلها إلى حواضرِها –كما يقول الأستاذ العقاد- لا يملك للعاملين جزاءً غيرَ حسنِ التقدير، وصدقِ القياس لما عملوه.
ويكفي أن يُنسَبَ إلىٰ العظيم المثالي عملٌ من الأعمال التي لا يقدِرُ عليها غيرُه، ولا يسعىٰ إليها ليشعرَ هذا بالاختلاف والجفوة بينه وذلك العظيم المثالي، ثم يشعرَ بنوعٍ من القرابة والألفة بينه وبين خصمه، فيميلَ إلىٰ سماع الأحدوثة الحسنة عن هذا، ولا يميل إلى سماعها عن ذلك، ويضطره إلىٰ ذلك وقوفُه بين طريقين: أحدهما غريبٌ يصغره في نظر نفسه، والآخر مألوفٌ يطرقه كل يوم، أو يحب أن يطرقَه غيرَ ملومٍ بينه وبين دخيلته …
وفي رأينا أن إقدامَ صديقنا الدكتور سيد شعبان علىٰ كتابة تلك الصفحات من حياة أبيه المغفور له بإذن الله شعبان جادو – وإن كانت دفقاتٍ من نزفِ فؤادِه المكلومِ حزنًا علىٰ فراق أبيه – لهِي رسائلُ شكرٍ وعرفانٍ لمعلمه الأول الذي غرس فيه حبَّ الكتابة منذ نعومة أظفاره، وهذا جليٌّ في تلك الصورة التي لم يستطع الزمنُ محوَها من ذاكرة صديقنا " يهرول بي إلىٰ المدرسة، أكاد أتذكر الآن الأوراقَ الصفراءَ لم يتركها الخريفُ على الأغصان؛ هوىٰ بها إلى الأرض، جاءني طيفُه يطرُقُ علىٰ النافذة، أعطاني القلمَ الرصاصَ الذي اشتراه لي يومَ أن جاءَ بي إلى معلم الصف، يطلب مني أن أدوِّنَ صفحاتِ حياته"
لا غروَ أنه ليس حديثَ ابنٍ عن أبيه؛ إنما هو اعترافُ التلميذِ بفضل معلمه الأول عليه؛ يغلِّفُ هذا الحديثَ تلك العاطفةُ التي تظهر في كلِّ كلمةٍ من كلمات صديقنا، ولا يمكننا تجاوزَها بَلْهَ إغفالَها؛ فإن كلَّ حرفٍ سطَره الدكتور سيد شعبان لَشهيدٌ على مرارةِ الفقد وتحطمِ القلب، وما تلك الكلماتُ إلا ضربٌ من التعزية؛ إذ يشعر صاحبُنا أن في الكتابة عن أبيه نوعًا من المناجاة وشكوىٰ الأيام، وإنَّ اجترارَ الذكريات، وتذكُّرَ ما كان يفعله الراحلُ في بعض مواقف الحياة لنوعٌ من الحلول التي ينشدها صديقُنا الدكتور سيد، وكأني به –من خلال تلك الصفحات– يقول لأبيه الراحل: هَبْني سلاحَك الذي واجهتَ به الحياةَ فقد تحطمَتْ بعدَك يا أبي أسلحتي، وأثخنتني الجراح.
بين أيدي حضراتِ القراء صفحاتٌ من حياة الراحل شعبان جادو –طيَّبَ الله ثراه– تقدِّم نموذجًا للإنسان العصامي بكل ما تحمله الكلمةُ من معانٍ، وأبٍ لم يكن له من الحياة مطلبٌ إلا أن يرى غِراسَه ينمو ويؤتي أُكُلَه أمام ناظريه، وسوف تتبين – أيها القارئ – مكامنَ العظمة في تلك الشخصية الريفية التي تمثِّل صفاتٍ نعتز بها جميعا.
تلقَّينا تلك الصفحاتِ بإعجابٍ شديد؛ فهي سيرة رجلٍ عرفتُه من خلال ولده، فأعظِمْ بها من سيرة!! وفي تلك الصفحات بيانٌ لما يقدمه العظماءُ من وضعِ القواعد لحياة الأبناء، وإزالةِ كل العراقيل التي تمنع تقدمهم، ورسمٍ لمعالم المستقبل، سيرةٌ بقلم ابنٍ بارٍّ محبٍّ أراد أن يكشفَ عن جوانبِ العظمةِ في حياة أبيه غيرَ مُدَّعٍ ولا مبالغ، فلا غروَ أن يسيرَ سيرته، ويحذوَ حَذوَه، ويستعيرَ –في أغلب الأوقات– سلاحَه وهو يخوضُ معركةَ الحياة في عصرٍ تعزُّ فيه القدوة.
وحين يكتب صاحبُنا الدكتور سيد شعبان فإنه يُلقي بنا في عالمه السردي العجيب المعجِب؛ إذ يقدم وجبةً دسمةً من الموروث الديني والاجتماعي في أسلوبٍ بديعٍ، يضرب بجذوره في أعماقِ الفصاحة؛ بيد أنه قريبٌ جدًا من فهم العامة دون السقوطِ في لغتهم الدارجة، وهذا ما يميز أسلوبَه عن غيره؛ فللرجل معجمٌ لغويٌّ خاصٌّ يعرفه كلُّ من يطالعُ قصصَه، تعرفه العين والأذن، شأنه في ذلك شأنُ عظماءِ العربية مثل العقاد، والمازني، والرافعي، والزيات... وغيرِهم ممن يعرف القارئُ أسلوبَهم حين تقع عليه عينُه، أو تسمعه أذنه، وهو –في رأينا– ممن أحسَنوا تجسيدَ الريفِ بعاداته وتقاليده بنقاءِ وسذاجةِ قلوبِ أهله.
وصديقُنا –في حديثه عن أبيه – يستخدمُ ذلك النمطَ من الكتابة التي تسمَّىٰ الكتابة السيكولوجية، تلك التي تهدُفُ إلي تصويرِ الإنسان، والكشفِ عن أفكاره الكامنة في الوعي أو اللاوعي، وهذا نوعٌ من الكتابة التي تصل إلي المستوىٰ النفسي بيانًا لأمورٍ خفيةٍ بالنفس، ويقوم على نظرية التحليل النفسي وتطبيقِها على النتاج الأدبي.
ولا نريد أن نطيلَ على القارئ الكريم؛ بل نتركه مع عالَم الراحِل أبينا شعبان جادو، ونتركه مع تلك الصورِ واللوحاتِ التي رسمها ابنُه البارُّ صديقُنا الدكتور سيد شعبان، ونحن واثقون كلَّ الثقة أنكَ -أيهاالقارئ- ستجد في تلك الصفحات نموذجًا للرجلِ المصريِّ العصاميِّ الذي عرَكَتْه الحياةُ لكنه خرج من تلك الرحلة راضيًا كلَّ الرضا، وحسبُه أنه أنجَبَ أبناءً صالحين يدعُون له ويذكرونه، وسيجد فيها –أيضا– متعةَ السردِ وجمالَه.
عمرو الزيات
القاهرة: 3 / 6 / 2022
قد يظنُّ ظانٌّ أو يتوهم متوهِّمٌ أن الكتابةَ عن الآخرين ضربٌ من التسلية، أو استعراضٌ لقدراتِ ومعارفِ كاتبِها، وقد يصل الظنُّ أقصاهُ فيحسَبُ الإنسانُ أن هؤلاءِ لا يجِدون موضوعاتٍ يكتبونها، غير أنَّ الأمرَ على نقيض ذلك تمامًا؛ فليست الكتابةُ عن الآخرين ترفًا وتسليةً واستعراضًا، لكنها – كما نراها – سَيرُ الإنسانِ حافيًا على أشواكِ الضمير، وجَمرِ الموضوعيةِ والحيادية، وعدالةِ موازينِ الكتابةِ والتأريخ. وأصعبُ من ذلك كلِّه أن تكتبَ عن أبيك، وتجتهدَ أن ترسُمَ صورته – كما كان – دونما مبالغةٍ ولا اختراع لمَا لم يكن موجودًا؛ فتقبضُ على قلمك مخافةَ أن يحيدَ عن تلكُم الموازين وأنتَ تتحدث عن قدوتكَ ومعلمكَ الأول.
إن تاريخ الإنسانية من أوائلها إلى حواضرِها –كما يقول الأستاذ العقاد- لا يملك للعاملين جزاءً غيرَ حسنِ التقدير، وصدقِ القياس لما عملوه.
ويكفي أن يُنسَبَ إلىٰ العظيم المثالي عملٌ من الأعمال التي لا يقدِرُ عليها غيرُه، ولا يسعىٰ إليها ليشعرَ هذا بالاختلاف والجفوة بينه وذلك العظيم المثالي، ثم يشعرَ بنوعٍ من القرابة والألفة بينه وبين خصمه، فيميلَ إلىٰ سماع الأحدوثة الحسنة عن هذا، ولا يميل إلى سماعها عن ذلك، ويضطره إلىٰ ذلك وقوفُه بين طريقين: أحدهما غريبٌ يصغره في نظر نفسه، والآخر مألوفٌ يطرقه كل يوم، أو يحب أن يطرقَه غيرَ ملومٍ بينه وبين دخيلته …
وفي رأينا أن إقدامَ صديقنا الدكتور سيد شعبان علىٰ كتابة تلك الصفحات من حياة أبيه المغفور له بإذن الله شعبان جادو – وإن كانت دفقاتٍ من نزفِ فؤادِه المكلومِ حزنًا علىٰ فراق أبيه – لهِي رسائلُ شكرٍ وعرفانٍ لمعلمه الأول الذي غرس فيه حبَّ الكتابة منذ نعومة أظفاره، وهذا جليٌّ في تلك الصورة التي لم يستطع الزمنُ محوَها من ذاكرة صديقنا " يهرول بي إلىٰ المدرسة، أكاد أتذكر الآن الأوراقَ الصفراءَ لم يتركها الخريفُ على الأغصان؛ هوىٰ بها إلى الأرض، جاءني طيفُه يطرُقُ علىٰ النافذة، أعطاني القلمَ الرصاصَ الذي اشتراه لي يومَ أن جاءَ بي إلى معلم الصف، يطلب مني أن أدوِّنَ صفحاتِ حياته"
لا غروَ أنه ليس حديثَ ابنٍ عن أبيه؛ إنما هو اعترافُ التلميذِ بفضل معلمه الأول عليه؛ يغلِّفُ هذا الحديثَ تلك العاطفةُ التي تظهر في كلِّ كلمةٍ من كلمات صديقنا، ولا يمكننا تجاوزَها بَلْهَ إغفالَها؛ فإن كلَّ حرفٍ سطَره الدكتور سيد شعبان لَشهيدٌ على مرارةِ الفقد وتحطمِ القلب، وما تلك الكلماتُ إلا ضربٌ من التعزية؛ إذ يشعر صاحبُنا أن في الكتابة عن أبيه نوعًا من المناجاة وشكوىٰ الأيام، وإنَّ اجترارَ الذكريات، وتذكُّرَ ما كان يفعله الراحلُ في بعض مواقف الحياة لنوعٌ من الحلول التي ينشدها صديقُنا الدكتور سيد، وكأني به –من خلال تلك الصفحات– يقول لأبيه الراحل: هَبْني سلاحَك الذي واجهتَ به الحياةَ فقد تحطمَتْ بعدَك يا أبي أسلحتي، وأثخنتني الجراح.
بين أيدي حضراتِ القراء صفحاتٌ من حياة الراحل شعبان جادو –طيَّبَ الله ثراه– تقدِّم نموذجًا للإنسان العصامي بكل ما تحمله الكلمةُ من معانٍ، وأبٍ لم يكن له من الحياة مطلبٌ إلا أن يرى غِراسَه ينمو ويؤتي أُكُلَه أمام ناظريه، وسوف تتبين – أيها القارئ – مكامنَ العظمة في تلك الشخصية الريفية التي تمثِّل صفاتٍ نعتز بها جميعا.
تلقَّينا تلك الصفحاتِ بإعجابٍ شديد؛ فهي سيرة رجلٍ عرفتُه من خلال ولده، فأعظِمْ بها من سيرة!! وفي تلك الصفحات بيانٌ لما يقدمه العظماءُ من وضعِ القواعد لحياة الأبناء، وإزالةِ كل العراقيل التي تمنع تقدمهم، ورسمٍ لمعالم المستقبل، سيرةٌ بقلم ابنٍ بارٍّ محبٍّ أراد أن يكشفَ عن جوانبِ العظمةِ في حياة أبيه غيرَ مُدَّعٍ ولا مبالغ، فلا غروَ أن يسيرَ سيرته، ويحذوَ حَذوَه، ويستعيرَ –في أغلب الأوقات– سلاحَه وهو يخوضُ معركةَ الحياة في عصرٍ تعزُّ فيه القدوة.
وحين يكتب صاحبُنا الدكتور سيد شعبان فإنه يُلقي بنا في عالمه السردي العجيب المعجِب؛ إذ يقدم وجبةً دسمةً من الموروث الديني والاجتماعي في أسلوبٍ بديعٍ، يضرب بجذوره في أعماقِ الفصاحة؛ بيد أنه قريبٌ جدًا من فهم العامة دون السقوطِ في لغتهم الدارجة، وهذا ما يميز أسلوبَه عن غيره؛ فللرجل معجمٌ لغويٌّ خاصٌّ يعرفه كلُّ من يطالعُ قصصَه، تعرفه العين والأذن، شأنه في ذلك شأنُ عظماءِ العربية مثل العقاد، والمازني، والرافعي، والزيات... وغيرِهم ممن يعرف القارئُ أسلوبَهم حين تقع عليه عينُه، أو تسمعه أذنه، وهو –في رأينا– ممن أحسَنوا تجسيدَ الريفِ بعاداته وتقاليده بنقاءِ وسذاجةِ قلوبِ أهله.
وصديقُنا –في حديثه عن أبيه – يستخدمُ ذلك النمطَ من الكتابة التي تسمَّىٰ الكتابة السيكولوجية، تلك التي تهدُفُ إلي تصويرِ الإنسان، والكشفِ عن أفكاره الكامنة في الوعي أو اللاوعي، وهذا نوعٌ من الكتابة التي تصل إلي المستوىٰ النفسي بيانًا لأمورٍ خفيةٍ بالنفس، ويقوم على نظرية التحليل النفسي وتطبيقِها على النتاج الأدبي.
ولا نريد أن نطيلَ على القارئ الكريم؛ بل نتركه مع عالَم الراحِل أبينا شعبان جادو، ونتركه مع تلك الصورِ واللوحاتِ التي رسمها ابنُه البارُّ صديقُنا الدكتور سيد شعبان، ونحن واثقون كلَّ الثقة أنكَ -أيهاالقارئ- ستجد في تلك الصفحات نموذجًا للرجلِ المصريِّ العصاميِّ الذي عرَكَتْه الحياةُ لكنه خرج من تلك الرحلة راضيًا كلَّ الرضا، وحسبُه أنه أنجَبَ أبناءً صالحين يدعُون له ويذكرونه، وسيجد فيها –أيضا– متعةَ السردِ وجمالَه.
عمرو الزيات
القاهرة: 3 / 6 / 2022