شفشاون مسقط رأسي وموطن الآباء والأجداد ومدفن الوالدين رحمهما الله . كنتُ فيما مضى أجدها فضاء مفعماً بالجمال الطبيعي والإنساني وبالأجواء الروحية والبساطة والقناعة والبركة. لي ذكريات جميلة رفقة أبناء أعمامي في مرحلة الطفولة والصبا لدى كل زيارة لها من تطوان، حيث انتقلتِ العائلة ُ إليها وأنا بَعْدُ رضيع. أنا الآن لا أزورها إلا نادرا لأداء واجبات عائلية، لا لفتور حبي إياها، فالأم لا يفتر حب المرء لها ، بل يزيد اتقاداً كلما أجبرتنا الظروف على فراقها والابتعاد عنها ، ويشتد الحنين إلى حضنها الحنون . الحب باق لا يزول ، بل حب مدينتي هو الذي يجعلني أتوق إلى أن تكون: ابنة غرناطة في جمال معمارها ، وحُسنِ نظامها، وجمالِ ورودها المطلة من شرفات البيوت بهاماتِها المتعددة الألوان والأشكال، وأن تكون شقيقيةَ مدينة "ميخاس" التي تَصلُ إليها عبر منعرجات مرتفعة شبيهة بالمنعرجات المؤدية إلى مدينتنا، لكنك حين تصل إليها وتنزل من الباص ، تجدُ نفسك في ساحة فسيحة نظيفة محاطة بمتاجر تبيع تذكارات متنوعة لمناظر وأماكن تاريخية عرفت بها المدينة ، وبحيوان أليف خدوم لطالما تغني به وبجماله ووداعته الأدباء ، ومنهم الأديب الشاعر الإسباني الشهير (خوان رامون خيمينيث ) في كتابه الذائع الصيت : " حماري وأنا "، ناهيك عن وسائل الراحة التي توفرها بلدية المدينة لزائريها، فالزائرون العَجَزة المُرهَقون، يُمكن أن يستقِّلوا مصعداُ كهربائيا رحباً، يَصْعدُ بهم إلى المدينةِ العُلْيا , وكمْ أودُّ أن تكون مدينتي أيضاً، صديقةً لمدينة "روندا" المطِّلة من الأعالي الباسقَة على جبلِ طارق، مذكرةً إيانا بأمجاد رجالات مرُّوا من هنالك : طريفة وطارق وابن تاشفين .. أما شاعر" روندا" الكبير صالح بن يزيد الرُّندي، فقد صادفتُه وأنا بينَ صُخور الجبل المطلِّ على البحر بزيه الغريب ، يُنشِدُ قصيدته:
لكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ
وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ
ويبدو أن الشاعر الرُّنْدي الذي يبكي مدينتَه وأندلسَه ، كان مُحقاً فيما أنشده، فقانون التغيرُّ وتبدلُ الأحوال يَطول البشرَ والحجرَ في كل زمان وفي كل مكان.
لم تعدْ مدينتي شفشاون التي عرفتُها في الزمن الجميل. تغيرَ شكلُها ومضمونُها. لونُها الأصلي الذي تركَه عليها أجدادُنا النَّازحون من الأندلس. لون بني، وسطوح منازلها من القراميد البنية اللون أيضا. لا علاقة لمدينتنا باللون الأزرق. وصفُ شفشاون بالمدينة الزرقاء غيرُ صحيح. رأس الماء المعروفة به هذه المدينة العريقة ، والذي لا تُذْكرُ إلا ويُذكر معها، كانت مياهُه متدفقةً كلَّ فصول السنة، حتى في فصل الصيف. كان رأس الماء والفضاء المحيط به مثالا للطبيعة البِكر والغاب "اليوتوبيا ّ التي تغنى بها شعراء المهجر ، وملاذا للمتعبين من ضجيج المدن ، يجدون في خرير مياهه وأفياء أشجاره راحتهم ونعيماً حقيقياً على الأرض. لقد تحولَ هذا المكان إلى فضاءٍ للمقاهي التي حلتْ محلَّ البقاع الخضراء والأراضي البِكر المواجهة للجبل الشامخ الذي يطل من أحد سفوحه (أبو العصافير). التحولُ الذي طال هذه المدينة الجميلة ، تحولٌ في كل شيء، وأهمه القيم ، فلم تعد ثمة إلا قيم الابتذال التي لم تكن تعرفها :جشع وغش ومكر وخداع وسيادة علاقات تقوم على الانتهاز والربح السريع والاتجار القائم على الغبن والغش في المجالات التجارية والمرافق السياحية. أين ذهبت بركة أوليائها الصالحين وإشعاع مساجدها وزواياها التي تمتلئ بها المدينة ؟ . لقد كانت شفشاون أكثر اتساعا من الدار البيضاء كما قال أحد حكماء المدينة الشعبيين. وكانت وطاء الحمام أوسعَ من أكبر ساحة فيها. ثمة معالم انعكست في الوجدان في مرحلة طفولتنا وصبانا محتها يد التغيير والهدم. أين الرَّحى المائية الجميلة البسيطة بالصَبَّانين القريبةِ من بيت عمنا الرجل الطيب الوقور سيدي الحَسَن التهامي العلمي رحمه الله.. ؟ كانت تلك الرحى أيام صبانا تحفةً فنيةً ، ومصدراً للرزق وتمكينِ السكانِ من طحن حبوبهم التي كنا فيما بعد نراها وقد صارت بعد الطحن والعجن بأيادي الأمهات الكريمة ، خبزا محمَّرا يتصاعد منه البخار لخروجه توا من الفرن القريب من سور القنطرة القصير، وقد حملته أيادي صغيرة لأطفال وطفلات الحومة. ما أشد حنيننا إلى هذا الفضاء الجميل ، وهذه الأجواءُ الحميمية التي عدنا نفتقر إليها في توأم مدينة غرناطة الأندلسية. من حقنا أن نستعيد ذكرياتِنا فيها، ونعبرَ عن حنيننا إلى ماضيها الحضاري العريق. إننا نؤمن بالتطور والتحولات التي تطرأ على الأماكن عبر الزمن ، لكننا نتساءل : لماذا لا يكون هذا التطور وهذه التحولات إلى الأفضل والأجمل كما نرى في مدن مثلها في أقطار أخرى ، وبعضها ليس ببعيد عنا، لا يفصلنا عنه إلا بضعة كيلومترات في البحر ؟
عن جريدة " الشمال " ، عدد يوم السبت 25 فبراير 2023 .
لكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ
وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ
ويبدو أن الشاعر الرُّنْدي الذي يبكي مدينتَه وأندلسَه ، كان مُحقاً فيما أنشده، فقانون التغيرُّ وتبدلُ الأحوال يَطول البشرَ والحجرَ في كل زمان وفي كل مكان.
لم تعدْ مدينتي شفشاون التي عرفتُها في الزمن الجميل. تغيرَ شكلُها ومضمونُها. لونُها الأصلي الذي تركَه عليها أجدادُنا النَّازحون من الأندلس. لون بني، وسطوح منازلها من القراميد البنية اللون أيضا. لا علاقة لمدينتنا باللون الأزرق. وصفُ شفشاون بالمدينة الزرقاء غيرُ صحيح. رأس الماء المعروفة به هذه المدينة العريقة ، والذي لا تُذْكرُ إلا ويُذكر معها، كانت مياهُه متدفقةً كلَّ فصول السنة، حتى في فصل الصيف. كان رأس الماء والفضاء المحيط به مثالا للطبيعة البِكر والغاب "اليوتوبيا ّ التي تغنى بها شعراء المهجر ، وملاذا للمتعبين من ضجيج المدن ، يجدون في خرير مياهه وأفياء أشجاره راحتهم ونعيماً حقيقياً على الأرض. لقد تحولَ هذا المكان إلى فضاءٍ للمقاهي التي حلتْ محلَّ البقاع الخضراء والأراضي البِكر المواجهة للجبل الشامخ الذي يطل من أحد سفوحه (أبو العصافير). التحولُ الذي طال هذه المدينة الجميلة ، تحولٌ في كل شيء، وأهمه القيم ، فلم تعد ثمة إلا قيم الابتذال التي لم تكن تعرفها :جشع وغش ومكر وخداع وسيادة علاقات تقوم على الانتهاز والربح السريع والاتجار القائم على الغبن والغش في المجالات التجارية والمرافق السياحية. أين ذهبت بركة أوليائها الصالحين وإشعاع مساجدها وزواياها التي تمتلئ بها المدينة ؟ . لقد كانت شفشاون أكثر اتساعا من الدار البيضاء كما قال أحد حكماء المدينة الشعبيين. وكانت وطاء الحمام أوسعَ من أكبر ساحة فيها. ثمة معالم انعكست في الوجدان في مرحلة طفولتنا وصبانا محتها يد التغيير والهدم. أين الرَّحى المائية الجميلة البسيطة بالصَبَّانين القريبةِ من بيت عمنا الرجل الطيب الوقور سيدي الحَسَن التهامي العلمي رحمه الله.. ؟ كانت تلك الرحى أيام صبانا تحفةً فنيةً ، ومصدراً للرزق وتمكينِ السكانِ من طحن حبوبهم التي كنا فيما بعد نراها وقد صارت بعد الطحن والعجن بأيادي الأمهات الكريمة ، خبزا محمَّرا يتصاعد منه البخار لخروجه توا من الفرن القريب من سور القنطرة القصير، وقد حملته أيادي صغيرة لأطفال وطفلات الحومة. ما أشد حنيننا إلى هذا الفضاء الجميل ، وهذه الأجواءُ الحميمية التي عدنا نفتقر إليها في توأم مدينة غرناطة الأندلسية. من حقنا أن نستعيد ذكرياتِنا فيها، ونعبرَ عن حنيننا إلى ماضيها الحضاري العريق. إننا نؤمن بالتطور والتحولات التي تطرأ على الأماكن عبر الزمن ، لكننا نتساءل : لماذا لا يكون هذا التطور وهذه التحولات إلى الأفضل والأجمل كما نرى في مدن مثلها في أقطار أخرى ، وبعضها ليس ببعيد عنا، لا يفصلنا عنه إلا بضعة كيلومترات في البحر ؟
عن جريدة " الشمال " ، عدد يوم السبت 25 فبراير 2023 .