أ. د. عبدالجبار الرفاعي - الكتابة بوصفها تجربة وجود

كتاباتي مرآة سيرتي الفكرية والروحية والأخلاقية، أكتب تجربتي في الكتابة كما تذوقتُها بوصفها تجربةَ وجود. تجربة الوجود فردية، كلّ ما هو فردي ليس ملزِمًا لأي إنسان. أعيشُ الكتابةَ بوصفها أُفقًا أتحَقَّقُ فيه بطورٍ وجودي جديد. فشلتُ في أن أكونَ شخصيةً نمطية، أعرفُ أنِّي لا أنفردُ بذلك، كلُّ مَنْ تكونُ الكتابةُ تجربةَ وجود في حياته لا يمكن أن يكونَ نمطيًّا.
يفرض كونُ الكتابة تجربةَ وجود على الكاتب الذي يعيشها ألا يصغي إلّا إلى ندائها، ماخلا حضورَه فيها يغيبُ الكاتبُ عن كلِّ شيء ويغيبُ عنه كلُّ شيء. لحظةَ يبدأ الكاتبُ الكتابةَ تأخذه إليها، لا تدعه يفكّر إلّا في فضائها،كلّما حاول الهربَ قبضتْ عليه من جديد كيف كان، لا تتركه مالم يمنحها كلَّ ما يمكن من ذكائه وقدراته الكامنة وصبره الطويل. الكاتبُ الذي يعيشُ الكتابةَ بوصفها تجربةَ وجودٍ تمكث حياتُه الخاصة مؤجلةً على الدوام.
عندما أكتبُ أقعُ في أسرِ ما أكتبُ، كأني أسافرُ بسيارة تتيه في صحراء ليلًا، ‏أحيانا أتخبطُ وأحيانا أهتدي، يكشفُ لي التخبطُ دروبًا لم أعرفها من قبل. ‏ليست لدي قواعدُ مُلزِمة للكتابة، ولا طقوس مفروض عليّ أن أخضع لها، ولا برنامج أُكره نفسي على الانصياع له، ولا خارطة رسمتُها أنا أو رسمها غيري. لا طقوس أتباهى بها في الكتابة، لا طريقة خاصة أو عادة مستحكِمة، لا أوقات صارمة دقيقة منضبطة. أعيش الكتابةَ بوصفها تجربةَ وجود أحقّقها وأتحقّق بها، أتذوقها كما يتذوق كلُّ إنسان تجربةَ وجود للذات. تجربةُ الوجود هذه شائقةٌ وشاقة، طالما وقع الكاتب المفتون بصنعته في أسرها، ولفرط اندكاكه بها ليس بوسعه الفكاكُ منها والذهابُ إلى غيرها، مهما كان اغواءُ الصنعة الأخرى ومهما كانت مكاسبُها.
‏ أكتب قناعاتي لحظة الكتابة، ‏أحاول عندما أكتب أن أكون موضوعيًا، أعبر عن ذاتي كما هي بحياد ‏ما أمكنني ذلك. أعرف أن ‏الإنسانَ عندما يتحدث عن الذات حيادُه صعبٌ جدًا. ‏الإنسان كائنٌ بارع في إخفاء عيوبه وثغراته، والتكتم على مواطن هشاشته ووهنه. أعجز عن أن أكونَ كاتبًا تحت الطلب أو تكونَ كتابتي سلعةً معروضة للبيع، فشلت أن أكونَ شخصيةً آلية، أعرفُ أني لا أنفردُ بذلك،كلُّ مَنْ تكونُ الكتابةُ تجربةَ وجود في حياته لا يمكن أن يكونَ كائنًا آليًا، تتسم كلُّ تجربة وجودٍ بفرادتها. في ممارسة الكاتب للكتابة يرى ذاتَه كلّ مرة بطورٍ وجودي آخر، لا تستنسخ أطوارُ وجوده الآتية أطوارَه الماضية. أحيانًا يكتب الجرح، كتابةُ الجرح أعمقُ تجارب الكتابة وأوجعُها وأغزرُها معنىً، عندما يكتب الجرحُ يشفى الإنسان.
يسعى الكاتبُ المبدع على الدوام أن يعثر على صوتِه الخاص، ولغتهِ الصافية، وطريقهِ الذي لا يمرّ عبر طريق غيره، طريقه الذي لا يوصله إلى نهايات مغلقة. لا يمكن للإنسان اكتشافُ الطريق حين يقاد كأعمى. هدفُ الكتابة أن يتلمس الإنسانُ الضوءَ الذي يدله على الطريق، وفي هذا الضوء يرسم خارطةَ الوصول إلى ما ينشده بأقرب الطرق. مَن يعجز عن اكتشاف طريقه بنفسه يعجز عن الإبداع. عندما يقودك دليلٌ يعرفُ الطريقَ من دون أن تكتشفَ أنت الطريق، تضيّع أثمنَ تجربة اكتشاف في حياتك، وتصبح كأنك معاقٌ يسير بغير أرجله.
لا ‏أتقيّد بخطة في الكتابة، ولا أقيّد طلابي الذين أشرف عليهم في الدكتوراه والماجستير بخطة صارمة، أقول لكلٍّ منهم ‏مارس اجتهادَك في كلِّ شيء، ‏في الكتابة، وفي رسم الخطة. في أثناء الكتابة ربما تستجدّ لديك أفكارٌ ثمينة وتظفر بمعطيات إضافية، حاول أن تضيفَ أو تحذف، حاول تبتكر، تعلّم التفكيرَ الحرّ، تمرّن على أن تناقش ما تقرأ مهما كانت مكانةُ مَن تقرأ له. ليس المهم أن تكون خطتُك كسكة قطار لا تحيد عنها. ‏الخطةُ الجيدة خارطةُ طريقٍ أولية تتوسع أو تتقلص أو تُستبدَل، حاول البحثَ عن الاختلاف أكثر مما تعمل على الاستنساخ، حاول أن تفكر بعمق أثناء الكتابة، وراجع أكثر من مرة ما كتبتَ بهدوء وتأمل فيه بدقة. اكتب وأنت تستحضر آراءَ القراء النابهين ومواقفَهم من كتابتك.
عندما أكتب أفكر كثيرًا بالقارئ، وإن كنتُ أكتب لنفسي قبل الكتابة للقراء، أخاطب نفسي قبل مخاطبة القراء، وأعلّم نفسي قبل أن أكون معلّمًا لأحد. أحاول البحثَ عن إجابات لأسئلتي الوجودية، واكتشافَ حلول لمشكلاتي الفكرية، عسى أن ينكشف لي النورُ الذي يضيء خارطةَ النجاة. يهمني أن أكتشف نفسي قبل أن أكتشف العالم، وأغيِّر نفسي قبل أن أغيّر العالم. أحاول أن أعبّر عن ذاتي كما هي عندما أكتب، أسعى بحماسٍ لأن يكون ما أكتبه وأتحدث به خلاصةَ تأملاتٍ عقلية، وتعبيرًا عن خبرةٍ روحية وحياةٍ أخلاقية. أحاول كتابةَ اكتشافاتي لذاتي، والاعترافَ بثغراتي، ومواطنِ هشاشتي، والتمرينَ على شجاعة الإعلان عن أخطائي، لعل الإعلانَ عنها يشفيني من مواجع الندم ويحرّرني من تكرارها، يهمني البوحُ بشيءٍ من جروحي الغاطسة عساني أطفئ جمرتَها بداخلي. مشغولٌ على الدوام برحلتي في أعماق نفسي، واستكشافِ ما هو غاطسٌ في ذاتي. هذه الرحلةُ لا تتوقف، ولا تصل نهاياتِها المغلقة، ولن تبلغ قاعًا أخيرة.كلُّ يوم يتكشفُ في هذه الرحلة الأبدية ما كنت أجهله عن ذاتي، وعن الناس من حولي، وما لا أعرفه من غموض الشخصية الإنسانية وتناقضاتها.
مَن يقرأ كتاباتي بوسعه أن يرحل معي ويطلع على شيءٍ من محطات حياتي. تدور كتاباتي في آفاق سيرتي الذاتية، أحاول كتابتها بلغة صافية، وأبوح فيها بما يمكنني الإعلانُ عنه، وكأنها لوحةٌ نسجتْها أقداري وآلامي ومواجعُ حياتي. ‏أحاول التحدثَ فيها عن شيءٍ من ضعفي قبل قوتي، وهشاشتي قبل صلابتي، وجهلي قبل علمي، وعواطفي قبل عقلي، ‏وأسئلتي قبل أجوبتي. أحاول الإعلانَ فيها عن شيءٍ من إخفاقاتي قبل نجاحاتي، وضعفي قبل قوتي، وقلقي قبل سكينتي. أكتب لنفسي قبل غيري، أحاول أن أكونَ منقِّبًا ‏أكتب لأغوص في عوالم الذات. ‏الكتابة الجيدة تتكشف فيها سيرةُ الذات وأطوارُها الوجودية، كلُّ كتابة تعبّر عن تجربةٍ معيشةٍ للكاتب تكون شائقةً بمقدار ما هي شقيّة، مريرةً بمقدار ما هي عذبة.كتاباتي سيرةٌ ذاتية لما تراكم من تجارب وجروح مريرة وخبرات مختلفة عشتُها عبر محطات حياتي المتعدّدة والمتنوعة.
يخطئ من يتوهم أن كاتبَ هذا النصّ يدلي بتوصيات جاهزة لتدريب الكتّاب وتوجيه القرّاء. لا أقدّم أية توصيات، لستُ وصيًا على عقل أحد، يهمني تحريرُ العقل من الوصايات مهما كان القناعُ الذي تتلبس به، ومهما اتخذت لها من تسميات. الكتابةُ الجادة تتطلب ذاتًا صبورة، وعقلًا يقظًا، وإرادة شجاعة، وضميرًا أخلاقيًا حيًّا، وتراكمًا لقراءات نوعية، ومِرَانًا متواصلا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى