محمود سلطان - أمل دنقل.. "نصفُ نبيٍّ".. والنصفُ الاخر "بلا سقف"

كدتُ أصدق بعضَ الآراء، التي أكدتْ ـ بالتواتر ـ أن "أمل دنقل"، كتب رائعته الخالدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، قبيل هزيمة يونيو 67 المدوية.
في بداية الأمر، رجحت هذا الكلام، ولعل ذلك يرجع إلى أنه ـ رحمه الله ـ شاعرٌ "استشرافيٌ". وإذا كان البعضُ يصف الشاعر ـ أي شاعر ـ بأنه "نصفُ نبيِّ".. فإن هذا الوصف لا ينسحب على أيٍ منهم، لا من "السلف" ولا من "الخلف".. الذي يمكنه أن يفوز بهذا الوصف، هو أمل دنقل "وحده لا يشاطره فيه أحد"!!
أمل.. توفي شابًا ـ 43 عاما ـ يوم 21 مايو 1983، في الغرفة رقم "8" بالمعهد القومي للأورام، قضى فيها أربع سنوات، تحت زخات الكيميائي وقسوته.. متحديا المرض اللعين والمتوحش، بكتابة الشعر، حتى فاضت روحه إلى بارئها، وأجمل ما قرأت عن سيرته ومأساته وصلابته، ما قاله الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي :" إنه صراعٌ بين متكافئين، الموت والشعر"!.

مر 40 عاما على وفاته، ولكن شعره ظلَّ كـ"النبوءة" الموصولة بـ"الوحي".. بين يدي زرقاء اليمامة.. يتوقع كل السيناريوهات المخزية لهذه المنطقة البائسة والمحطمة من العالم.
مع "الدعبسة".. عثرتُ على جزءٍ من حوارٍ لـ"أمل".. في مجلة "البيان" نشرتْ "الدستور" في 23 يونيو 2020 بعضا منه، روى فيه ـ بنفسه ـ قصة قصيدته التي كان يرددها المتظاهرون في الشوارع..
يقول أمل دنقل: كتبت "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" عقب النكسة مباشرة 1967 فقد کنا ذات ليلة أنا والصديق علي سالم المؤلف المسرحي ساهرين في القاهرة المظلمة في ذلك الوقت، وكنت متوقعًا منذ اليوم الثاني، عندما لم أجد أخبارا من معارك الطيران، أن ما دبر في 1956 من ضرب الطيران المصري على الأرض بواسطة الطيران الفرنسي والإنجليزي تحقق هذه المرة أيضا، والا كنا قد سمعنا عن معارك جوية بين طائراتنا وطائرات إسرائيل وقلت هذا الكلام لكثيرين – أذكر من بينهم الصديق رجاء النقاش - ولكنهم لم يصدقوا فآثرت الصمت، وعندما خرجنا أنا وعلي سالم، كنت أناقشه فيما يمكن أن يحدث بعد ذلك".
وواصل: "ذهبنا الى منزل الأستاذ ابراهيم رجب الملحن وتحدثنا فيما يمكن ان يحدث لو دخل الإسرائيليون القاهرة، لأن هذا الاحتمال كان قائمًا، كيف يمكن أن تغتصب النساء أمام عيوننا وتجميعنا في معسكرات اعتقال، ورؤية الجنود الإسرائيليين يمشون في شوارع القاهرة حاملين سلاحهم، هذه الرؤية أصابتني بالذعر".
وتابع دنقل: "خرجنا أنا وليلتها كتب علي سالم مسرحية "أغنية على الممر"، التي تحولت إلى فيلم سينمائي أيضًا، وذهبت إلى منزلي وكتبت قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" ولم تنشر في حينها بسبب المقاطع التي تتحدث عن غياب الحرية" انتهى
المدهش.. أن "أمل" كتبها على شعر "التفعيلة.. وعلى ذات البحر الذي كتب عليه نزار قباني قصيدتيه " هوامش على دفتر النكسة" و"أصبح عندي الآن بندقية" .. هو بحر "الرجز".. الأقرب إلى النثر.. وتدوين الوقائع والرسائل العلمية مثل "النحو العربي" في "ألفية ابن مالك":
ومطلعها:
أيتها العرافة المقدَّسهْ
وتفعيلاته: (مُسْتَعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ)
جئتُ إليك .. مثخناً بالطعنات والدماءْ
وتفعيلاته: (مُسْتَعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ مُسْتَعِلُنْ متفعلْنْ)
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسه
وتفعيلاته (مُسْتَعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ)

أمل.. ببراعة فضّل "تسكين" آخر الشطر.. "مقدسهْ" .. "الدماءْ".. وهو تسكين دلالي "وكأن على رؤوس العرب الطير".. جمع فيه بين الحسنيين: الالتزام "العروضي/البحر".. واستدعاء هيبة الصورة ورمزيتها التي تناسب المشهد بكامل مكوناته الحسابية: المقدمات "السكون/التخلف ومصادرة الحريات" والنتائج "الهزيمة بكل مفرداتها الدالة من جثث مكدسة.. وما بعدها من تفاصيل مروعة"
وعلى ذلك بقية القصيدة:

أيتها العَّرافة المقدسة ..
ماذا تفيد الكلمات البائسة ؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار !
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار ..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار !
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف : قايضوا بنا ..
والتمسوا النجاةَ والفرار !
ونحن جرحى القلبِ ،
جرحى الروحِ والفم .
لم يبق إلا الموتُ ..
والحطامُ ..
والدمارْ ..
وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ
ونسوةٌ يسقن في سلاسل الأسرِ،
وفي ثياب العارْ
مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات الناعسة !
ها أنت يا زرقاءْ
وحيدةٌ ... عمياءْ !
وما تزال أغنياتُ الحبِّ .. والأضواءْ
والعرباتُ الفارهاتُ .. والأزياءْ !
فأين أخفي وجهيَ المُشَوَّها
كي لا أعكِّر الصفاء .. الأبله.. المموَّها.
في أعين الرجال والنساءْ !؟
وأنت يا زرقاء ..
وحيدة .. عمياء !
وحيدة .. عمياء !

نلاحظ أيضا.. النص تقريري.. او مقالي لكن كُتب له الخلود بين الأجيال المتعاقبة.
لأن "شهادة الضمان" للجماهيرية التي لا يعرفها كثير من الشعراء الاحتياليين: هي رسالة القصيدة وحمولتها من الهَمِّ العام والقضايا الكبرى.
رحمه الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى