محمد بشكار - أنَا لا أحَد!

قد نُتَّهَمُ بجُرعة زائدة في التَّشاؤم، ويعتقد البعض أنَّنا نشْربُها سوداء دون سُكَّر، ولكن المظاهر الواقعية للثقافة غربالٌ بثقوبٍ واسعة لا تحْجب الشّمس، ولنا أن نتساءل من يُنْتج الثقافة اليوم، ولستُ أحْصُرها في الشِّق الفكري أو الأدبي أو الفني فقط، إنّما في كل أشْكالها التعبيرية التي تُجسِّد طرائق عيشنا في الحياة، من يُنتج اليوم هذه الثقافة، هل الإنسان أم أنَّ مصيرها انتقل مع انفجار الثورة الرقمية إلى عقلٍ أكثر اتِّساعاً واستيعابا اسمه الآلة، هل الفرد من يسيطر على تدفُّقها أم هي التي تُخْضِع تفكيره لِسيْلها العارِم، فلا يعرف أي السُّبل يتبع بعد أن تشوش الذهن بتضارب الأفكار، ولكنه في كل الأحول سواء اختار القبعات أو العمائم، سيكون ضحية أشرار يجْنُون من مُشاهداته الدولار، هو وغيره من المُبدِّرين للوقت في انتظار الموت !

الأمر مع جاذبية التِّقنية وسِحْرها الآسر، أشبه بعَمُود كهرباء وحيد ما زال سليم المصباح في حَيٍّ كبير، جميع السكان يهتَدون بنوره في العتمة الحالكة، ودون الضَّوء المُنْبعِث من بعيد لا يستطيع الفرد تحْديد موقعه في المنطقة، بركاتك أيتها البوصلة الإلكترونية (جي بي إس)، وما هذا العَمُود الكهربائي الوحيد السّاطع ليلَ نَهَار في عتْمة الحَيِّ، سِوى مَثلٍ مُصَغَّر عنْ اتِّقاد كل الهواتف والحواسيب الموصولة بالعالم الافتراضي، لقد أصْبح العَمُود الكهربائي بوْصلةً للبصيرة والبصر، وكما يسْتأثر باهتمام البشر، يمكن أيضا أن يجذب فَرَاش وهَوام الليل، هو الثقافة التي تُمثِّلُ التَّطَابُقية الوجودية كما وصفها هيغل بأبْلغ الصُّور في كتابه "فينومينولوجيا الروح"، يبدو أنَّ هيغل محظوظٌ، لأنَّ البون شاسعٌ بين أن تتحدث عن الوعي الثقافي من وجهة نظرية واستشرافية فقط، وبين أنْ تخْتَبر بقوَّة أو قسوة التَّجْربة أزْمتَها على أرض الواقع، أنْ تَسْتشعر ضَيْق أفقها وهي تخْنُق مع الأنفاس حرية التفكير، لتغدو كل الرؤوس مُتطابِقة في عقليةٍ واحدة، وما عليك إلا الإقرار أملا في بعض السَّلامة النفسية، أنَّك لا أحد في غمْرة هذا التشابُه القاسي، ألمْ تقُلْها الشاعرة الأمريكية "إيميلي ديكنسون" التي عاشت مغمورة، وذلك مصير شعرائنا الحقيقيين الذين يعيشون اليوم غرباء مدفونين في المطمورة، قالت إيميلي:"أنا لا أحد! وأنتَ من تكون؟ هل أنت أيضًا، لا أحد ؟
وإذًا فثمَّة اثنان منّا، إيّاكَ أن تُخْبر أحدا!
وإلا ألقوا بنا في المنفى- كما تعلم.
كم هو موحشٌ وكئيبٌ أنْ تكون شخصا ما.
كم هو شعبيٌّ وعموميٌّ ومُشاع، مثل ضفدع.
أن أناديك باسمك اليومَ بطُولِه
في ذلك المستنقع البديع " .(ترجمة: فاطمة ناعوت).
الجميع يقرأ على الهاتف المحْمُول نفْس الخبر العاجل في ذات اللحظة، يُشاهد نفس الفيديوهات؛ طبخ، فضائح، أدعية دينية، رقص، كوارث، وصفات طبية، أسرار منزلية..إلخ، الجميع يقْتَني نفْس الوجبة أو اللباس عبر الأنترنيت (ديليفري)، يسْتقي ذات المَرْجع وهو يُحمِّل كتاباً (بي دي اف)، وغداً تجده مَسلوخاً بحذافيره وحوافره أيْضاً في أطروحة دكتوراه، جميع المُتمَدْرِسين يسْتهلكون ذات المناهج الوزارية مِمَّا يَمْنع حقَّ الاختلاف سواء في الطَّرْح أو السُّؤال، وكل الشَّرائح الاجتماعية تتهافتُ بعد أن انقصم ظهْر الطَّبقة المُتوسطة، للسَّكن في نفس التَّصاميم المعمارية التي تحْجُب الأفُق، تكاد تلك الإقامات المُمْتدة في سلاسل إسمنتية مُتشابهة، تبدو كسلاحف مُنْطوية تحت سقوف القواقع غير المُقاومة للزلازل، ذلك ما سَمَّاه هيغل الإدراك الكلي للأشياء، لقد أصْبح إنتاج الثقافة يَخْضع لمنطق السُّوق، يُحقِّق لجيوب مُروِّجيه في صِيغٍ تجارية يسيرة الهضم سيلاً من الأرباح، ولكن هذه الصِّناعة الثقافية المغْشُوشة، لا تخلو للأسف من مرامي إيديولوجية، وهذا هو الأخطر، فهي بضحالة حُمُولتها المعرفية التي تهدف لتزْجِية الوقت، تُدجِّن العقول حتى لا تتجاوز في التفكير بطنها كأي حيوان في الإسطبل، أو لم ترَ كيف اكتملت صناعة هذا البشر بمواصفات مسلوبة الإرادة، يكفي أنْ تُرهِف الآذان قصيرة كانت أو طويلة حسب عوامل الطبيعة والبيئة، لتسْمع أحد أنْكر الأصوات، لا أعرف عَمَّن تَصْدُر ولكنَّها حتْماً لأحد تلك القُطْعان الذين تحقَّقت بزمنهم نبوءة "محمد جسوس" ، وسواء كنتَ الفريسة أو الصَّياد فأنت لا أحد مع جيل الضِّباع !
.................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 23 فبراير 2023.



1677229376652.png




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى