د. محمد عبدالله القواسمة - الزلازل جدل السياسي والإنساني 2/2

لقد ظهر الترابط بين السياسي والإنساني في الحكم الراشدي، ففي وصيّة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أسامة بن زيد رضي الله عنه عندما توجه إلى محاربة الرّوم عام634 م قواعد إنسانية تمثل اتفاقية مصغّرة منذ القرن السابع الميلادي، تحتوي القواعد الإنسانية في حالات الحروب. يقول الصديق فيها: "لا تخونوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيراً أو شيخاً كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نحلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له"

وقد أثرت الفلسفة اليونانية في نظرة المسلمين إلى ترابط السياسة بالإنسانية؛ فقد ارتبط بحث السياسة بمفهوم السعادة وقيامها على الفضيلة، التي كانت محور فلسفة سقراط "المعرفة فضيلة والجهل رذيلة"، كما كانت عند أفلاطون ثم أرسطو الذي رأى السياسة فرعًا عن الأخلاق، وبين أنّ وظيفة الدّولة الأساسيّة نشر الفضيلة وتربية المواطن عليها.

وجاء من بعد هؤلاء الفيلسوف الألماني إيمانويل "كانط"؛ ورأى بأن السّياسة تتطلب بأن يعامل الإنسان بوصفه غاية في ذاته، ومن الضرورة تغليب الأخلاق في الأعمال السّياسية .

ولكن لاحظنا المفكّر الإيطالي نيكولا ميكافيللي في كتابه "الأمير" الذي نشر بعد وفاته عام 1532م، يفصل بين ما هو سياسي وما هو إنساني، ويعد الأخلاق مضرّة بالسّياسة، وأنّ الالتزام الأخلاقيّ يعرقل النّجاح، وأنَّ الدّول تنهار حين تعتمد على الأخلاق، وعلى الحاكم أن يكون شعاره "الغاية تبرر الوسيلة والضرورة لا تعترف بالقانون "، وأن يهمل القيم الدينية والأخلاقية، ورأى أن من الفضائل ما يسقط حكمه ومن الرذائل ما يجعل حكمه مزدهرًا.

وجاء بعد ذلك نيتشه الذي اعتمد عليه هتلر في مجازره ليؤكّد عدم وجود علاقة بين السّياسة والإنسانية فلا مبادئ ولا أخلاق للسياسة، والحاكم الأخلاقي سياسيّ فاشل لا يبقى في الحكم.

إذا كنا نرى عدم فصل ما هو سياسي عما هو إنساني، فكيف نعلل تقديم السياسيين الخدمات الإنسانية إلى خصومهم، كما جرى في تقديم المساعدات إلى الأطراف المتضررة من الزلازل في سوريا وتركيا؟

إن هؤلاء السياسيين في أعمالهم الإنسانية كما أرى لا تخرج عن فهمهم للسياسة؛ فهم يتصرفون وفق مصالحهم ومنفعتهم، وما يتفق مع قوانينهم ومبادئهم، ولا يخرجون عنها مطلقًا. وأعمالهم كلها تكون ضمن خططهم لبسط هيمنتهم وسلطتهم. هكذا ظهر ما فعله قابيل بأخيه هابيل. فقد مارس القتل في البدء، ثم دفن أخاه ولم يتركه على الأرض. وكلتا العمليتين: القتل والدفن، تحققت فيهما سياسة قابيل التي تكمن فيها مصلحته ومنفعته وإرضاء نفسه وتحقيق سعادته الخاصة.

ولعل أقبح صورة يتبين فيها الجمع بين الشر والخير لتكون سياسة معادية في كليتها للإنسانية ما يجري في الأرض الفلسطينية المحتلة. فدولة الاحتلال تسيطر على المياه سيطرة تامة، وتتصرف بها وفق سياستها الظالمة. كما نراها تفتح المعابر وتغلقها، وتزيل الحواجز في الطرقات وتضعها، وتمد الناس بالكهرباء وتقطعها. إنها تقدم الخدمات الإنسانية للناس متى شاءت. ثم تضربهم بالرصاص والقنابل، وتهدم البيوت، وتطرد السكان من أرضهم. وهذه الأعمال تخضع للسياسة الإسرائيلية، أي لقوانين الاحتلال وخططه المستقبلية. إنها سياسة ممنهجة للسيطرة النهائية على الأرض وطرد الفلسطينيين منها.

لا شك أن السياسة التي تغيب فيها القيم الإنسانية السامية والأخلاق الرفيعة سياسة ظالمة متهورة، تتدهور فيها حياة الناس، وينتشر بينهم الفقر، والعنف والكراهية. أما السياسة التي تنجح في تحقيق العدالة والمساواة والحرية وإشاعة الاحترام والإحساس بالكرامة بين أفراد الشعب سياسة عادلة مستقرة، لا تنفصل عن الأخلاق الفاضلة والتعاطف الإنساني، وتعتمد على حب الإنسان والطبيعة. كما تتصف بالحرص على النفس الإنسانية، وتعلي من شأن الإنسان، وتعمل على تقدمه ورفعته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى