د. محمد عباس محمد عرابي - قصائد الآباء عن الأبناء (قصيدة الأميري و الغدير أنموذجًا )

للأبناء مكانة عظيمة في نفوس الآباء فهم فلذات الأكباد التي تسير على الأرض، وعن مشاعر الآباء نحو الأبناء كتب الشعراء قصائد فريدة ودرر ثمينة، ومن هؤلاء الشعراء: الشاعر عمر بهاء الدين الأميري، والشاعر الدكتور حيدر الغدير.
وفي هذا المقال وقفة تعريفية بأبرز قصائد الأميري والغدير عن الأبناء نعرضها على النحو التالي:
القصيدة الأولى: "قصيدة شوق أب لأبنائه للشاعر عمر بهاء الدين الأميري (رحمه الله) والتي قالها عند فراق أبنائه وابتعادهم عنه بالسفر والزواج وتركه في وحدة شعرية ،وقد مدحها الأديب عباس محمود العقاد أيما مدح قائلا : "لو كان للأدب العالمي ديوان لكانت هذه القصيدة في طليعته فهذه القصيدة تعد من درر الأدب الإنساني العالمي استطاع الأميري فيها أن يصف وبدقة ما يضفيه الأطفال ببراءتهم في صغرهم من أجواء الحيوية والحركة على المنزل في تجربة شعرية صادقة بعيدة عن الخيال والصور البلاغية المصطنعة حيث أبلغ الواقع المراد يقول الأميري في قصيدته الشهيرة
أين الضجيجُ العذبُ والشَّغَبُ؟
أين التَّدارسُ شابَهُ اللعبُ؟
أين الطفولة في توقُّدها؟
أين الدُّمى، في الأرض، والكتب؟
أين التَّشَاكسُ دونما غَرَضٍ؟
أين التشاكي ما له سبب؟
أين التَّباكي والتَّضاحُكُ، في
وقتٍ معًا، والحُزْنُ والطَّربُ؟
أين التسابق في مجاورتي
شغفًا، إذا أكلوا وإن شربوا؟
يتزاحمون على مُجالَستي
والقرب منِّي حيثما انقلبوا
فنشيدهم “بابا” إذا فرحوا
ووعيدهم “بابا” إذا غضبوا
وهتافهمْ “بابا” إذا ابتعدوا
ونجيُّهمْ “بابا” إذا اقتربوا
بالأمس كانوا ملءَ منزلنا
واليومَ -ويح اليومِ- قد ذهبوا
ذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنهمْ
في القلب، ما شطّوا وما قَرُبوا
إني أراهم أينما التفتت
نفسي، وقد سكنوا، وقد وثبوا
وأُحِسُّ في خَلَدي تلاعُبَهُمْ
في الدار، ليس ينالهم نصب
وبريق أعينهمْ إذا ظفروا
ودموع حرقتهمْ إذا غُلبوا
في كلِّ ركنٍ منهمُ أثرٌ
وبكل زاويةٍ لهم صَخَبُ
في النَّافذاتِ، زُجاجها حَطَموا
في الحائطِ المدهونِ، قد ثقبوا
في الباب، قد كسروا مزالجه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصَّحن، فيه بعض ما أكلوا
في علبة الحلوى التي نهبوا
في الشَّطر من تفّاحةٍ قضموا
في فضلة الماء التي سكبوا
إنِّي أراهم حيثما اتَّجهتْ
عيني، كأسرابِ القَطا، سربوا
بالأمس في “قرنابلٍ” نزلوا
واليومَ قدْ ضمتهمُ “حلبُ”
دمعي الذي كتَّمتُهُ جَلَدًا
لمَّا تباكَوْا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا
منْ أضلعي قلبًا بهمْ يَجِبُ
ألفيتُني كالطفل عاطفةً
فإذا به كالغيث ينسكبُ
قد يَعجبُ العُذَّال من رَجُلٍ
يبكي، ولو لم أبكِ فالعَجَبُ
هيهات ما كلُّ البُكا خَوَرٌ
إنّي -وبي عزم الرِّجال-أبُ” (1)
القصيدة الثانية: قصيدة "أبنيَّ كونوا" للشاعر الدكتور حيدر الغدير:
ففي قصيدته "أبنيَّ كونوا" المنشورة في العدد الأول من مجلة الأدب الإسلامي الإلكترونية (أكتوبر2010م) التي استهلها بقوله (إلى زهرات الحياة الدنيا التي أكرمني الله بها:أمامة ، معاذ ، أحمد ، محمد)،تحدث فيها عن أبنائه ،
وفيها بين بعض مظاهر عطاء الأب للأبناء، وصحبتهم وصداقتهم، وذكريات طفولتهم، والدعاء لهم تم ذكر ذلك في أربعة محاور، وفيما يلي ما قاله في ذلك :
أعطيتكم عمري وذوب شبابي وجعلتكم في العين والأهدابِ
وجعلتكم في النوم حلمي شائقا وإذا صحوت ففرحتي ورغابيِ
أحلى لديّ من الشهاد لقاؤكم ومن النعيم النضر والأكوابِ
أنشأتكم أن الهداية دربكم وبأنها شرف وعز جنابِ
وسقيتكم نسغ الرجولة والندى ومروءة عربية الأنخابِ
فجمعتم الدين القويم وعزة من طاهر الأخلاق والأنسابِ
***
و حبوتكم من أصدقائي عصبة كالشمس قد طلعت بغير نقابِ
أصفى من الماء الزلال قلوبهم أما العقول فأكرم الألبابِ
جعلوا هموم المسلمين همومهم واستمرؤوا في الله كل عذابِ
وهم السيوف ولا أغالي والقنا وهم الصقور ولست قط أُحابي
من كل ميمون النقيبة أروع وأخي فداء في الوغى وثابِ
أنتم بهم أدرى فقد ملؤوا الدنى بالفضل والإيثار والأطياب ِ
أسماؤهم كصفاتهم محفورة في الخافقين وما بها من عابِ
جلّوا بما فعلوا وزان جلالهم كرم الخصال وروعة الأحسابِ
أدّوا وقد عشقوا العلا أثمانها من بذل أموال وطعن حرابِ
أوفوا لها فوفت لهم ثم انثنت تزهو بهم في محضر وغيابِ
ودروبها معلومة فدمٌ هنا وهناك صعب ينتهي بصعابِ
كانوا صحابي ثم صاروا صحبكم وحنوا عليكم مثل دوح الغابِ
ورأوا بكم ما شِمْته ورجوته من معدن عال وحسن خطابِ
فتنافسوا في حبكم وتواضعوا فإذا بكم كالروض إثر سحابِ
وغدوا لكم وهم النجوم رفاقكم والأنفس الأغلى من الأترابِ
هذا بتطوان ، وذاك بجدة وأخ بمدريد فسيح رحابِ
وأعد كَلاّ، لن أعد فإنهم أزهار بستان ونور شهابِ
***
وتعود بي الذكرى لأيام خلت كنتم بها عطر الربيع السابي
كنتم بها الزغب الصغار أُحبّهم في هدأة ندرت وفي التصخابِ
في ودهم وعنادهم وخصامهم ورسومهم في الأرض والأبوابِ
وسباقهم نحوي وفي قبلاتهم ويديّ إذ تمتد بالألعابِ
وسؤالهم أين البقية يا أبي أنسيتها فأظل دون جوابِ
وأكون فيهم قاضيا ومحاميا وأكون خصما دونما أسبابِ
وأظل بين هرائهم وبكائهم وحطام ماغنموا من الأسلابِ
أقضي وأنقض ما قضيت فإنني أخشى هياج مشمرين غضابِ
ولربما اجتمعوا عليّ عصابة تفتن في كيدي وهم أحبابي
وأمامة وهي الذكية رأسهم تقتادهم نحوي تريد غلابي
تومي لهم فإذا بهم طوع لها وكأنهم غنم عنت لذئابِ
تمشي بهم محبورة مغرورة في زهو طاووس ومكر غراب
وأناالسعيد بمكرهم ودلالهم وتخابث يمضي بدون عقابِ
ولربما أقسو وقلبي راحم وألين حتى ما يبين عتابي
ولربما كنت النصوح وربما أغضيت ثم مضيت كالمتغابي
ولربما كنت العبوس لعلهم يخشونني أو كنت كالمتصابي
ولربما طمعوا فكنت مطية تعدو كما شاؤوا وهم ركّابي
ولربما طال التشاتم بيننا ما بين إغضاب وبين دعابِ
وأسبهم من دون ذنب مرة كيما يسبوني بدون حسابِ
وكأنني إذ يشتموني سامع لحنا من (الموجيِّ) أو(زريابِ)
والناس حولي يعجبون لفرحتي لمّا رأوني أستطيب سبابي
لا تعجبنّ فللبنوّة فرحة مجلوّة بروائها الخّلابِ
***

أبني أنتم من أقام بمهجتي ودمي وفي خلدي وفي أعصابي
أحببتكم حبا كأنفاس الربا والطيب يعبق من فتيق ملابِ
وجعلتكم أنى مضيت مشاغلي وذخائري في الحل والتجوابِ
أدعو لكم منذ اكتحلت بنوركم في خلوتي أو صبوتي ومتابي
حتى الملائك يعجبون لرؤيتي أدعو وأسرف في الدعاء لما بي
من حرقتي ومخاوفي ومطامعي و رغائب الموعود لا المرتابِ
وألحّ إذ أدعو وأرجو أن أرى فيكم معالي همة وصوابِ
وتفوقا يمضي فيستبق المدى فالمجد للمقدام لا الهيابِ
لا تقتلوا أملي فأرجع خائبا أجتر بين الشامتين مصابي
ولقد يهي بين الصحاب تجلّدي فأعود محسورا على أعقابي
وتضيع ما بين اللئام كرامتي من كاره قالٍ ومن مغتابِ
إني خطبت لكم ذؤابات العلا ومفاخر الأعمال والآدابِ
فرنت إليكم وهي جذلى تزدهي وتقول في عجل أتى خطّابي
كونوا لها أهلا فقد رضيت بكم والمَهْر صبر العازم الأوابِ
فصباحه دأب يراه هناءة ومساؤه الإخبات في المحرابِ(2)
ويمكن القول في الختام أن هاتين القصيدتين لهما من الدرر الشعرية التي تجسد مشاعر الآباء نحو أبنائهم، جزى الله الآباء عن الأبناء كل خير، وبارك الله في الأبناء ووفقهم وحفظهم .



(1)

(2)مجلة الأدب الإسلامي الإلكترونية العدد الأول أكتوبر2010م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى