محمود سلطان - صباح الخير يا عمان.. نزار قباني.. وحسن جلنبو

الصخب والطبل الفارغ، ونفخ "البوتكس"، لمئات الشعراء، على السوشيال ميديا، التي تشبه علبة مكياج "تقفيل صيني".. خلفت "شوشرة" و"ضجيجا" ما انفك يخصم من حضور الأصوات الشعرية "الأصلية"، غير المحقونة بالهرمونات في حضانات نُقّاد "عَربَات الكُشَري" ـ على حد تعبير صديقنا الإعلامي د. تهامي منتصر.
وسط هذا الزحام والفوضى، استطاع الشاعر العربي الأردني الأستاذ حسن جلنبو، أن يُلفت انتباه "الذَّوّاقة" سواء في عاصمته "عمان" أو في عواصم ومدن عربية أخرى.
ولعل ما لفت انتباهي إليه، إحساسي بأننا ـ أنا وهو ـ ريحانتان تُسقيان من "إبريقٍ" أندلسي واحد، وتعبقان بذات العطر "الدمشقي".. تلك الخلطة التي انفرد بها منسق البساتين وزارع الياسمين العربي ابن توفيق قباني "نزار" رحمه الله. وإن كان لكلٍ منا هويته وجيناته الخاصة.
في ديوانه الأخير "وشهد شاهد من أهله" الصادر عن وزارة الثقافة الأردنية، طبعة 2021، وجدتني عند تقاطع ألف طريق، وكل طريق..ملفوفة أطرافه بلفائف سوليفان الورد : ليلك، بنفسج، زنابق، أرجوان، وأركيد.. " حَدَائِقَ غُلْبًا".
وقعت عيني على قصيدة "صباح الخير يا عمان".. فانتقيتها من بين 41 ورده/قصيدة.. لعل ذلك يرجع إلى أنها ذكرتني برائعة نزار قباني "صباح الخير يا حلوة" التي كتبها لأمه "فايزة".. والمدهش أيضا أن القصيدتين: الأولى/حسن جلنبو.. والثانية/ نزار قباني.. على بحر واحد، وهو بحر "الوافر".
والوافر "التام" صيغته:
مُفَاعَلَتُنْ مُفَاعَلَتُنْ فَعُولُنْ مُفَاعَلَتُنْ مُفَاعَلَتُنْ فَعُولُنْ.
ويجوز "مُفُاعِلْتُن" عوضا عن "مُفَاعَلَتُنْ"
لكن يتعين الإشارة إلى أن القصيدتين كتبتا على شعر التفعيلة.. وشعراء التفعيلة عادة لا يستخدمون "تفعيلة القافية / فعُولُنْ" ويكتبون على التفعيلات الأصلية للبحر.. (مُفُاعِلْتُن و مُفَاعَلَتُنْ) وعلى هذا كتب نزار وجلنبو.
وعادة ما أشعر بأن هذا البحر ـ "الوافر" ـ هو بحرُ "الحنان" و"الطبطة" ويبدو لي أن الأول "نزار" والثاني "جلنبو" كتبا عليه، لروحه الدافئة والحانية
يقول نزار لأمه :
صباح الخير يا حلوهْ..
(مُفَاعَلْتُنْ مُفَاعَلْتُنْ)
صباح الخير يا قدّيستي الحلوهْ
(مُفَاعَلْتُنْ مُفَاعَلْتُنْ مُفَاعَلْتُنْ )
مضى عامان يا أمي
على الولد الذي أبحر
برحلته الخرافيّه
وخبأ في حقائبه
صباح بلاده الأخضر
وأنجمها، وأنهرها، وكل شقيقها الأحمر
وخبّأ في ملابسه
طرابيناً من النعناع والزعتر
وليلكةً دمشقيّة..

عرفت نساء أوروبا..
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب..
وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر
ولم أعثر..
على امرأة تمشّط شعري الأشقر
وتحمل في حقيبتها..
إليّ عرائس السكر
وتكسوني إذا أعرى
وتنشلني إذا أعثر
أيا أمي.. أيا أمي..
أنا الولد الذي أبحر
ولا زالت بخاطره
تعيش عروسة السكر
فكيف.. فكيف يا أمي
غدوت أباً.. ولم أكبر؟

في مقدمة ديوانه كتب حسن جلنبو قصيدة قصيرة ـ الإهداء ـ أيضا على بحر "الوافر"..
تأملوا معي "الحنان" المتدفق واليد الحانية لـ"البحر/الوافر" في طبطبته على شاعرنا المتعب بتشظيه بين "غربتين": شرق يحنو عليه (يحمله على الكتفين).. وغرب محشور بين (الدمع والعين)، وهذا من أجمل وأرق وأعمق ما قرأت شعرا عن الغربة والوطن حين يجمعهما قلبٌ واحدٌ.. وما أجمل قلبك يا صديقي

إلى وطني
الذي ما انفكَّ يقسمني إلى شطرين:
شرقيّ يعانقني إذا ضاقتَ بيَ الدنيا
فيحملني على الكتفين.
وغربيّ يؤرقني إذا ما جئتُ أبحث عنه
بين الدمع والعينين

وفي حين يعوم "نزار" كعادته فوق سطح القصيدة بملابس المفردات المزركشة بكل شياكتها وأناقتها.. فإن حسن جلنبو "غوَّاص" في لآلئ المعاني متبتلا وممارسا لطقوس الحلول "الصوفي" فيها، فتبدو القصيدة كـ"درويش" يضج بالهدوء والحكمة.
وأتركم الآن مع رائعة جلنبو "صباح الخير يا عمان" على بحر "الوافر":

صباح الخير يا عمانْ.
انا ذاك الفتى الأسمرْ.
أنا المسكونُ بالـ "طابون"
بالمنقوشةِ المحروقةِ الأطرافِ
بالزيتونِ والزعترْ
فهل ما زال تذكرني جذوعُ التوتِ
كنتُ أهشّها لأبي
وألهو في التقاطِ الفجرِ من حبّاتها
أزهو وأرشفُ خدّها السُّكّرْ.
كأني بعدُ لم أكبرْ.

أنا الولد الذي ما زال يحبو فوق أدراجك
تعلّق فيك مثل الخيط بالطيارة الورق
وسافر في بلاد الله
يبحث عن بقايا النور
قبل تفاقُم الشَّقَقِ
ولكن لم يزل يرنو
إلى ذاك الفتى الأسمرْ
يحنّ إليه يحمله على النزق
يراوده عن الأحلام والآمال
عن طيّارة الورق
كأنه بعدُ لم يكبر.

أنا الولد الذي أهداه موج البحر أغنيّة
فأبحر في موانيها
وأنشدها مع الغرباءِ
ملء "الميجنا والأوفْ".
وعاد إليكِ يبحث عن فتىً أسمرْ
يداعبُ قبل أن يغفو نجومَ الليلِ
يَجْدِلُها على كتفِ الهوى
عقدا من الريحان والحبقِ.
كأنه بعد لم يكبر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى