سي مختار حمري - اضاءة على "محراب الماء" للشاعرة خيرية صابر

النص: للشاعرة خيرية صابر

محراب الماء
.............
الزمن يخلع نعليه
ليخطو حثيثا الي محراب الماء
وأنا دهشة وجلة
مكورة بين عينيه
الماء مموسق بوريقات النور
فيصير كرستالات البهاء السرمدي
تترقرق فيه خطي الانبياء
.......
يصاعد كل كياني
فأصير حواس بلا جسد
هنا نهر مترع بالقلق
يمد أكفه علي مربع
ليهدهد الصغير
يواشج ماءه الدمع

فيستحيل اغنية
تطرب لها اعراس الجنان
و قلب يتخلي عن فؤاده
ليمتطي شهقة بطول الضفاف
بينما يحرك الصغير اصابعه
فترسم شموسا
ويفوح النيل مجدا
.......
ما زلت اتعقب انفاس الماء
كأني ما تأخرت عن الصحاري والنداءات
ورنين خطي امراة
تسابق الذعر في كل اتجاه
تمد قلبها للسماء
لن يضيعنا الرحمن
أكاد الامس صرخات قمر
اختزنها الفصاء
وأشم روح النبع في الافاق
فأسلم بعضي للبئر
وبعضي للجبال
................................


الاضاءة : سي مختار حمري


العتبة النصية :
بمجرد معاينة النص يوقفنا العنوان المدهش لندخل في "حالة تأمل" تفضي بنا الى التوقف طويلا امام الجملة المكونة من لفظين "محراب الماء " كلمتين خفيفتين في النطق والشفاه ثقيلتين في القلب والميزان الفكري لهما شحنتين طاقيتين كبيرتين ، المحراب : مرتبط مباشرة بالمقدس له شحنة لا حدود لها في المعاني ، الدلالات ، الاعماق الروحية ،الفكرية ،العرفانية ، تهم عموم البشر فلكل جماعة محاربها ومقدساتها
الماء : مرتبط بالبعد الديني الروحي وهو اول تصور بزغ لنا في العنوان فالماء كلي القدرة { وجعلنا من الماء كل شيء حيا } ( الانبياء : 30)الماء مرتبط بالحياة فلا حياة بدون ماء مرتبط ايضا بالجغرافية في المساحات المائية : (البحار ، الانهار، السدود والبحيرات ) مرتبط بالنقل فعبره تنقل السفن البضائع لكمل اصقاع العالم وبكميات ضخمة ...
الماء في الشعر صفته قوة قدسية ، قوة وطاقة ، هو مرآة عاكسة ، دلالة على الحب الالهي ،عن الشوق والعشق ... يضاف لذلك ا هميته المادية فهو يروي عطش الكائنات يسقي الزرع ويملأ الضرع ويجعل من الارض جنة فيحاء تجلب النظر وتجود بالخيرات وبالاخضرار....
صدى العتبة في النص :
جاء ذكر الما ء في النص اما مباشرة ، او مرتبطا بما هو مقدس
محراب الماء// عينيه //الماء مموسق //وريقات نور //البهاء السرمدي //تترقرق//نهر //ماءه الدمع //الضفاف // النيل //انفاس الماء // النبع //البئر
وبالتالي جاء كقوة وكطاقة روحية تتمثل في جريان النيل والنهر تحث على الحركة لادراك حالة روحية فكرية واقعية تتميز بالسمو النفسي والاخلاقي والروحي
وجاء معبرا عن الحزن في (ماؤه الدمع /وعينيه / انفاس الماء )
وبالتعبد والمقدس في (محراب الماء/ تترقرق/ )
ومرتبط بالاسرار في (البئر) الذي يعبر عامة عن السر الدفين سواء في الذاكرة الشعبية او الشعر ..
يعكس الماء الشوق في (ضفاف) والبحث عن الاصول الصافية النقية في (النبع )
المقدس جاء في : محراب // النور // السرمدي // الانبياء // الجنان //السماء //الرحمن //البئر ....
البؤر التناصية الخارجية
رصدنا عدة بؤر في النص تؤثث نسيجه الداخلي يمكن ربطها بتناص خارجي بالغ الاهمية في فهم النص وتفجير معانيه ودلالاته المتخفية وراء حروفه
--التناص مع قصة هاجر وابنها اسماعيل عليه السلام في (( لن يضيعنا الرحمن ))
--مع قصة يوسف عليه السلام في (( فاسلم بعضي للبئر))
-- مع قصة موسى عليه السلام في في (( بعضي للجبال )
هذا على سبيل المثال لا الحصر فهناك مستويات اخرى يمكن رصدها في النص لكن بما ان العتبة وما توصلنا له من قراءة استشرافية يصب في قالب المقدس اثارت انتباهنا هذه البؤر

هذا مختصر خطاطة تحليلية سيميائية مستقاة من قراءة أولية للنص التي ستشكل عكازا نتكىء عليه لمزيد من التعمق والتحليل لإظهار مايزخر به التص من فكر ورؤى شعرية

النص :
الزمن يخلع نعليه
ليخطو حثيثا الى محراب الماء
وانا دهشة وجلة
مكورة بين عينيه
الماء مموسق بوريقات النور
تترقرق فيه خطى الانبياء
رغم قوة وجبروت الزمن فإنه يتواضع ويخلع نعليه احتراما لقدسية المكان وليخطواتجاه محراب الماء رمز الامان والمقدس وفي دهشة وخشية ورهبة تجلت في انسنته في رؤية شعرية جعلت له عينان يمكن التموقع بينهما في نظرة تأملية للماء في سيولته وجريانه والنور ( نورالعقل والوجود ) ينبعث منه وفي رقرقته تتجلى خطى الانبياء طريق السلف الصالح القويم والموصل لرضا الله وانبيائه

يصاعد كل كياني
فاصير حواسا بلا جسد
هنا نهر مترع بالقلق
يمد اكفه على مربع
ليهدهد الصغير
يواشج ماءه الدمع
يملىء الماء كل الكيان بطريقة تصاعدية ما يوحي بامتلاء القلب بالايمان ، وتزداد شدة الشعور به لتنطفئ الشهوات والغرائز الجسدية الحيوانية وتتحول الشاعرة الى مجرد حواس مستقبلات المشاعر(ذات شاعرة ) رمز الفكر النابض الاصيل المتحرك في سيولة ماء النهر الذي يشكل قلقلا كبيرا في الواقع المعاش "كنهر حقيقي" تتوقف عليه حياة الكائنات الحية وكفكر يسري في المجتمع يسبب قلقا وجوديا نظرا لاهميته فهو من يمد اكف الحنان والرحمة لينقذ البلاد والعباد ... ويتم اللجوء والتضرع لله ليهدا من روع "الصغير"في رمز للانسان البريء الطيب ، الضعيف ،الفقير ماديا أوالفقير لله والذي تشابكت وتداخلت هموم قلبه بدموع عينيه وهو في حاجة لأن يمسح النهر قلقه باكف من ماءه ...
فيستحيل اغنية
تطرب لها اعراس الجنان
وقلب يتخلى عن فؤاده
ليمتص شهقة بطول الضفاف
بينما يحرك الصغير اصابعه
فترسم شموسا
ويفوح النيل مجدا
يتحول النهر الى اغنية تطرب لها الارض والحقول والحدائق والحياة ويتم الاخصاب في رمزية الاعراس والجمال الطبيعي في الجنة فيتخلى القلب عن فؤاده الذي يمكن اعتباره موقع منشا العقيدة الضالة الفاسدة ، ليحقن بجرعة اوكسجين بحجم الضفاف بلا حدود ولا نهايات فيحرك الناس البسطاء الابرياء اصابعهم رمزا للعمل والاندماج في البيئة فتحدث المعجزات وترسم شموسا دلالة على مسنقبل زاهر مشع بالرفاهية والمحبة والاخاء فينهض النيل من سباته في رمزيته الحضارية ليعم المكان الخير والسلم والامان ويبنى مجدا جديدًا يليق بما عرفته البلاد من حضارة متجدرة في عمق التاريخ سبقت لها جل امم المعمور ..

مازلت اتعقب انفاس الماء
كاني ما تاخرت عن الصحاري والنداءات
ورنين خطى امراة
تسابق الذعر في كل اتجاهة
تمد قلبهاللسشماء
لن يضيعنا الرحمن
اكاد الامس صرخة القمر
اختزنها الفضاء
واشم روح النبع في الافاق
فاسلم بعضي للبئر
وبعضي للجبال
هناك اصرار على تتبع انفاس الماء المتمثل في خطى الانبياء والسلف الصالح والذي يطمئن النفس بالشعور بالامن والامان ويجعل المخيلة تشعر وكانها كانت تروي جفاف الصحاري والقلوب والافكار المتجمدة بدون توقف او هوان وكانت تصغي للمنادي اذا نادى تلبية لطلباته وتتبع رنين خطى امراة بسيرة طافحة بالحكمة ودماثة اخلاق و جمال الفكر المبدع والطيبوبة رغم ان الذعر يحاصرها اينما ولت وجهها فتمد قلبها الى السماء متضرعة بالدعاء لله تدعوه ان يغير الاحوال الى الافضل ليسود ضياء الفجر وترحل ظلمة الليل الطويل
تقول (( لن يضيعنا الرحمن )) في تناص مع القرآن الكريم { ربي اني اسكنت من ذريتي بواد غير دي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلوات فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون }( ابراهيم :37)
قالتها هاجر زوجة ابراهيم ام اسماعيل عليهما السلام حين تركها زوجها في واد غير دي زرع استجابة لامر الله حدث ذلك عندما ادبر وتركها ورضيعها وحيدين في الفيافي والعراء ووبعد ان الحّت عليه في السؤال عن سبب تركه لها ، لاذ بالصمت ولم يلتفت لها قالت : الله امرك بهذا ؟ فاجاب اخيرا : نعم… فجاءت قولتها الخالدة والمؤثرة في النفس حد البكاء كلما تم التعبير عنها تهب النفس من سباتها في شجن عميق لتلبية النداء .. قالت : ((إذن لن يضيغنا الله ابدا )) وكان الابتلاء شديد الوقع نفذ الماء منها وجف الثدي وعلى صراخ الرضيع فصارت من حرقة قلبها على صغيرها وقلة الحلية والامكانيات وانسداد افق النجاة تمشي ذهاب وايبة بين ما اصبح فيما بعد الصفا والمروة لتنزل رحمة رب العالمين في معجزة ربانية تفجر بئر زمزم لتشرب ورضيعها ويمتلا الثدي ويشبع الرضيع وتهدا نفسيهما وتهوي افئدة الناس اليهم وتخلّد هاجر الى جوار الانبياء بصبرها وكفاحها…
تعود الشاعرة الى البوح بانها تلامس صرخة قمر ربما هي صرخة هاجر التي لازلت ترن في الكون ويلتقطها اصحاب القلوب الطيبة او هي شكوى انسان مظلوم او رؤية شعرية تاملية تخترق الفضاء تجعل النفس تحس بقرب انبثاق نبع صاف نقي اصيل .يروي عطش الناس الروحي ، الفكري والمادي .. ويسود الرخاء والهناء والسكينة في تناظر مع قصة هاجر …
تسلم الشاعرة في القفلة بعضا من نفسها للبئر رمز السر والاسرار والتواضع وربما تيمنا بقصة يوسف عليه السلام الذي رماه اخوته في الجب بدافع الحسد فصبر على البلاء فهيأ الله له مخرجا من لدنه وطريقا للصلاح والفلاح وكان له شان عظيم بعد ان كاد يبتلعه بطن جب مهجور لا يزوره الا بعض السيارة بين الحين والاخر بشكل متقطع : { قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف والقوه في غياهب الجب يلتقطه بعض السيارة ان كنتم فاعلين }(يوسف: 10 )
والبعض الاخر اسلمته الشاعرة للجبل رمز الرفعة والكرامة والعفة وتلبية لنداء الحق سبحانه في تناص مع قصة موسى عليه السلام مع الجبل حين طلب ان يرى الحق سبحانه ليطمئن قلبه : {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال ربي ارني انظر اليك قال لن تراني ولكن انظر الى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما افاق قال سبحانك تبت اليك وانا من المؤمنين } ( الاعراف : 143 )
قفلة تضعنا بين بئر يوسف الذي نادى ربه وهو في ظلمة البئر ليجد له مخرجا وبين موسى الذي قال ربي سبحانك تبت اليك وانا من المؤمنين بين دعاء مظلوم وتوبة مؤمن
قفلة تدعو للصبر على البلاء وكتمان السر في بئر عميقة والتوبة لله والايمان بقدره وقضائه ومعجزاته …
نص عميق الدلالات والعبر لمن يعتبر يعبر عن روح وقلب طيب يفيض بالايمان والجمال والبهاء يحب السلام و يتوخى الراحة النفسية والخلاص في العالمين ….
تحية تقدير واحترام شاعرتنا المبدعة الفذة

سي مختار حمري 10 مارس 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى